جميل حمداوي - المستنسخات النصية..

تعتبر المستنسخات من أهم المكونات الخطابية في النص الأدبي ولاسيما في النوع الروائي لما لها من إيحاءات دلالية ووظيفية وأبعاد فنية ومرجعية. كما أنها تشكل القطب المعرفي في الخطاب الروائي وقطبه الجمالي مما تجعل المتلقي في حاجة إلى المعرفة الخلفية وخطاطات ذهنية ومدونات وسيناريوهات مفاهيمية لتفكيك الرواية وتركيبها. إذاً، ما هي المستنسخات النصية؟ وما هي أهم تمظهراتها النصية؟ وما أهميتها الوظيفية؟ وماهي أهم الكتب التنظيرية والتطبيقية في هذا المجال؟ وكيف تعامل معها الخطاب الروائي؟ وما طريقة مقاربتها داخل النص الروائي أو القصصي؟
يمكن تعريف المستنسخات النصية بأنها عتبات نصية خارجية وداخلية ترد في شكل تيبوغرافية لغوية وبصرية بارزة وعادية للإحالة والتضمين والإيحاء والإشارة إلى خلفيات النص وما وراء الرسالة الإبداعية التي لا تخرج عن كونها خطابا تناصيا قائما إما على المحاكاة المباشرة أو غير المباشرة وإما على الحوار والمستنسخ التفاعلي. وتصاغ المستنسخات Clichés بطريقة فنية وجمالية، وتستند إلى الاقتباس والتضمين والامتصاص. أي إن هذه الكليشيهات عبارة عن قوالب وأشكال أدبية جاهزة تستثمر في الإبداع الروائي على سبيل الخصوص توليدا وتحويلا لإثارة المتلقي وتشويقه على مستوى القراءة والتقبل الجمالي والفني. ويعني هذا أن خطاب المستنسخات هو خطاب المصادر والمرجعيات والتأثير والتأثر الإحالي وتحديد منابع القراءة. وبتعبير آخر، يقوم خطاب المستنسخات على تأشير الكلام المعاد وتسوير المستنسخ وتبئير بلاغة التكرار وقوالب التناص والمحاكاة والتحويل النصي والتعديل المقولي والإيجاز والتلخيص والتكثيف الاقتباسي فضلا عن استحضار خطابات متعددة ومتنوعة على مستوى المعرفة الخلفية لتحفيز القارئ وإثارته وتوهيمه ودفعه إلى استدعاء رصيده الفني والثقافي والموروث في قراءة المقروء وإعادة إنتاجه في ثوب جديد حسب النوع الحكائي الذي يندرج فيه. ويعرفه الدكتور سعيد علوش قائلا: "يطلق المستنسخ و (الكليشي) و (الروسم) على مسمى واحد، ليغطي: أ- العالم التيبوغرافي، ب- الصور السالبة في الفن الفوتوغرافي، ت- فن بلاغة التكرار والقوالب والأشكال الأدبية الجاهزة. و (خطاب المستنسخات)، هو خطاب يعيد إنتاج التراثي، مستحدثا، ومخضعا إياه، إلى سياق معاصر." (1)
ويتجلى المستنسخ النصي في المقتبسات والمحاكاة والتناص والتعابير المسكوكة والرموز والإحالة والتضمين والاقتباس والأمثال والشعارات والقصاصات الصحفية وخطاب الإعلام والحكم والأمثال والهوامش وأسماء الأعلام والاستهلال والإهداء والعناوين والأسطورة والأسماء المرجعية كالأسماء الفنية والأدبية والتاريخية والعلمية والفلسفية... واستثمار الشاهد الشعري والنثري والتجنيسي... ومحاكاة القوالب الجاهزة للأنواع الصغرى والكبرى والتهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة. ويتم الاستنساخ النصي كذلك من خلال التركيز على نوع من الإيهام بإنشائية تستلهم أصول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشاهدات والرسائل بالإضافة إلى تنويع القوالب التناصية وتكسير الإيهام الروائي من خلال تداخل الأزمنة وتنويع الضمائر وتداخل المحكيات وتجاورها. وهذا ما يمكن الكشف عنه أثناء ملاحقة خطاب المستنسخات وجدلية اللعب بالرموز والعلامات الإحالية والمرجعية والمواقف والشخصيات.
إذاً، فخطاب المستنسخات هو بحث عن الكتابة في الكتابة وكشف لجامع الأنواع ومكونات التخييل ومستضمرات الإبداع وخفاياه وتحديد لمسوداته ومخطوطاته المنسية عبر تذويب النصوص وإماتتها تناصيا. (2)
وللمستنسخات النصية أهمية كبرى في بناء النص وتوليده وتحويله وتمطيطه وتحبيكه دراميا وحكائيا من خلال استعمال الكلمات- المفاتيح والمفاهيم الإحالية والعلامات السيميائية اللغوية والبصرية والإشارات الانزياحية والرموز الدالة وإثراء النص بالمعرفة الدسمة والثقافة الذهنية التي تحتاج إلى متلق ذكي قادر على قراءة شفرة النص وسننه التناصي. ويعني كل هذا، أن النص لم يعد كتابة إنشائية مجردة خالية من الفكر والأطروحات المعرفية والحقائق الثقافية؛ بل أصبح نصا غنيا يبني نفسه على أنقاض النصوص الأخرى عبر المحاكاة الحرفية أو الاستفادة الامتصاصية والاستشهاد المدعم أو عن طريق النقد والحوار والتناص التفاعلي. وهذا ما جعل رولان بارت R.BARTHES- السيميائي الفرنسي- ينفي وجود ملكية النص والأبوة النصية؛ لأن الكتاب والمبدعين يعيدون ما قاله السابقون بصيغ مختلفة قائمة على التأثر والتأثير، وهذا ما يسمى بالتناص حديثا وبالسرقات الشعرية في النقد العربي القديم.
ومن الدراسات التي حاولت أن تسبر أغوار المستنسخ النصي تفكيكا وتركيبا نذكر كتاب: Discours du cliché (خطاب المستنسخ) لروث أموصي Ruth Amoussy ووإليسيفا روزن Elisheva Rosenسنة 1982م، وكتاب سعيد علوش (عنف المتخيل في أعمال إميل حبيبي) سنة 1986م الذي درس فيه المستنسخ النصي وعوضه بمصطلح آخر، وهو (السياق التراثي) الذي أطلقه على "المكونات الخطابية للمستنسخ، وهي مكونات تعمل وفق نظام إحالي - مرجعي - على القوالب الجاهزة من جهة، والأشكال التداولية، من جهة ثانية."(3)
وإذا حاولنا دراسة المستنسخ في الرواية العربية الحديثة فيمكن لنا أن نخرج بثلاث قواعد للتعامل مع المستنسخ التناصي ألا وهي:
1 - قاعدة الإعادة أوالاسترجاع (التناص عن طريق المحاكاة المباشرة).
2 - قاعدة الإحالة الإيحائية (التناص عن طريق التحوير والإشارة الإحالية).
3 - قاعدة التناص التفاعلي أو الحوار النقدي.
كما أن هناك ثلاثة استنتاجات حول المستنسخ التناصي عبر تطور الرواية العربية على النحو التالي:
1 - الرواية الكلاسيكية:
لم تستثمر الرواية الكلاسيكية سواء أكانت واقعية أم رومانسية خطاب المستنسخ بشكل ثري وفعال في إثارة المتلقي وتحفيزه على استخدام الذاكرة والبحث والتنقيب في تفكيك الشفرة المعرفية والمرجعية للنص، بل كانت النصوص الروائية العربية الكلاسيكية نصوصا إنشائية تأملية مجردة تخاطب الوجدان والعاطفة والخيال المجنح من خلال ثنائية الذات (الرومانسية) والواقع (الواقعية)، وقلما تجد مستنسخا نصيا وإحالة تناصية. ومن ثم، نسجل إلى حد ما غياب المستنسخ النصي في هذا النوع من الخطاب الروائي.
2 - الرواية التجريبية:
يمكن القول بأن المستنسخ النصي بدأ مع الرواية الجديدة التي أكثرت من استعمال الشواهد والمستنسخات والكليشيهات التناصية والإحالية تأثرا بالشعر الحر مع بدر شاكر السياب وخليل حاوي ومحمود درويش ونزار قباني، وتأثرا كذلك بالرواية الغربية والنقد الأدبي المعاصر عبر تطور مدارسه مثل: الشكلانية الروسية، وخاصة ميخائيل باختين صاحب البوليفونية ونظرية التناص، وجماعة تيل كيل التي كانت تدعو إلى الانفتاح النصي من خلال التفاعل الإحالي. وما يلاحظ على هذه الرواية أنها اعتمدت على مستنسخ تناصي يغلب عليه الطابع الحداثي التغريبي من خلال التأثر بالرواية الغربية في البناء النصي سواء على مستوى تشكيل الجنس النصي أم على مستوى بناء النوع وصياغته تناصيا.
3 - الرواية التراثية أو التأصيلية:
لقد أثرت الرواية التأصيلية المتن الروائي العربي بكثير من المستنسخات التضمينية والخطابات التناصية ولكن في سياق تراثي عربي أصيل. ويعني هذا، أن هذه الرواية كانت تعتمد على التراث العربي بكل حمولاته الفكرية والدينية والأدبية والفلسفية في تشييد النص وتمطيطه فنيا وجماليا، كما أنها انفتحت على المستنسخات الغربية الحداثية في سياق تراثي حواري. ومن أهم النصوص التي نستحضرها في هذا الصدد: الزيني بركات لجمال الغيطاني، وجارات أبي موسى لأحمد توفيق ومجنون الحكم والعلامة لبنسالم حميش، والوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس لإميل حبيبي.
ولدراسة خطاب المستنسخ لابد أن نثبت بأنه خطاب يدرس الأنواع الكبرى والصغرى في العمل الروائي (جامع الأنواع)، ويعمل على تحديد مكوناتها وروابطها الأساسية التي تساهم في بناء النص عضويا وتوليده بنيويا وسيميائيا ودلاليا ومرجعيا عن طريق استخلاص شواهده الشعرية والدينية والتراثية والأسطورية والقصصية، واكتشاف القوالب الجاهزة للأنواع الصغرى وإعادة كتابة الأسماء الموظفة على المستوى الغنائي أو الشعري أو الروائي أو التاريخي مثلا، وبالتالي بلورة جميع الخطابات التناصية الأصلية والفرعية عبر الاشتقاق والاستنساخ.
ويتم التعامل أيضا مع خطاب المستنسخات من خلال تفكيك الرواية إلى وحداتها المكونة للنص، وتمييز خطابات الاستنساخ المتميزة والمتنوعة، وجردها في شكل أنماط وشواهد ومصاحبات أدبية ودراستها بعد ذلك إحاليا وآنيا، في سياقها المعرفي والمرجعي، وسياقها الفني والجمالي والأسلوبي قصد فهم كيفية بناء الرواية وتنظيم قواعد اللعبة الروائية الوهمية - الواقعية.
وعند دراسة المستنسخات، لابد كذلك من استحضار جميع البنيات المكونة للنص الروائي كالبنيات اللغوية والتركيبية والبلاغية والسردية والحدثية والمعرفية، واستعراض جميع التفاصيل والجزئيات التي ينبني عليها النص المستنسخ لمعرفة عنصري الغرابة والألفة فيهما. لذا لابد من معرفة السياق الذهني والنصي والخارجي الذي يرد فيه المستنسخ، هل هو سياق تراثي بحت أم سياق حداثي جديد؟! لأن هذا يحفز القارىء المتوهم على استذكار الرصيد التراثي والثقافي لخطابات المستنسخ التراثي.
وتعد رواية أوراق لعبد الله العروي (4) من أغنى النصوص الروائية المغربية وأثراها من حيث المستنسخ الإحالي والتناصي إلى الحد الذي يمكن تسميتها بأنها رواية تناصية بامتياز أو رواية المستنسخ النصي كتبت للتثقيف وتوسيع مدارك ذهن المتلقي. لذلك تدرج الرواية ضمن السيرة الذهنية الثقافية بسبب كثرة مستنسخاتها التضمينية التي يصعب استخلاصها وتحديدها بدقة، إذ تتحول اللفظة في الرواية إلى إشارات وعلامات تناصية تحمل دلالات إيحائية و أبعادا مرجعية غنية في حاجة إلى التفسير والتأويل.
ومن الخطابات التناصية التي وظفها العروي في نصه الروائي على سبيل التمثيل والتوضيح المنهجي نجد عدة مستنسخات نصية منها: المستنسخ الأدبي (الشيخ طه- الأجنحة المتكسرة- كان ياما كان- روني- زينب- أطعمة الأرض لأندريه جيد- هرمان هسه في ذئب الفيافي- مطولة بروست- راسين- ديدرو- ألف ليلة وليلة- الأقاصيص الآسيوية لغوبينو...)، والمستنسخ الديني: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض- زرادشت- دعوة الإسلام لمالك بنابي- جمعية الإخوان المسلمين...)، والمستنسخ التاريخي: (علال الفاسي- جمال عبد الناصر- مؤتمر إكس ليبان- أيام العرب- أرنولد طوينبي- أوسفالد شبينغلر- أزمة 1954-1955- اتفاق فرنسا وانجلترا حول المغرب سنة 1904- الحماية- عودة الملك من المنفى- أزمة 1953...)، والمستنسخ الفني (فيلم كل صباح أموت- فيلم القاتلون- كوليزي- شريط معذرة الرقم خطأ- المخرج جورج سادول- أندريه بازن- هنري آجل- إيلي فلور- روسلليني- فيسكونتي- جان رينوار- فيلليني- فلم سانسو...)، والمستنسخ السياسي (الحزب الشيوعي- علاقة الغرب والشرق- الإمبريالية- اليساريون- الاستقلال- الاستعمار- اليمين- الحزب الاشتراكي- الشيوعيون- النقد الذاتي..)، والمستنسخ التراثي (في نفس الطبقة صفي الدين أبو العلاء إدريس بن إدريس الأديب الأصولي...)،
والمستنسخ الفلسفي (شوبنهاور- أفلاطون- كانط- نيتشه- سارتر- ماركس- هيجل- هشام جعيط- هيدغر- سقراط- جيل دولوز- لوكاش- هنري لوفيفر- برغسون...)، والمستنسخ التجنيسي (المقامات- السيرة- كناشة- الطبقة- أقصوصة- رسائل- مذكرات- محاضرات- نقولات- قراءات نقدية- الحكاية- اليوميات- الرواية...)، والمستنسخ المكاني (جامع الفنا- السوربون- دار لوسوي- كنيسة شارتر- مونمارت- ساحة سان لازار- الكوليزي- الرويال- هوليوود- باريس- خط الليمس...)، والمستنسخ الصوفي (محمد إقبال- الأشراف والأولياء...)، ومستنسخ الهوامش (خصص سبع صفحات كاملة لشرح الهوامش وتفسير الإحالات التناصية)، والمستنسخ الاقتصادي (الاستعمار والتخلف- الغرب والعالم الثالث- الاقتصاد والثقافة- المركز والضاحية- التطور والخصوصية...)، ومستنسخ الأعلام (مارية- شعيب- إدريس- يوليوس-...) الخ ...
تلكم - إذاً- أبرز تمظهرات خطاب المستنسخات في الخطاب الروائي العربي وتجلياته الخطابية ومضمراته التناصية التي توفر للنص اتساقه وانسجامه النصي، وتلكم كذلك أهم تصنيفاته البنيوية التي تساعدنا على قراءة العلامات التناصية وأبعادها السيميائية والإحالية في سياقها النصي والخارجي مع احترام خصوصية النص الأجناسية والنوعية.



الهوامش:
(1) د.سعيد علوش: المصطلحات الأدبية المعاصرة، منشورات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، ط1،1984، ص122
(2) انظر د. سعيد علوش:عنف المتخيل في أعمال حبيبي، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1، 1986
(3) المرجع السابق، ص11
(4) عبد الله العروي: أوراق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1 ، 1989.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى