عبدالحق لمسالمي - إشكالية وحدود التأويل في الخطاب النقدي

يعتبر التأويل أحد مستويات التحليل الأساسية التي يطالب فيها الخطاب النقدي بحرية لا حدود لها. فعندما يقرأ الناقد الناقد نصا إبداعياـ فإنه ينطلق من مشروعية إمكانية إعطائه التأويل أو التفسير الذي يراه أنسب صدقا وأكثر انسجاما. وانطلاقا من النموذج[1] الجديد الذي نقترحه للتعاطي مع الخطاب النقدي، نعتقد أنه أصبح من المنطقي إعادة النظر في هذه "الحرية المطلقة" التي يتمتع الناقد نفسه بها وبالتالي إخضاع الخطاب النقدي نفسه لمجموعة من المعايير تضمن له نوعا من النزاهة الفكرية والمصداقية العلمية في تعاطيه مع النصوص.

فعندما ينطلق الناقد في تعاطيه مع النص الإبداعي مبدإ الحرية فإنه يبقى معرضا لمنزلقين إثنين على الأقل: فإما أنه يجعل من النص مجرد مطية للتوغل في تفاصيل نظرية ومنهجية وإيديولوجية تخص أو تخص المدرسة التي ينطلق منها وهو في هذه الحالة يبقى خارج الموضوع، وإما يغرق في الذاتية والانطباعية المفرطة وهذا ما يؤدي حتما بالخطاب النقدي إلى التركيز ليس على ما قاله المبدع في نصه ولكن على ما كان ينبغي عليه أن يقوله: وهكذا يصبح مثلا النص الروائي محط دراسة الناقد دون اعتبار ما هو عليه ولكن كيف يتمناه الناقد أن يكون[2]. والنتيجة المنطقية هي تحليق الخطاب النقدي بعيدا عن النص المدروس إذ لم نقل تحريفا لمضمونه وتشويها لجماليته. لهذا نرى أن قضية تحديد عدة مقاييس موضوعية لتحليل الخطاب النقدي (انظر الهامش رقم 2) تفرض نفسها على عدة مستويات وخصوصا مسألة التأويل التي تهمنا هنا.

ونلاحظ اليوم بارتياح أن الدراسات الأدبية الحديثة تنحو حثيثا نحو تصور براغماتي للقراءة يضع الثنائي كاتب/قارئ في صلب الأبحاث حول وظائف تركيب وتفكيك النص الإبداعي التي يضمنها فعل القراءة باعتباره شرطا ضروريا وفعالا لتحقق النص[3] باعتباره نصا إبداعيا في حد ذاته. هذا ما جعلنا نولي أهمية خاصة لمسألة التأويل في ميدان النقد من خلال النموذج الذي نقترحه لقراءة جديدة تعنى بإشكالية التلقي الأدبي خصوصا في جانبه النقدي. وهكذا نجد مثلا أمبرتو إيكو لا يتردد منذ الصفحة الأولى من كتابه في التأكيد على أن "عمل النص (حتى وإن كان غير مكتوب) يمكن تفسيره إذا أخذنا بعين الاعتبار(…) الذي يلعبه المتلقي في فهمه وتحيينه وتأويله وكذا الطريقة التي يحددها النص نفسه للتعامل معه"[4].

وفي نفس السياق نشاطر Ingaden الرأي حين يعتبر أن "المؤلف إنما هو عبارة عن هيكل أو بنية يتعين إتمامها عن طريق تأويل المتلقي أي بعبارة أخرى هو مجرد مجموعة من الأوجه، على المتلقي أن يختار فيما بينها"[5]. من هذا المنطق نلمس أن مشكل التأويل في الخطاب النقدي يأخذ أبعادا خطيرة وحاسمة ويثور السؤال الأساسي التالي: ما هي يا ترى حدود هذا التأويل مع العلم أن النص الإبداعي يشكل الأساس الذي يستند عليه؟

تعكس النظريات الحديثة حول التلقي –وخصوصا في مدرستيها الأمريكية والألمانية- رد فعل طبيعي على تحجر المناهج البنيوية التي تدعي القدرة على التعاطي مع النصوص الإبداعية في موضوعيتها كمعطى لغوي وكذا نظريات المعنى الشكلانية التي تزعم إمكانية تجاوز الإطار التاريخي للنص وظروف استعماله للإشارات والتراكيب. وفي جميع هذه الحالات تطرح إشكالية العلاقة مع النص الإبداعي وستقتصر هنا عل ميدان النقد الأدبي الذي يهمنا بالدرجة الأولى.

من الممكن أن نفهم بسهولة إشكالية التأويل إذا نحن انطلقنا من الإطار الذي يضعها فيه "إيكو" في كتابه L’oeuvre ouverte[6] جاعلا أساس اشتغال الفن هو العلاقة مع المؤول L’interprète. وهذه العلاقة التي تؤسسها سلطة النص تبقى حرة وفي نفس الوقت غير متوقعة النتائج، وبعد عدة سنوات من البحث، يعود "إيكو" إلى هذه الإشكالية ويقول:

"إن الأمر يتعلق هنا بفهم لماذا يحاول النص، باستشرافه لنسق من التمنيات النفسانية والثقافية والتاريخية من لدن المتلقي، أن يؤسس ما يصطلح عليه جويس بـ"القارئ المثالي"(…) وهنا أركز على أنه يتعين على هذا القارئ أن يساءل هذا النص وليس دوافقعه الشخصية في جدلية "الوفاء والحرية"[7] يقصد "إيكو" من الوفاء لروح النص وحرية الناقد في التعامل معه. ويركز في الطبعة الفرنسية لكتابه (1967 ص94-95) على العلاقة التواصلية التي تربط الرسالة (النص الإبداعي) بالمتلقي والتي طورها "إيزر" بتطبيقها على النصوص المكتوبة، حيث يقول:

"يجب أن ينتقل اهتمامنا من النص كنسق موضوعي للمعلومات الممكنة إلى العلاقة التواصلية التي تربطه بالمتلقي. فاختيار هذا الأخير لتأويل ما يصبح أحد عناصر القيمة الفعلية للمعلومة… وإذا أردنا تفحص الإمكانات التي تتوفر عليها بنية تواصلية لتصبح ذات معنى، لا يمكن تجاهل "متلقي" النص، فأخذ القطب النفسي بعين الاعتبار يعادل الاعتراف يكون النص لا يمكنه أن يؤدي معنى(…) إلا إذا أول انطلاقا من وضعية محددة (وضعية نفسية وبالتالي تاريخية، اجتماعية، أنتربولوجية بالمعنى الواسع للكلمة".

فإذا حاولنا إذن تأويل نص إبداعي فعلي ماذا يجب أن نركز بحثنا فيه: أعلى ما يقوله النص نفسه أو الذي أراد قوله كاتبه؟ هل يجب تفضيل مرجعيته وظرفيته أم ما يكتشفه قارئه انطلاقا من أنساقه المرجعية الخاصة به؟ حسب أي قطب نستطيع أن نوجه المعنى: أهو قطب الكاتب وقصده أم هو قطب القارئ واكتشافاته؟ فالمشروع herméneutique حين يؤكد مثلا أن النص يغتني من خلال تأويلاته المختلطة طوال تاريخه، فهو يتمفصل حول هدف اكتشاف "ما يريد الكاتب قوله حقا" بمنئ عن دوافع ورغبات المتلقي. إلا أننا نعتقد أنه من الخطأ اعتبار النص يحمل معنى واحدا ونهائيا. ولهذا سنلاحظ أنه كلما تم التعاطي مع الخطاب النقدي فإن مطلب حرية التأول يطرح نفسه بإلحاح. وإذا أصبح أكيدا أن كل نص إبداعي يعطي إمكانيات لا متناهية للتأويل، فإنه لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يصبح الخطاب التأويلي بديلا عن الخطاب الإبداعي نفسه.

إن أية محاول لبناء نموذج منسجم وفعلا للتلقي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما قصد الكاتب قوله ولكن ما "أفلت" منه أيضا من خلال الدينامية الداخلية الخاصة وقواعد تركيب اللغة التي تعتمل وتتشكل داخل النص الإبداعي. وإذا ما أخذ هذين البعدين في الحسبان في إنتاج الخطاب النقدي حول نص من النصوص فإنهما يمدانه بذلك التوازن المطلوب لأنه لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يمتلك المعنى "الحقيقي" للنص الإبداعي. وهذا هو بالتحديد المشكل الذي يطرحه الخطاب النقدي لأنه يستحيل إعطاء الأولوية المطلقة لقصد الناقد على حساب النص وكاتبه.

فمحاولة كهذه تحبس النص في أحادية يرفضها أصلا باعتبار طبيعته كبناء رمزي. وصلاحية أي تأويل ترتبط أساسا بالأخذ بعين الاعتبار لكل المكونات التي تتفاعل في التواصل الأدبي نظرا لخصوصياته كحقل معرفي قائم الذات. من المستحيل إذن الإقرار بأحادية هذا النص أو بانفتاحه على إمكانات أخرى انطلاقا من مكون واحد من مكونات هذا التواصل وبالتالي لا يمكن تناول مسألة التأويل داخل المطلق.

إن التسليم بقابلية واستعداد الناقد أمام النص يقابله كذلك القصد للنص ولكاتبه. من هنا يصبح مشكل تحليل الخطاب النقدي مرتبطا بالقدرة على إيجاد "معايير" للتقييم والمراقبة، كتلك التي حددناها وركبناها في نموذج شامل (انظر الهامش رقم2) يتيح إمكانية تقييم خطاب الناقد بكل موضوعية وأمانة علمية. وحين يفكك الناقد النص الإبداعي في أفق إعادة تركيب معناه من خلال خطاب نقدي مؤسس لا يمكن أن ينطلق فقط من مبادرة الكاتب وإنما بالرجوع إلى مجموع العناصر التي تسهم في بنية التواصل الأدبي فعلى الأدوات والمفاهيم الإجرائية التي يستعملها الناقد في عملية التأويل أن تحمي فعل القراءة دون أن تفتحه بشكل فضفاض على لا متناهية التأويل الممكنة.

وهكذا، فالنقاش الذي نطرحه هنا يمكن حصره في تحديد ما إذا كان الخطاب النقدي اكتشافا أم إبداعا. وبعبارة أخرى، هل من واجب الناقد أثناء إنتاج خطابه أن يعمل على اكتشاف معنى النص، أي أن يشرحه لباقي القراء لأنه يلعب دور الوسيط بين المبدع وقرائه، أم عليه أن "يبدع" معنى آخر حول هذا النص؟ من هنا تنبغي الإشارة إلى أن نشاط الناقد، والتأويل جزء منه، لا يمكنه إلا أن يتأرجح بين الذاتية والموضوعية، بين خطاب وصفي يحاول أولا إعطاء نظرة على النص الإبداعي كما هو، وخطاب تقييمي يفتح الناقد مجال إصدار الأحكام.

وهذا ما تلمسه فالديس حين يؤكد أن "وظيفة التأويل هي إنتاج فهم وبالتالي تقاسم معان محددة مع قراء آخرين"[8].

من هذا المنطلق، يمكننا اعتبار أن وظيفة النقد الأدبي تتفاعل بين الفهم، لأنه شخصي بطبيعته، والشرح، لبعده الاجتماعي ولأن بناء المعنى لا يمكن أن يتم إلا إذا أدخل النص في ظرفية مسبقة. وهنا ينبغي التركيز على البعد التواصلي للأدب الذي يحتم على الخطاب النقدي أن يصدر أحكامه انطلاقا من عملية التبادل الني تحكم مختلف مكونات الحقل الأدبي. ذلك أن حقيقة الفعل النقدي تكمن في التقاء الفهم مع الشرح ويصبح التأويل نشاطا متخصصا يتحقق لفائدة جماعة القراء.

ولكي تتضح أكثر هذه الرؤية المعاصرة لنشاط الناقد في تعامله مع النصوص الإبداعية، نوجزها في ثلاث عمليات مترابطة: أولها اختيار النص موضوع الدراسة النقدية، ثانيها: ممارسة فعل القراءة لفهمه والغوص في مضامينه، ثالثها: صياغة خطاب نقدي حول هذا النص، وإذا كان على الناقد أن يتقيد بالصرامة المنهجية والنزاهة الفكرية في تركيب معنى النص وتأويله فإن ذلك لا يلغي حقه المشروع في إبداء ملاحظاته وإصدار أحكام قيمة اتجاهه. وهذا ما يبرر جدوى المقاييس التي حددناها أعلاه في النموذج النظري الذي يمكن من دراسة الخطاب النقدي –بغض النظر عن المدرسة التي ينتمي إليها- على أسس علمية ومنهجية واضحة. ومن شأن هذه المقاييس أن تساعد على تجاوز إشكالية الذاتي والموضوعي في النقد الأدبي لأنها تمدنا فعلا بأدوات تحليل وتقييم هذا الخطاب. ولن يؤدي هذا التصور إلى النتائج المرجوة إلا إذا انطلق من التحديد التالي:

إن تأويل نص من النصوص يعني امتلاك قصديتها هنا والآن. أما شرحه فهو إبراز بنيته أو بعبارة أخرى التعليق على نظامه الداخلي في الإطار العام للنصوص التي نصنفها باعتبارها نصوصا أدبية، وأما فهمه فيقتضي التمكن من وحدته والاستجابة لمتطلباته. وخلاصة القول أن تأويل النص الإبداعي يعني اتباع النهج الذي يفتحه هذا النص وإيصال هذه التجربة[9].

ومن الخطأ أن يدعي الناقد أنه بالإمكان إعطاء تأويلات نهائية أو حقائق موضوعية عن النص الذي يخضعه للدراسة، لأن هذا الأخير يتيح إمكانات لا متناهية لبناء المعنى على الناقد أن يستحضرها خلال بناء خطابه النقدي وكذا مختلف الأهداف التي تنبني حول النص. وخلاصة القول أنه آن الأوان بالنسبة للنقد الأدبي العربي أن يؤسس لنموذج نظري يمده بالأدوات العلمية والمنهجية للتعاطي الرزين مع النصوص وتجاوز المعيقات التي تحيط بعملية التأويل وتغرقها في الانطباعات الذاتية التي تسيء إلى النص الإبداعي بقدر ما تسيء إلى الناقد نفسه n






[1] - النموذج الذي نقترحه في أطروحتنا يحدد عدة مقاييس موضوعية تمكن من مناقشة الخطاب النقدي على أسس علمية وموضوعية نوجزها هنا بتركيز شديد حتى نضع القارئ في الصورة وهي كالتالي:

ــ استراتيجية القراءة: موضوع الدراسة النقدية ومنطلقاتها النظرية والمنهجية.

ــ تحليل البناء الداخلي للخطاب النقدي:

أ ـ العلاقة المرجعية مع النص الإبداعي موضوع النقد.

ب ـ تعليل أحكام الناقد.

ج ـ الحصيلة المعرفية حول النص الإبداعي.

ــ إشكالية وحدود التأويل في الخطاب النقدي.

[2] - هذه الطريقة السائدة في التعاطي مع النصوص الأدبية غالبا ما تسيئ إلى حمولتها الفكرية والجمالية لأنها تخضعها لأحكام مسبقة ومنطلقات فكرية أو منهجية أو إيديولوجية يعتقد كل ناقد أن تلك التي يؤمن بها هي الأصلح، لهذا أصبح من الضروري التفكير في نموذج علمي لتحليل الخطاب النقدي يخلق نوعا من التوازن الضروري بين التقيد بالمنهجية العلمية ويضمن حرية الناقد في اختياراته.

[3] - نقصد هنا بالتحقق مبدأ La réalisation الذي دافع عنه ISER في كتابه فعل القراءة.

[4] - ECO (U), Les limites de l’interprétation, Paris, Eds. Granet & Faquelle, 1992, p32.

هذه الاستشهادات مترجمة نقلا عن الطبعة الفرنسية للكتاب.

[5] - INGARDEN (R.), Das literanche Kuntwerk, Tübingen, 1960.

[6] - ECO (U.), L’oeuvre ouverte, Paris, Seuil, 1965, Traduit de l’italien par C. Roux, Bézieux.

[7] - ECO (U.), Les limites de l’interprétation, p26, 27.

[8] - VALDES (M), «De l’interprétation », in Théorie de la littérature, collectif, Paris, PUF, 1989, p275.

[9] - نفس المصدر السابق، ص278، تمت الترجمة نقلا عن الطبعة, الفرنسية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى