محمد يوب - تحديد مفهوم السرد..

تحديد المصطلح هو بداية العلم ومنتهاه؛ كما قال أرسطو؛ لأن غايته هي البحث عن الماهية؛ فعندما نريد معرفة مصطلح من المصطلحات؛ لابد من الإحاطة بالمعلومات المتعلقة به؛ وهذه المعرفة الأولى هي التي تؤهلنا لكي نصل إلى تعريفه وتمييزه عن غيره. لكن وبالرغم من ذلك؛ فإن التعريف الذي نصل إليه لمصطلح من المصطلحات يكون سطحيا؛ يعتمد على الوصف والتشخيص والتمييز؛ ولايتعمق داخلا في تفاصيله الجوهرية .
هذا نفسه ما ينطبق على مفهموم "السرد" فإن النقاد والباحثين؛ قد اختلفوا في تعريفه نظرا لتعدد وتشعب أشكال وأنواع الكتابة السردية؛ حيث إن كل واحد يُضمّن سردياته شكلا من هذه الأشكال الإبداعية السردية؛ سواء أكانت شفوية أو كتابية؛ وتختلف كذلك باختلاف المدارس والاتجاهات النقدية؛ والرؤى الفكرية والفلسفية؛ كل يعرفه بحسب انتمائه وتوجهه النقدي .
وفي نهاية المطاف؛ لايصيب الباحث من غنيمة أثناء إبحاره في عالم جينالوجيا المصطلح؛ ودنيا ضبط وتحديد المفاهيم من محصلات معرفية؛ سوى بعضا من الصفات المتأصلة في المصطلح؛ والمتعمقة في داخله؛ تكون قريبة من الحقيقة؛ تكشف جزءا من جوهريته ويقينيته؛ وعندما يصل الباحث إلى هذا المستوى من البحث؛ يكون قد اقترب من الوصول إلى العتبة الحقيقية لتحديد المصطلح.
ويعتبر علم السرد أو السردية؛ من أهم المصطلحات التي أفاض فيها النقاد مدادا كثيرا؛ من أجل البحث والتنقيب في الجذر اللغوي وفي الدراسات التطبيقية، وذلك ابتداء من أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين؛ مع ناتالي ساروت وميخائيل باختين؛ وتودوروف؛ وجوليا كريستيفا؛ وجيرار جينيت؛ وبول ريكور...
وقد اهتم الباحثون بالسرد لأنه ظاهرة كونية شاملة؛ يعيش مع الإنسان عبر العصور؛ في أشكاله المختلفة شفويا أوكتابيا؛ بسيطا أو مركبا؛ فطريا أو مصنوعا؛ من أجل التعبير عن أفراحه وأحزانه.
وأشكال السرد كثيرة لا حصر لها؛ حيث إنه حاضر في الأسطورة؛ والحكاية والخرافة؛ والأقصوصة؛والملحمة؛ والتاريخ؛ والمأساة؛ والدراما؛ والملهاة؛ والمنمنمات؛ والبانتوميم، واللوحة المرسومة، والنقش على الزجاج، والسينما، والخبر الصحفي، والمحادثة.....
صحيح إن كل أشكال الكتابة النثرية؛ فيها نسبة معينة من السرد البديهي؛ لكن هل هذه السرديات البديهية تحترم قواعد السرد الذاتية المعروفة؟ وهل هؤلاء السراد يعرفون أشكاله؛ وأصنافه المتنوعة؛ وتركيباته؛ وعلامات الفعل السردي؟ أسئلة كبيرة عريضة سنجيب عنها بعد البحث في مفهوم السرد؛ حيث تتعدد تعريفاته وتتشعب بتشعب المدارس والاتجاهات النقدية.
وقد اقترح النقاد كثيرا من المصطلحات منها: علم السرد - السرديات- نظرية السرد - نظرية القصة – السردلوجيا....
• جينالوجيا المصطلح
الملاحظ هو أن هذه المصطلحات تتوحد في خانة واحدة هي فعل (سرد) و فعل ( قص) وأحيانا يدخل معهما في الخط مصطلحا ( حكى) و( روى)؛ وكل هذه المصطلحات تؤدي المعنى نفسه؛ غير أننا في هذه الدراسة سنكتفي بمصطلح علم السرد (naratologie) لكي نحصر اهتمامنا في مجال واحد محدد.
ومن أجل دراسة علمية متكاملة؛ سنكتفي بهذا التعريف الشامل والبسيط لعلم السرد فهو(علم خاص بالسرد؛ يقوم على بناء شكلي تصنيفي ومجرد؛ بعيدا عن الطريقة التقليدية في دراسة السرد؛ بوصفه تمثيلا خياليا للحياة والعالم)؛ أي أنه الدراسة المنهجية للسرد؛ حين يضع الباحث نصب عينيه الرغبة في الكشف عن الأسس التي يقوم عليها السرد؛ ويتتبع النظم التي تتحكم في إنتاجه وتلقيه؛ والبحث عن الطريقة التي بها تفكك شفرات النصوص القصصية.
فالسرد آلية لإنتاج الحكي وتقديمه؛ يتضمن حدثا يرسله الراوي؛ ويستقبله المتلقي؛ وهذا يمكن تقسيمه إلى قسمين: أولهما الحكاية التي تتضمن الأحداث والوقائع؛ وثانيهما الخطاب الذي يتكفل بتقديم هذا المحتوى.
إنه ينهض ويقوم على الحكاية المسرودة؛ المتجهة من الملقي إلى المتلقي؛ عبر فعل السرد المنتج للحكي، والحكاية كما يقول جان فرانسوا ليوتار (بدأت من قبلُ دائما؛ وستظل كذلك إلى الأبد في الجملة الشهيرة العابرة للثقافات التي اكتسبت طابعا عالميا وأبديا : «كان يا ما كان»).
وينقسم علم السرد إلى قسمين هما: السميائيات السردية؛ أي تلك الدراسة التي تهتم ببناء وبنية العمل السردي بعيدا عن الحمولة الفكرية والأيديولوجية....
أما القسم الثاني فيدرس العلاقات القائمة بين مستويات السرد القصصي الثلاث وهي : الخطاب؛ السرد؛ الزمن .
وقد ارتبط مفهوم السرد عند نشأته بالتحليل البنيوي للسرد؛ الذي يهدف إلى الكشف عن الأنساق الكامنة في كل أنواع الحكي؛ وخاصة مع الناقد الشكلاني الروسي فلاديمير بروب في كتابه (مورفولوجيا الخرافة 1928).
غير أن رولان بارت وجريماس وكلود بريمون؛ قد خلصوا علم السرد من النظرية الأدبية؛ وأدرجوه ضمن نظرية سميوطيقية تشتغل على مجالات أوسع؛ تضم بالإضافة إلى الرواية والقصة؛ كلا من السينما والمسرح والتشكيل وفنون الرقص والمنمنمات....حيث لم يعد علم السرد يكتفي بتصنيف السرديات إلى أعمال تاريخية؛ و بوليسية؛ وواقعية؛ ورومانسية؛ وإنما أصبح يهتم بمستويات أخرى أكثر عمقا وتحليلا؛ كدراسته لنظرية الرواية ضد الرواية؛ وتيار الوعي؛ والشعرية؛ والتبئير؛ والتضمين السردي؛ والفضاء الروائي، وجمالية المكان، وتوظيف التراث....
أي أن علم السرد توسع في دراساته النقدية؛ في ضوء مناهج نقدية تأمل تحقيق نسبة كبيرة من الموضوعية؛ حيث ركز في دراسته للسرديات على ثلاث مستويات :
المستوى الأول: إن الناقد عندما يتناول نصا سرديا؛ فإنه يركز في اشتغاله على حقل معرفي بنيوي؛ يهتم ببنية النص السردي وما يحتويه من وظائف وأفعال؛ بعيدا عن المحتوى الفكري و الأيديولوجي.
المستوى الثاني: في هذه المرحلة ينتقل إلى مستوى الخطاب؛ وهو دراسة الكيفية التي قدم بها السارد الأحداث؛ من حيث التسلسل والترتيب، أي كيف قدم السارد الأحداث؛ وليس في ما تتضمنه هذه الأحداث من حمولات فكرية وأيديولوجية.
المستوى الثالث: دراسة الخطاب السردي على مستوى الدلالة؛ أي البحث في المعاني بأنواعها ومستوياتها المختلفة؛ بإزالة اللثام عن المنظومة الدلالية التي وراء النص السردي؛ لأن هذا الأخير باستخدامه اللغة؛ يستطيع التحرر من المرجعية؛ والاكتفاء بالدلالة التي تقدمها اللغة .
وعلى الناقد السردي؛ أن يبحث في هذه الاختلافات؛ وأن يدقق فيها أثناء ممارسته النقدية؛ لكي تتصف دراسته بصفة العلمية والموضوعية بحيث "إن شرعية السرديات؛ تُستمد من نجاحها في أن تؤسس علما له شروطه؛ اللازم توفرها لنكون فعلا أمام ممارسة علمية".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى