جنيفر إيغان - نزوة الآثار العصية على الزوال.. قصة قصيرة

ما أن انحرف طموحي الذي استغرق زمنا طويلا من طفولتي في أن أصبح جراحة بفعل بداية حساسية المراهق المفرطة- وعلى وجه التحديد، الخوف من الدم- حتى حولت ذلك الطموح إلى علم الآثار. وبدا لي جو إحدى الحفريات الخانق والمفتت، كما تخيلته، موضع ترحيب من الدوامة التي أدرك اليوم أنها كانت تعج داخل جسم بشري. كان هذا في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان علم الآثار مهنة ساحرة. وكان ريتشارد ليكي قد أضاف إلى عمل والديه في أفريقيا اكتشافين رئيسين هما: جمجمة بشرية، في العام 1972، وجمجمة بشرية أخرى مختلفة، في العام 1975. وبعد عامين، عندما صرت في الخامسة عشرة، ظهر ليكي على غلاف مجلة التايم، جنبا إلى جنب مع رجل من السلف ذي مظهرمطاطي، وفي اسفل الغلاف عبارة تقول “كيف أصبح الإنسان إنسانا”.

قررت أن آخذ اجازة لمدة سنة قبل بدء دراستي الجامعية وتكريس نفسي لاستكشافات مأجورة في أماكن غريبة. ترعرعت في سان فرانسيسكو ولم اغادر الولايات المتحدة إلا في رحلات عائلية كنا نقوم بها أحيانا إلى المكسيك.

ولست متأكدة أي جزء من هذه الرؤية هو الذي فتنني أكثر: نفسي الفضولية التي كانت تتعقب عظاما بشرية وأوعية لامعة داخل تربة في آسيا أو أفريقيا، أو الحيوات التي صورتها وكانت تصدر طنينا تحت التربة، في انتظار أن أعلن اكتشافي لها. ومع اقتراب نهاية السنة في المدرسة الثانوية، قمت بتأليف رسائل لقرابة ثمانية برامج تخّرج أو تسعة جرى إدراجها في نشرة آثارية كنت مشتركة بها، اقترحت أن تكون أوراق اعتمادي (دبلوم المدارس الثانوية، الطاقة الوفيرة) وأمل بالنجاح من أوسع أبوابه. وبعد أسابيع من مراجعة البريد بفارغ الصبر للحصول على عروض العمل وتذاكر الطائرة، تلقيت ردا واحدا، من استاذ في بيركلي. لكن نبرته الفظة أخفقت تماما في إيصال جوهر رسالته التي تقول: طلابنا الخريجون يدفعون لنا أجورا كي يحضروا الحفريات. وأنت حتى الآن لست مؤهلة بعد.

وإذ شعرت بقرصة الرسالة، توجهت إلى بعض الحفريات التي تتطلب المشاركة بها أن يدفع المشارك أجرا وهي حفريات كنت رأيت إعلانات عنها في النشرة الآثارية. وفي أيلول 1980، عندما كان معظم زملائي في الثانوية قد بدأوا دراستهم الجامعية، تمكنت من جمع مئتي دولار أو ثلاثمئة اضافة الى مصاريف السفر (وكان ذلك المبلغ هو حاصل ما كنت أتلقاه من ساعات العمل الطويلة وراء عداد مقهى شارع هايت) للانضمام الى حفريات تستمر مدة ثلاثة أسابيع في كامبسفيل بولاية إلينوي.

لكن غرائبية كامبسفيل لم تكن من النوع الذي يروقني وأشتهيه. فسكان البلدة لم يكن يتجاوز عددهم الأربعمئة نسمة؛ ما أذكره هو قضيب وجهاز دبابيس يهيمن عليها شاب في مثل سني على وجهه إمارات غضب.

وكان زملائي في الحفر معظمهم من المتقاعدين؛ وثمة خوخ مطهي يسبق أوقات وجبات الطعام.

ولكن الصدمة الحقيقية كانت في المتر المربع الواحد من الارض وقد أحاطت به سلاسل مثبتة على أوتاد، كان ذلك هو مساحة موقعي الاثاري. ولم يكن مسموحا لنا بالجلوس على مربعاتنا، إلا في وضع القرفصاء.

كما لم يكن مسموحا لنا أن نحفر في مواقعنا، كان المسموح فقط أن نكشط طبقات خفيفة من التراب بمشرط، وهكذا إلى أن نصنع منخفضا في سطوح أمتارنا المربعة على مدار أيام، لحين أن تظهر إلى السطح الأشياء المدفونة في المكان، من رؤوس مدببة أو شظايا فخار. وكانت حلاقة التربة تلك تحدث تحت شمس لاهبة تصل حرارتها إلى تسعين درجة مئوية.

وبحلول اليوم الثاني، شعرت بشهية هائلة لخوخ مطهي في وقت طويل سبق موعد وجبة الغداء. وبحلول اليوم الثالث، قررت التخلي عن هدفي في أن أصبح عالمة آثار.

والسؤال الملح وقتها هو بالضبط كيف كان الهنود المسسبيون، الذين كنا نزيح التراب عن أكوام بقاياهم الآثارية، كيف كانوا يحصلون على الذرة.

ولكن من يهتم؟ تساءلت بحزن وأنا استمع إلى المحاضرات الرسمية التي كان يلقيها علينا قادتنا الآثاريون. ولكن بعد أيام عدة بدأ يصبح الموضوع أكثر إلحاحا، تماما مثل أي موضوع يصبح ملحا عندما تكون في رفقة أشخاص أذكياء يجدونه ملحا على هذا النحو.

وما أن بدأت الشظايا ترتفع باتجاه سطح متري المربع، حتى انتابني نوع من التوتر المشوب بترقب. وكنت أشعر بالغيرة عندما تخرج من أمتار الحفارين الآخرين كنوزا فريدة من نوعها، وأنا أدوّر رأسي تحت الحرارة اللاهبة.

وبحلول الأسبوع الثاني، كان متري المربع، بمنظره الدقيق، والمتنامي هو ما كان يطفو في ذهني خلال تلك اللحظات الهلوسية الأخيرة التي سبقت غطيطي في نوم عميق.

ما تزال، نزوة علم الآثار عصية على الزوال. وبحلول شهر تشرين الأول عدت ثانية إلى عملي في المقهى وفي رأسي هدف جديد: هو ادخار ما يكفي من المال للسفر إلى أوروبا. لكن إقامتي في كامبسفيل كانت لما تزل تسكنني، إنها الشعور الذي سكنني وانا أزيح الطبقات الفاصلة بين نفسي وبين عالم مفقود، بحثا عن ساكنيه.

المصدر: مجلة نيويوركر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى