ألف ليلة و ليلة كتاب الليالي : باسم عبد الحميد حمودي - السرد بغدادياً.. مهدي كاشف أسرار الليالي والأعرجي يوضح إسم المؤلف

دخل السرد العربي أسوار بغداد مكانا وثقافة منذ أن نشيأت بغداد العباسية حتى يومنا هذا ولا يمكن محاسبة السارد القديم بمعايير الساردين المعاصرين ،فما صح قديما وأصطلحت عليه الاقلام وأفواه الرواة لا يمكنه أن يصح اليوم ،اذ استبدل اهل الارياف قعدات السرى القديمة ومعظم جلسات المضايف بمشاهدة الراوي الحديث ، التلفزيون ، وبذلك انحسر أوضعف تأثير الراوي ، السارد الشعبي على المتلقين ، ومن الطبيعي هنا اني لا أتحدث عن السارد المدون القديم كابن سينا أو أبن المقفع او السهروردي بل بعدة انشغالات يحكمها الزمن .

تبدأ الانشغالات السردية بقعدات السرى في مضايف القبائل وجلسات الفلاحين، مع وجود هذا الخلل التركيبي بين المضايف السريعة الحركة والتحول من مكان الى آخر بالنسبة للقبائل الرحل والمضايف الثابتة للقبائل المستقرة وساحات قرى الفلاحين التي تتواجد في مصر والسودان والمغارب ويوجد مثلها في العراق والسعودية وسائر ارض الخليج وهي مضايف الوجهاء والشيوخ ومالكو الارض حيث يتجمع الناس ساعات المساء ليسمروا أو ليستمعوا الى من يسامرهم من رواة سير وشعراء.

السرد هنا شفاهي وقد يعتمد على مدونة صغيرة للسارد الشاعر – المنشد – الراوي.فاذا دخلنا المدن وجدنا مضايف المتقدمين اجتماعيا تنعقد مساء ووجدنا المقاهي تستضيف الحكواتي والراوي في رمضان،وهناتتداخل الوسائل وتتغير اساليب المحافظة على المتون السردية،من رواية شفاهية تعتمد الحفظ والتغيير في الرواية حسب مقتضى الحال الى مدونة مكتوبة تحتمل التبديل في اقسامها حسب الراوي – المنشد، الى مدونة مطبوعة -زمن المطبعة- ثم الى مدونة صورية وقد دخلنا عصر السينما والتلفزيون،لكن السارد يظل هو الانسان الذي يستعين بالتطور العلمي ليحقق درجة من النجاح أفضل من السابق في حقل الاداء والتأثير السردي على المتلقي.

ظهرت بغداد كمدينة وعاصمة للامبراطورية الاسلاميةعام 145 للهجرة المصادف لسنة 762 للميلاد لكن ظهور المادة السردية عنها قد أعقب هذا التاريخ بالطبع

واذا كانت (الف ليلة وليلة) هي المادة السردية البغدادية القديمة هي الاهم في حقول الدراسات فان مواد اخرى قد ظهرت لكنها اقل تأثيرا على الذائقة المجتمعية من الليالي العربية التي غزت العالم على يد (الاستاذوليم لين) وغيره من المستشرقين.

تغريبة الخفاجي

أن جزءا عراقيا من (تغريبة بني هلال) بطله الفارس العراقي عامربن ضرغام الخفاجي يشتغل السرد فيه عراقيا ويصور جزءا تاريخيا من (بغداد)، ذلك ان الخفاجي عامر كان يحكم -وفق رواة السيرة والتغريبة – ارض كبيسة وقصر الاخيضر وصولا الى البصرة وبغداد

رواة السيرة الهلالية والتغريبة يشيرون الى قدوم الهلاليين من بلاد فارس الى العراق، واستضافة ملك العراق الافتراضي عامر بن ضرغام لهم وهويرحب بهم وينشد لاميرهم حسن:

قال الخفاجي بن ضرغام عامر

يامرحبا بك في من اتواالبلاد

يامرحبا بك يا امير ابو علي

يامقري الضيفان والقصاد

وبعد ان يرحب بالامراء الاخرين يقول :

أوهبتكم ارض ا لكبيسة كلها

من هاهنا حتى الى بغدادي

وذلك يعني ان عامرا هذا يملك بغداد كما يملك البصرة وان الهلاليين مروا بهما كما سكنوا كبيسة عدة اشهر قبيل رحيلهم الى بلاد تونس وفي كتابنا (تغريبة الخفاجي عامر العراقي) بطبعتيه البغدادية(1994) والقاهرية (2000) تفاصيل كثيرة عن سيرة حياة الملك العراقي مع الهلاليين.

ويجد د. عبد الحميد يونس في كتابه (خيال الظل)ص60-61 ان المقامة تعد لونا تمثيليا فيقول :

(جرت العادة عند مؤرخي الادب العربي أن يتصوروا المقامة

من الانواع القصصية،فقد يسردها قصاص وقد يدونها أديب ليتذوقها جمهور القراء،والواقع أن المقامة في أصلها لون تمثيلي يقوم به ممثل فرد، وأنها من القيام في دار الندوة أبان العصر الجاهلي،ومن هنا أمتزجت بالسرد القصصي وتطورت في العصور الاسلامية ألى مواقع يؤديها الزهادأمام الخلفاء والسلاطين والوزراء…الخ) ثم يستعرض يونس أنواع فصول أبن دانيال من بايات فيجدها جميعا تتصل بالقاهرة أرضا وشخوصا ألأتمثيلية (علم وتعادير) ومسرحها بلاد الشام وبطلها (تعادير) تاجر بغدادي رحل تاجرا الى الشام وهام حبا بشابة تدعى (علم) وجرى ما جرى بينهما من أحداث السرد فيها قليل و المادة المسرحية المعروضة تنطوي على الشعر في الاعم الاكثر.

وتأتي المقامات لونا مهما واضحا من الوان السرد البغدادي القديم سواء عند الهمذاني أو الحريري أو أبن الجوزي رغم أن مسارح الاحداث فيها لا تتصل ببغداد وحدها لكنها تنتمي اليها ادبا وحكمة وحسن أداء.

وتعد (الف ليلة وليلة) تحفة بغدادية سردية كتب عنها آلاف البحوث الشارحة والمحللة بمختلف اللغات، رغم أن مسارحها متنوعة، لكن هارون الرشيد خليفتها البغدادي وجعفر وزيرها، لكن أبطالها يتنقلون بحرية الخيال المدون الى معظم العواصم العربية ومسارح الف ليلة متعددة تمتد الى مدن الشرق الرئيسة القائمة ايام تدوينها، ولكنها تستعيد هويتها البغدادية دوما، ذلك أن حكاية دليلة المحتالة الساحرة وغريمها اللدود علي الزيبق تتنقل فصولها بين القاهرة وبغداد وتنتهي في عاصمة الرشيد ، وحكاية الجارية العالمة دنانير واحدة من تلك الحكايات البغدادية المتقنة الصياغة، مثلها في ذ لك مثل الصياد والنهر والتاجر البغدادي والجارية وعشرات غيرها.

من هو كاتب الليالي الالف ؟!

سؤال يتردد دوما ولايقطع به كثيرون خشية الخطا والتعرض للأنتقاد لا النقد، ولكن : لايعقل أن نقدم هذه المدونة الدرامية الفكرية الغرائبية بلغتها المتداولة المتقولة من جيل الى جيل هدية للنساخ والكتاب المجهولون، والوراقون القاهريون والشاميون والبغداديون الذين أضافوا ألى أصل المدونة الجليلة ما شاب أصالتها ، بل لابد من مؤلف واحد اساسي كتب الفصول الاساسية وصاغ الحكايات الرئيسية المحيطة بالحكاية الاطار، ثم اضاف الوراقون بعد هذا ما أضافوا،ثم جاء العلامة الراحل الدكتور محسن مهدي ليحقق الروايات جميعا ويقطع بالعدد الذي حدده للحكايات الاساسية التي احاطت بالحكايةالأطار وكان عددها(282) أضاف لها الوراقون والنساخ ما شاءوا ليصل العدد الى ما تعارف عليه. والدكتور محسن مهدي مثقف عراقي عالمي كبيروهو أحد شباب جماعة الوقت الضائع في شبابه عندما كان طالبا في دار المعلمين العالية (وهو يستحق منا دراسة مفردة غير التي دونتها عن تحقيقه لليالي العربية).

ولد البرفسور مهدي في 21 حزيران 1926 في كربلاء ودرس في يغداد وبيروت والولايات المتحدة وتوفى في مدينة بروكلن في التاسع من تموز 2007 وهو استاذ كرسي في جامعة شيكاغو وعميد دراسات الفلسفة الوسطوية العربية عالميا،وقد أقام له تلامذته في كل المدن والجامعات التي درس فيها في الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وفي المغرب وتونس احتفالات تأبينية مميزة،ولم تذكره بغداد الا بمقالة هنا وهناك فيما أقام له طلبته بالقاهرة حفلا تأبينيا علميا مدة ثلاثة أيام ابتداء من يوم 29 تشرين الثاني 2007، وقدنظم هذا الحفل العلمي مركزدراسات التراث العربي في جامعة القاهرة بالتعاون مع الجامعة الامريكية بالقاهرة وكان عنوان الحفل – المؤتمر: (د.محسن مهدي الفلسفة وألآداب وتاريخ العلم).

تحقيق علمي

وأجدني أطلت في ذكر محسن مهدي لأنه يستحق هذا، أذ هو الوحيد الذي حقق الف ليلة تحقيقا علميا شافيا دون أن يكشف عن مؤلفها الحقيقي، وكنت قد خصصت فصلا عن محسن مهدي وكتابه (الف ليلة وليلة من أصوله العربية الاولى) في كتابي (سحر الحقيقة) أشرت فيه الى جهده الكبير في التحقيق والكشف والتوثيق. المحاولة التي قام بها جمال البدري بتقديم الليالي العربية الى يهود بابل والمدائن محاولة بائسة وغريبة ويعوزها أي دليل، لكن محاولة الاستاذ حمزة حسان الاعرجي جديرة بالاعتبار.

اصدر الاعرجي الموصلي كتابه عن مكتب الضياء بالموصل في حزيران 1999 بعنوان (تاريخ الف ليلة وليلة) وقد جاء في مقدمة واربعة فصول حلل فيها الحكايات فنيا وتاريخياوردها الى أصولها قبل أن تجمعهاقلم كاتب واحد صاغها بلغته قبل أن تعبث بها أقلام النساخ والوراقين.

في فقرة خاصة من الكتاب وضعت تحت عنوان(من هو كاتب الليالي ؟) يصور الكاتب حياة مؤلف الليالي المفترض وهو الاديب (ابو حيان التوحيدي)، ويأتي من الادلة السلوبية والتاريخية والبحث في شخصية التوحيدي وكتبه الاخرى ما يرجح نسبة التأليف اليه دون سواه لكنه خشى من حكام الفترة التي عاش خلالها فلم يضع اسمه على هذا الكتاب المعجز -على رأي الاعرجي – وفضل الصمت عن نسبته وهو يذيعه بين الناس ويتكسب منه وراقا لا مؤلفا. يقول الاعرجي في صفحة59-60 ما نصه : (بلغت مؤلفات ابي حيان أكثر من خمسين كتابا ضخمامنها:(أوصاف المجالس) و(ترويح الارواح)و(عجائب الغرائب) و (المفابسات) وغيرها كثيرتحس من خلال أسلوب كاتبهاالذي يكاد يتطابق تماما مع أسلوب كاتب (الف ليلة وليلة) فاذا قرأنا مدخل هذه الحكايات التي يفتتحها القاص بهذه العبارات.. ألخ) وهو هنا يورد مقاطع من المقابسات وغيره من كتب التوحيدي تتفق ونصوص بعض حكايات الف ليلة، وله بعد ذلك آراء تؤكد هذه الصلة بين السارد الكبير (التوحيدي) واسلوب الليالي.

ونحن نأخذ تحليل الاعرجي ونسبته مؤلف الكتاب على محمل الجد لاجتهاد الباحث وحيوية فكرته دون ان نقطع برأي جازم لصعوبة القطع، لكننا نجد في جرأة السارد القديم لألف ليلة واستلهامه لقصص الاكليل وغيره ما يقربه من التوحيدي دون غيره، وما أضافات النساخ الا تضييع لهوية الليالي وعراقيتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى