الجنس في الثقافة العربية الجنس في الثقافة العربية : هالة أحمد فؤاد - طابو البكارة اليوم وفي ديارنا.. في الختان والافتضاض

أتوقف عند ظاهرتيْن، تأملتهما مراراً وتكراراً، أولاهما، ظاهرة الختان للإناث، والتي تفسر دوما بوصفها إعادة إنتاج للقهر تمارسه الأم المتبنية لقيم المجتمع الذكوري على ابنتها، كما أنها ممارسة تنتهك إنسانية الأنثى الصغيرة، وتحكم عليها بمصير شقيّ، إذ تحرمها من حقها الطبيعي في المتعة ، وتورثها إحساسا مقيتاً بجسدها. ناهيك عن كونها عملية تجسد الحصار الذكوري للجسد الأنثوي، وترتبط بمسألة الشرف في المجتمعات الأبوية المتخلفة .. الخ !! وبالطبع، فأنا لا أختلف مطلقاً مع أي من هذه التفسيرات، ولا أنكر تجريم هذه العملية اللاإنسانية، لكنني أبحث عن زاوية أخرى لتفسير، أملاً في مزيد من الفهم، والتوغل في العمق، علنا نتمكن بهذا من طرح حلول أكثر فاعلية وتفهماً لهذا الواقع المربك، وعلاقاته الشائهة .

ترى هل يمكننا الحديث هنا عن رغبة بعيدة لاواعية قاطنة في أعماق النساء ( الأمهات / الجدات ) تسعى إلى إخصاء القامع الذكوري، وإجهاض أي إمكانية مستقبلية لتحققه بإشباع حقيقي، وأمان الاكتمال بأنثاه ؟ لا أحد ينكر أن التحقق والإشباع الفعلي داخل العلاقة الجنسية لا يتم إلا من خلال المشاركة الفاعلية والانفتاح والتحرر المطلق لجسد الطرفين داخل إطار الحميمية الحقّ، والحوار الخلاق لحظة الممارسة بين الرجل والمرأة. وأيّ حديث عن استمتاع فردي من خلال استخدام أي طرف للآخر الموضوع السلبي المتشيئ، هو حديث عن حالات مرضية لا تنتج سوى إشباع وهمي لحظي. ومن ثم، فإن الجسد الأنثوي الشائه، جسد الختان، هو جسد ينطوي على وعيد بالإحباط الجنسي والنفسي الدائم، لا لصاحبته فحسب، بل للرجل المستقبلي الذي سيقترن بها. وإذا كان الرجل فيما قد يقول البعض، سيجد حلولا خارجية، إذا لم تحقق له قرينته ما يصبو إليه، فأظن أنّنا لا نجهل مدى ما تورثه هذه الحالة الباحثة بحثا محموماً عن مشتهاها المفقود، وخاصة في مجتمعاتنا المشوهة من خواء داخلي عميق لدى الإنسان، ناهيك عن فقد أي إمكانية للأمان أو الاستقرار والتوازن النفسي . بعبارة أخرى، نحن لا نطرح بيئات تفرز خصوبة التجربة المفتوحة والتنوع الخصب الخلاق الذي يثري صاحبه، بل إنها تلقي بنا في متاهات للضياع والتشوه تفقدنا إمكانية الحلم بالائتناس الحقيقي داخل هذه الفضاءات، التي تحاصرنا بابتذالها ووحشتها القاسية. أما الظاهرة الثانية، فهي ذلك المشهد الاحتفالي الصاخب لفض البكارة في بعض القرى المصرية، والأحياء الشعبية في القاهرة. مرة أخرى، لا أختلف مع كافة التفسيرات الشائعة، ولا أنكر الإدانة، لكن دعونا نتأمل المشهد قليلاً.


أول ما يشد انتباهي في هذا المشهد المخيف وخاصة في مصر، هو أن من يقوم بفض بكارة الفتاة في ليلة العرس لإعلان الشرف العائلي الذكوري على رؤوس الأشهاد هو النساء ( الداية والأم ، وربما العمة أو الخالة .. إلخ ) وقد يدخل العريس أو يتم تهميشه. ومن الأمور المتعارف عليها، والتي تم التواطؤ عليها ضمنيا دون ذكرها، أن الداية إذا وجدت الدم قليلا، أمعنت في فعلها حتى تحصل على الكمية المطلوبة لإرضاء الكافة، وهو ما أدى بالفعل إلى حدوث نزيف دموي، بل موت الكثير من الفتيات بدلاً من زفهن إلى أزواجهن. أما ما لم يعلن، وإن تم التواطؤ عليه فهو دور الداية في إنقاذ شرف العائلة، فإذا وجدت الفتاة غير عذراء جرحتها بطريقة ما، وأعلنت البراءة دون أن يشعر أحد أو لعلهم، خاصة النساء المحيطات يرون كل شيء، ولا يرون أي شيء !! ألا يثير هذا الأمر تساؤلاتنا حول هذه الطبيعة النسوية لمشهد فض البكارة، وعزل الذكور، ولو بصورة معنوية ومتوارية ؟ من هو السيد الأعلى هنا، صاحب البصمة والأثر على هذا الجسد الأنثوي؟ فتح الفضاء الجسدي لتلك الأنثى بإصبع الأنثى، وهمشت سيطرة الذكر بل ربما تم التلاعب به وإيهامه بما ليس حقيقياً، وقد تمت تلهيته بالمنديل الأبيض موسوماً بالبقعة الحمراء، ويا لها من مفارقة لونية مبهجة قد تعني الكثير لوعي طفولي يتلهف على لون الدماء الحمراء، ولكنه يخشاها في الوقت نفسه .

لعبت النساء المدربات لعبتهن الآسرة، وأنجزن المهمة الصعبة بكل مهارة تحت أعين الرجال الحاذقين وأبصارهم، وكل شيء تحت السيطرة. غير أن أحداً لم يلتفت ، فقد انفتح الأفق الضيق وبدأت اللعبة الخطرة، ذلك أن هذا الذكر صاحب اليد العليا، والسيطرة رغم كل شيء، مطالب من الآن وصاعداً بلعب الدور المنوط به في مخيلة الجماعة، دور الفحل القوي، دور الإمتاع والإخصاب لقد اختار الرجل بكامل إرادته وحريته هذا الدور، وعليه أن يتحمل تبعات الدور المتلائم مع مزاعم السيطرة المادية و المعنوية، فهل هو مهيأ ؟ فجأة، يواجه الرجل قدره المأسوي، وهاجسه المرعب، ماذا لو لم يستطع أداء الدور على أكمل وجه ؟ رعب قد يحكم على هذا الرجل بالصفة النفسية والفعلية فيواجه ما لا قبل له به، ويتعرض للسخرية والنيل من كرامته وحضوره الرجولي بصورة تتجاوز كل التوقعات، ومن كل الأطراف، حتى أقرانه الذكور يصبح عاراً عليهم ، بل إمكانية للاستباحة وانتهاك حرماته، التي يستطيع سد فجوتها الجهنمية التي انفتحت عليه، بل إن هذه الأنثى التي انتهكت على الملأ ستعيد إنتاج القمع عليه بكل الصور والأشكال الممكنة وغير الممكنة، حتى صبرها عليه، ورحمتها به، واحتمالها عجزه، والذي عبره تصوغ صورة المرأة والزوجة النبيلة الحمولة الراقية اجتماعياً، ستغدو إحدى مخايلات القمع المراوغ ضد هذا الرجل المسكين الذي قد ينتهي به الأمر إلى تدمير ذاته وتدمير من يحب أو يشتهي للخلاص من هذه الحالة المروعة . ولا يعني هذا أن الرجل القادر مكتمل الفحولة، المسيطر عاطفياً وجنسياً أحسن حالاً، لأنه سيظل مسكوناً طيلة الوقت بهاجس فقد القدرة بكافة مستوياتها ومن ثم فإنه لن يكف عن محاولة إعلان حضوره الذكوري وإثبات وجوده بكافة السبل، ومنها، بل أكثرها شيوعاً لعبة الدون جوان الذي تعشقه كل نساء الأرض، ويلقى لكل منهن بلمحة أو لحظة، ثم يعود بعد دورته الدون جوانية إلى قرينته الوحيدة ليتباهى بغزواته الفاتحة وهو يتصنع الاختباء والسرية الفاضحة، نوع من الكذب المكشوف الذي يتواطأ الطرفان على قبوله والتعايش معه كجزء من قانون اللعبة القائمة. إن اللحظة التي يعلن فيها الذكر على ورؤوس الأشهاد سيطرته المطلقة على جسد أنثاه هي نفسها اللحظة التي يفقد فيها كل إمكانات الهيمنة، لا على جسدها فحسب، بل على جسده وخاصته.

بالطبع لا تعني هذه المحاولات التفسيرية أنني أتضامن مع هذه الطرق النسوية، وغيرها للمقاومة بالحيلة، ولكنني فقط أسعى لمحاولة التفسير والفهم عبر الإيغال في عمق آخر .
ولعل الشيء الذي أكاد أتيقن منه في هذا السياق لتداعي الخواطر في هذا الموضوع هو ذلك الثمن الباهظ لهذه اللعبة، لعبة الصراع المضمر بين الأطراف لقلب موازين السيطرة باطنياً، وإن احتفظت ظاهرياً بأشكالها المعتادة . ولعلني لا أتجاوز إذا قلت أن هذه الممارسات، هي شكل من أشكال السحر الأسود أو العنف العقابي الذي يمارسه المقموع لا ضد القامع، فحسب بل ضد ذاته المنطوية بدورها على ظل الآخر، فكأنها حينما تخصيه فإنما تخصي ذاتها في لحظة من لحظات التماهي المؤسية والقاسية. إنه عنف موجه للآخر عبر مرايا الذات، وكأن المقموع يتبنى منطق شمشون الأعمى اليائس المعذب، فيهدم المعبد على رؤوس الكل وهو أولهم . إنها حالة من حالات النرجسية العدمية المدمرة لطرفيها، والتي تلقي بكليهما داخل متاهة الوحشة المطلقة !

إن هذه الفضاءات الصراعية الشرسة تنطوي على قدر من العداء والعنف المتبادل ما بين الطرفين ، وقد عجز كلاهما عن التحرر من علاقات الاستخدام والتشيئ، وغواية القمع المتأصل في عمق هذه الفضاءات إلى درجة أننا لم نعد نتنفس سوى رائحة عفنة تسكن داخل بنياتنا الاجتماعية على تعدد مستوياتها ولابد لنا من محاولات دؤوبة ومتأنية من أجل إزالة طبقات العفن علنا نصل إلى مجرى حيوي لا ينزل فيه المرء إلى النهر مرتين !!
يقول التوحيدي :
“لم يشمئز الإنسان من جرح فغر فوه حتى أنه لينفر من النظر إليه والدنو منه، وينفي خيال ذلك عن نفسه ؟ وكلما أشتد نفوره منه اشتد ولعه به ” ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى