عباس محمود العقاد - إرادة الغفلة

زيد وعمر تاجران لهما دكانان في حي من الأحياء.

وأنت تروّج بضاعة زيد وترغب فيها أبناء الحي وبناته. فليس لك في هذه الحالة إلا وسيلة من وسيلتين: إحداهما أن تثنى على الأصناف الجميلة التي يعرضها زيد في دكانه ولا وجود لها عند غيره، وأن تشيد برخص الأسعار وحسن المعاملة التي يلقاها المترددون على ذلك الدكان.

والوسيلة الأخرى أن تتناول عمرا بالقدح والتشهير وتنحى بالعيب على سلعة يعرضها وكل ثمن يطلبه وكل معاملة يتلقى بها قاصديه، وتتهمه بالاحتيال عليهم بهبوط البضائع وارتفاع الأسعار.

دعاية مكشوفة وأخرى مستورة، ولكنهما تؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي كساد واحد ورواج الآخر من الدكانين.

ولا شك في هذه الحقيقة ولا خفاء.

ولكنهما على ما يظهر لنا تحتملان الكثير من الشك، وتحاطان بالكثير من الخفاء عند أناس في هذا الشرق التعس يزعمون لأنفسهم أنهم (يفهمونها وهي طائرة) وهم لا يفهمون ما يحبو على أربع فوق جدار العينين.

في أيام الحرب الطرابلسية حمل المسلمون والشرقيون على الدولة الإيطالية حملة المظلوم المشترك في المصاب، فكانت حملتهم عليها حملة رجل واحد لا يشذ عنها مسلم أو شرقي كائناً ما كان مذهبه في السياسة والدين.

ثم عملت الدعاية الإيطالية عملها الذي لم تنقطع عنه قط في إبان الدولة الفاشية، فسكت عنها من كان قائماً قاعداً بالحملة عليها وعاش منهم من عاش في بلادها وبين أكناف حكومتها.

ثم نشبت الحرب الحبشية وتجددت الثورة على إيطاليا في الشرق العربي من أقصاه إلى أقصاه، وكانت الثورة عليها شاملة للمسلمين والمسيحيين وجملة العرب والشرقيين، لأنها ثورة المظلوم على الظلمة المستعمرين.

وهؤلاء أصدقاء إيطاليا الجدد ماذا يصنعون؟

لقد كانوا بالأمس يحملون عليها فكيف يحملون عليها اليوم؟

إنهم قبضوا الثمن ولا بد من الوفاء بالبضاعة.

أو قل إن الإيطاليين بذلوا المال ولن يثابروا على بذله إلا إذا استفادوا منه بعض الفائدة.

فما هي الفائدة المنظورة؟ وما هي الفائدة المستطاعة!

أما الترويج لدكان (زيد) فغير مستطاع.

فلم يبق إلا التشهير بدكان عمرو المسكين. . . ورزقه على الله!

وكذلك قد كان!

وكذلك ظهر للسادة (الغيورين) على حين غرة أن النجاشية الذين جلسوا على عرش الحبشة في ماضي العصور وحاضرها كانوا يظلمون المسلمين ويعطلون شعائر الإسلام.

ولتسقط (الحبشة) معناها (لتحي إيطاليا) في ذلك الصراع القائم.

وتمت الصفقة على هذه الصورة بين قبض الثمن وتسليم البضاعة من غير الطريق المستقيم.

أما أنت أيها الرجل الذي لم تقبض ثمناً ولم تسلم بضاعة فقد باعك هؤلاء الدجالون واشتروك وأنت لا تدري ما تفهم وما تقول.

إن دخلت في الصفقة ومضيت مع التيار الذي حملوك عليه إلى حيث يشاءون فأنت كما رأيت بضاعة تباع وتشترى.

وإن فتحت عينيك وقلت لهم إنكم دجالون منافقون، وإنكم سماسرة استعمار مأجورون - فأنت إذن لست بالرجل الغيور على الدين، ولست بالمسلم المنافح عن الإسلام والمسلمين، ولكنهم هم الغيورون المنافحون. . . هم أولئك الدجالون المنافقون، الذين يبيعون فيك ويشترون!

ودارت الأيام ورأينا مذاهب النازية ومذاهب الديمقراطية تصطدم في أخطر ميدان.

ثم دارت الأيام ورأينا الشيوعية والديمقراطية تتصارعان.

وعادت حكاية الدكاكين من جديد: دكان زيد ودكان عمرو في الحي المأهول بالشرقيين المساكين.

أما الدعاية لزيد فعرضة للاتهام الصريح.

فلماذا يتعرض لها (السماسرة الأمناء) وهم في غنى عنها بالإنحاء على عمرو في غير حرج ولا مبالاة.

لتسقط الديمقراطية معناها لتحي الشيوعية. . . والثمن مقبوض والبضاعة مسلمة، وكفى الله المؤمنين القتال.

فالديمقراطية إذن كذب وخداع، والديمقراطية إذن فخ منصوب للضعفاء، والديمقراطية إذن مسئولة عما يجنيه الديمقراطيون، والديمقراطية إذن هي مصدر البلاء وعلة الشرور.

وما شأن (الشيوعية) يا هؤلاء؟

شأنها أنها بذلت الثمن في الخفاء، فلا يليق أن تذكر في معرض النقد والاستياء.

هي ملك معصوم، أو هيشيء مسكوت عنه إلى أن يخرب دكان عمرو فيقبل (الزبائن) على دكان زيد طائعين أو مكرهين.

ومن المحقق أن الديمقراطيين يكذبون ويخدعون، ولكن من المحقق كذلك أن الديمقراطية خير من الاستبداد بعد كل ما يقال عن مساوئ الديمقراطيين.

هل تسقط الديمقراطية لأن الضعفاء في الأرض لا يعاملون اليوم معاملة الأقوياء.

هل تسقط الديمقراطية لأن الأرض البشرية لم يهبط عليها فردوس الملائكة أو لم ترتفع إلى ملكوت السماء؟

إن كانت المذاهب تعاب بذنوب أبنائها فماذا نقول في المسيحية والإسلام؟ وماذا نقول في سائر الأديان؟

منذ القدم تبشر الأديان بالخير ولا يزال الشر في هذه الأرض كما نراه، فهل نقول إن الأديان لم تنفع أبنائها بشيء لأنهم لا يسلمون من الخسار؟

منذ القدم تنص الشرائع والقوانين على عقاب الأثمة والمجرمين. ولكن الأثمة والمجرمين لا ينقطعون ولعلهم لا ينقصون. فهل نقول من أجل ذلك: دعوهم يجرمون ويأثمون وأغلقوا المحاكم وافتحوا أبواب السجون؟

منذ القدم ننادي بالإصلاح ويعمل الناس أعمال المفسدين. فهل نقول من أجل ذلك إن الفساد خير من الصلاح وإن الدعوة إلى الإصلاح سعي عقيم ورأي سقيم؟ إن الذي ينكر الديمقراطية لأن الديمقراطيين يلامون ويعملون ما يستنكره المنصفون لخليق إن ينكر القوانين والشرائع لأنها تنادي بالخير ولا يزال في الناس شر كثير.

ولكنهم مع ذلك يقبضون الثمن ويعقدون الصفقة، ويدخلون فيها تلك الرؤوس التي تستمع إلى ذلك الهراء الذميم فتصغي إليه وتقرهم عليه.

ودعوا دكان عمرو أيها الناس.

وهات يا زيد أجرتك. . . فقد أقبل عليك أولئك الناس.

كان دارون يتحدث عن إرادة الحياة أو حب الحياة.

وكان نيتشه يتحدث عن إرادة القوة أو حب القوة.

فإذا جاز لنا أن ننشئ مذهباً جديداً نستمده من غفلة الأغرار وحيلة الشطار قلنا إنها (إرادة الغفلة) قد أصابت أناساً من الشرقيين بينهم المجال لكل أفاك دجال، وأصبحوا بين أمم العالم أعجوبة من الأعاجيب، لأن أمم العالم تخيب بينهم ألف تدجيلة لكي تصيب بينهم تدجيلة واحدة بعد طول التلفيق والتدبير وتكرار المحاولة والتزييف. أما هؤلاء المصابون (بإرادة الغفلة) من شرقيينا الأعزاء، فما أسرع من ظهور التدجيلة بينهم إلا أن يقبلوها ويقبلوا عليها، لأنهم يتلذذون بالاستغفال كما يتلذذ بعض الرجال بالإغضاء عن العرض في غير سبيل. . . ولو سبيل المال.

وأقسم إننا لا نمزح فيما نقول، لأن الغفلة لذة عند المغفلين المطبوعين على هذه الخليقة. فهي نوم أو استرسال، ولا عناء في النوم أو الاسترسال، وإنما العناء في اليقضة والانتباه، ومن ترك المخدوع ينام ويسترسل فهو لا يزعجه بهذا الترك المريح، ولكنه يزعجه أشد الإزعاج حين يفتح عينيه ويصيح في أذنيه، ويحذره من اللصوص والطراق.

معشر الدجالين!

ما قولكم في مذاهب الإصلاح كلها منذ القديم؟

إن قلتم إنها باطلة فقولوا عن الديمقراطية إنها باطلة لأنها لم تحسم الشرور ولم تجعل الديمقراطيين من الملائكة الأبرار.

وإن طال بكم المطال على هذا المقال فالبركة في (إرادة الغفلة) التي تفتح لكم مجال القول فتقولون ما تشاءون.

عباس محمود العقاد



مجلة الرسالة - العدد 663
بتاريخ: 18 - 03 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى