عبد الستار ناصر - يمين الطلاق، على شيء ما..

أشعر دائماً أن شخصاً ثالثاً يمشي معي، ينام معي، يأتي ويذهب معي أنا وزوجتي، قد تشعر بذلك زوجتي سهواً، أما أنا فالسنوات مرت ومازالت تلك الشخصية التي تشبه الشبح تتبعني في المطبخ وغرفة المعيشة حتى في الحمام وتحت الشاور، هو لا يؤذيني أبداً، بل يسعدني أحياناً (أن هناك من يتكلم معي ويضحك ويبكي وينام معي وقد أسافر ويعد الحقيبة قبلي).
يسبب الصداع لي أن أفكر قبل النوم أن يكون هذا الكائن الشبحي ينام تحت لحافي يقول آخر الكلمات، يضحك كما أضحك، يوقظني صوت زوجتي أو الصحيح يوقظني الشخص الثالث بصوته الطروب، أقول الحقيقة أن صوته يشبه صوتي ولا تختلف نبرته عن نبرتي.
ثمة من يشطب أسراره في قاع الروح ولا يبوح بها، أنا مثلهم، أخفي أسراري ولا أقول أي شيء حتى لزوجتي، هي أيضاً أكثر مني كتماناً، أحياناً نحكي عن أشياء تشبه الذهاب الى الفضاء مثلاً، نزول شخص على القمر، اكتشاف مجرة تستطيع العيش فيها كما تعيش البشرية حتى إذا كان ثمة شخص ثالث بين اثنين، أسمعه أحياناً يقول أشياء غير مفهومة وأشياء مضحكة أضطر أن أضحك معه فيراني الناس في الطريق، مجنون آخر زمن، لا أدري كيف امنعه وأنا رجل تجاوز الخمسين، عندي زوجة ذكية وجميلة أعترف انني أخجل أمامها أن الشخص الثالث يجلس حقيقة بيننا وليس أكذوبة، لكنها تذهب الى الفراش ولا تعترض برغم الشهور والسنوات، لكنها في سنة ما، في حفلة رأس السنة، أمام جمهور حاشد، قالت أخطر اسراري، وأنا أحتسي النبيذ، ثمة شخص ثالث يعيش في جسدي، قالت أشياء أكثر مما أعرف، ماذا تقول هذه المعتوهة؟ صرخت بقوة مئة رجل، هذا هراء، ما تقولين كذب في كذب، وخرجت من القاعة وأنا أسمعهم يكررون الهراء نفسه، ولم تعد زوجتي الى البيت، ثلاثة شهور وهي بعيدة عني (زعلانة) .. هكذا فجأة جاءت، دخلت غرفتها وابتسمت، قالت: أنا آسفة، قالتها أربع مرات، ثم جاء الليل ودخلت الغرفة كأن شيئاً لم يحدث.
**
لم أسال عما فعلت في حفلة رأس السنة، وهي بدورها لم تفكر قط بما فعلت، وبقي الشخص الثالث في هرج وصخب يرقص في جسدي، وتحت جلدي، والعجب العجاب كما يقول أهل الشام بدأت أخاف من زوجتي: أن تكون تحكي للجيران بعض الخفايا عن الشخص الثالث وما يفعله معي حيث أراهم ينظرون بشماتة لا تخلو من وقاحة (ترى هل الشخص ذكر أم انثى)؟.. أخفي وجهي في الحالتين، أن يكون الشخص الثالث أنثى أو ذكراً، غرقت في الخمرة حتى الثمالة، أيام وأنا خارج البيت، أنام في بيت أهلي، أبكي بصمت، عندما أعود إلى بيتي أشعر بالغربة، حياتي معكوسة، لا أشعر بأية لمحة من الحب وأنا في بيت الزوجية، بالعكس بين أبي وأمي، فرحان حتى مع الشخص الثالث، فرحان وسعيد، أنام بلا كوابيس، قالت أمي: طلقها، الدنيا مليانة نسوان، نسوان، طلقها، مليانة، لم أسمع سوى كلمة دنيا، وقررت فعلاً الذهاب الى المحكمة، وأقسمت يمين
الطلاق أنا والشخص الثالث، كنت أسمع الشخص الثالث يضحك ويبكي، وإذا به يبتعد عني، عن جلدي ومساماتي وأظنه استمر في البكاء، أما أنا فوجدت نفسي في أقرب مقهى وطلبت سحلبا بالحليب، ضحك النادل وقال: ما هذا يا أستاذ؟ قلت: حسناً، شاي أخضر، قال النادل: يا أستاذ سأقول لصاحب القهوة، نهضت من مكاني ومشيت هارباً من تلك المقهى ورحت أنفث سيجارة لم يكن ثمة ما هو ألذ وأمتع منها.
**
صحوت صباحاً في السابعة، لا أدري إن كان فندقاً أم بيت أبي او عدت الى بيتي، أولاً ليس هذا فندقاً فهو أكثر أناقة من بيتي وأكثر دفئاً من بيت أبي، ثانياً لم أكن أنا طوال مافات من أسابيع وشهور، خمور وطلاق مع أنني تركت عملي بحجة مرض عصابي، رأيت ورقة الطلاق وتأكدت أنها مازالت في جيب معطفي، لم أندم ولا دقيقة واحدة على الطلاق، لو أنني عشت حياتي من جديد كنت حذفت الشطر المتعلق بها، الليالي والنهارات والمشاحنات حتى الضحكات التي لا معنى لها، كنت أعيش في سجن منقّع مبلل حتى جاء الشخص الثالث وأنقذني من وحدتي وأخذني معه نحو الدهشة، لكنه عافني عندما اعترض على طلاقي، هكذا، ورحت أبحث عنه، أبحث عن وهم، عن شبح، عن (شيء) لا وجود له.
الآن، اختفى الشخص الثالث، سنوات مرت وهو معي، لا أصدق ما جرى، أغازل نفسي، أدغدغ أعضائي عضواً عضواً، ولا فائدة، أمشي بين الناس مرفوع الرأس وهم يبتسمون كأنهم يعرفون ما جرى، لا وجود للشبح، لا وجود للوهم الذي عاش في غضاريفي، أكاد أغني طرباً في الطرقات والدروب والشوارع، برغم حزني الكبير على فقدان غريمي، الحياة صارت (شرم برم) وأنا بين أحضانها أهتز مثل بندول الساعة، شرم، وبين أعماقها لست سوى برم يلعب فيه الشخص الثالث شمالاً وشرقاً، أريد الخلاص من الخمور مع أنني لا أقربها منذ تخلصت من زوجتي، البيت لا يقربه أحد، أنا في بيت أبي وزوجتي في بيت أهلها، لا أحد يسأل عن أحد، والحالة بحق (شرم برم)... لا أعرف أي شيء عنها ولا تعرف أي شيء عني، الشخص الثالث لم يعد إلى جسدي، خواء في خواء، أمي مازالت تكرر: طلقها، الدنيا مليانة نسوان، وأنا سمعت كلامها وكلام الدنيا، ورأيت الدنيا مليانة نسوان حقاً!
في بيتي ذات أعجوبة دخلت عليّ مطلقتي، كانت تبتسم، علموها أن تتحرش بي، أن تفعل أي شيء حتى تسقط ورقة الطلاق، وأنا لا أعرف تعاليم آل صهيون، رحت إلى غرفتنا قبل أن تنتهي مئة يوم، وكان ما كان من الحكاية بدخولها بيت الطاعة، وصادف حينها دخول الشخص التائه، الشخص الثالث، قلت لها: أما زلتِ تثرثرين مع الجيران عني؟ كانت أكثر من خائفة وكادت تصرخ، لكنها اكتفت بالقول: أثرثر؟ هل رأيتني ذات مرة أثرثر مع أي واحد من البشر؟
حقاً هي لا تحكي أبداً، وحكاية رأس السنة حكاية فبركها عقلي المريض، الشخص الثالث كان معي، ربما كان يرسم الحكاية وقد أحسن رسمها، كان يلعب لعبته ويخطط حياتي نيابة عني، طلقت زوجتي بأمره ثم أعادها كأنني لا وجود لي، وها هو ثانية يأتي برغم أنفي ويغازل زوجتي ويضحك نيابة عني، يبكي عندما أريد الضحك، يصرخ عندما أريد السكوت، ماذا أفعل؟ هل أذهب الى المحكمة وأرمي يمين الطلاق على الشخص الثالث؟ ومن ترى يصدقني، هل ثمة من وهم أو شبح أو(شيء) لا ملامح له نطلق عليه يمين الطلاق؟ مسخرة، هكذا سأكون، مجنون آخر زمن، سوف يضحك مني جميع أطفال الدنيا ويكررون: هه هه مخبل، والشخص الثالث سيقول معهم: هه هه مخبل، وأنا أموت ببطء، أموت دون أن يدري أحد، أهمس في داخلي: لماذا أنا دون غيري، وأرى الأطفال يرمون الحجارة وأسمع البهجة تصرخ بي، هل للحجارة بهجة وصوت؟ نعم للحجارة صوت وبهجة إذا أمسك بها الأطفال وطاردوك في الأزقة والدرابين والشوارع الخلفية، وأنا مرصود جنوباً وغرباً، حياتي هراء في هراء وزوجتي في البيت لا تدري ماذا يجري، والأطفال يحكمون قبضتهم من كل جانب، أحتاج الى الليل حتى يختفي الأطفال وتختفي وقاحتهم، ربما أنتقل إلى منزل آخر بزقاق آخر بعيد عن هؤلاء المخابيل، الذين يلعبون بالحجارة كسلاح طوال النهار وأنا الضحية لهم، أنكسر أمامهم، حتى أن الحجارة لم تعد في الزقاق فقد احتفظوا بها لحرب اخرى.
**
مجنون آخر زمن حتى أنني أسافر مثل العقلاء، ذهبت بالقطار إلى نينوى والبصرة وكربلاء ولم يركض ورائي الأولاد، سافرت إلى دمشق وبقيت ثلاثة أيام بلياليها ولم يعترض طريقي أحد، جن جنوني بكل ما رأيت وبخاصة البشر، النساء الطيبات يشبهن القيمر البغدادي، ربما كان القيمر البغدادي يشبه النساء الدمشقيات، ثلاثة أيام رجعت بعدها إلى الحجارة التي يرميها شياطين المحلة مع البهجة وبلا خوف ودون إحساس بالهلع، يتكرر عندها النشيد (هه هه مخبل) وأنا أذبل وأرجو أن أركض خلفهم وأضرب أي واحد منهم، دخلت بيتي رأيته فارغاً، ليس هذا بيتي الذي أعيش فيه، لا أحد، حتى الشخص الثالث اختفى وراح يمرح ويسرح في جسد آخر، هل يمكن أن يذهب إلى جسد غير جسدي؟ هو الذي تربى على جيناتي وحيامني ومساماتي، كيف له أن يهجرني بهذه السرعة؟ لابد أن أهجره بالسرعة نفسها، بل أهجره الى الأبد، ربما أقسم يمين الطلاق عليه وأصرخ بقوة مئة رجل: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.
وهدأت، هدوء عجيب، هدوء لم أعشه طوال حياتي، هدوء غريب انتبهت اليه زوجتي واقتربت من رأسي وقالت: الحمد لله يبدو أنك تعافيت.... في تلك الساعة خرجت الى الزقاق، نظرت الى الأطفال، نظرت اليهم واحداً واحداً، إنهم يهربون مني، ثم عدت الى بيتي، نظرت الى زوجتي (الحمد لله يبدو أنك تعافيت)... بقيتُ على تلك النظرة الصارمة حتى قلت لها: لقد تخلصت منه، صار من الماضي ومن الشخص الثالث، ضحكت زوجتي وكادت تزغرد وقالت: كانت ضرتي، الحمد لله ذهبت الى غير رجعة.
ـ هل كنت تعرفين بالأمر؟
ـ طبعاً، الضرة تعرف الضرة.
المهم، ذهبت الى غرفتي ورميت نفسي على فراشي، أغمضت عيني ونمت نومة الكافر، أطول نومة في حياتي، من السابعة مساء الى السابعة مساء، أربع وعشرون ساعة، صحوت ولم أسأل عما جرى، كم هو صعب أن ترمي يمين الطلاق على شيء ما !؟

* قاص عراقي مقيم في كندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى