عقيل عبد الحسين - خسارتنا من التوافق النقدي على رواية زينب

لماذا كانت رواية زينب لمحمد حسنين هيكل لحظة البداية للسردية العربية الحديثة، وقد كانت مسبوقة بعدد من الروايات منها «وي.. اذن لست بإفرنجي» (1860) لخليل خوري، التي تلتها روايات فرنسيس مراش الحلبي وزينب فواز وفرح انطون وجرجي زيدان؟
يقول عبد الله إبراهيم إن السبب في ذلك يعود إلى أن زينب امتثلت لمواصفات النوع الروائي كما هو عند الغرب. وتبعاً لمناهج المستعمرين التي سادت عندنا بتأثير الحقبة الاستعمارية فإن الأدب العربي الحديث يُؤرخ بتأثر أشكاله في الأنواع والحركات والمذاهب الأدبية الغربية.
من ناحة ثانية- وهذا أمر يتفق عليه النقاد - فإن رواية زينب سجلت اختلافاً مهماً عن الرواية التي سبقتها، ففيها يستقل العالم الروائي كلياً باستثناء بعض آثار تدخلات المؤلف فيما يخص موقفه من الظلم الاجتماعي والتقاليد البالية خاصة في الريف. وكذلك تتميز عناصر المروي كالمكان والزمان والشخصيات وتتصل الأحداث وتترابط برباط سببي يقود إلى حبكة واضحة رغم توزعها بين أكثر من شخصية رئيسة ولكنها تظل حبكة غرامية. يؤكد ذلك تسمية الرواية باسم زينب فهي تحكي قصتها في تنقلها من علاقة عابرة بحامد ابن الاقطاعي إلى علاقة مستقرة وثابتة وأبدية بإبراهيم ابن الفلاح تنتهي بموت إبراهيم مجنداً بعيداً عن بلدته وموت زينب متأثرة بعاطفتها تجاهه.
كما يستقر– في زينب - المنظور الروائي. إذ يمرّ العالم الروائي من خلال عدسة راوٍ كلي العلم يسلط كامرته على جميع عناصره فيقف على دواخل الشخصيات وأفعالها وأقوالها وعلى البيئة التي يتحركون فيها، وهو يوظف كل ذلك من أجل دلالة اجتماعية هي انتقاد الظلم الاجتماعي والثقافي في الريف المصري. وهي أي الدلالة الاجتماعية ما استقر النقاد والكتّاب على أنه دور الرواية الرسالي والأساسي الذي عليها أن تقوم به في مرحلة النهضة والتحديث التي كان العقل العربي يتخيل أنه يعيشها آنذاك.
إذن، دخلت الرواية وما زالت إلى الآن متشبثة بذلك الدور الذي صار يحتاج إلى مراجعة، دخلت طرفاً في معركة الإصلاح والتحديث التي كان يقودها ويوجهها مترجمون ومفكرون ومصلحون كلطفي السيد ورفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مستجيبةً إلى النقد الإقصائي التحقيري الذي كان امتداداً لوجهة نظر ثقافية عامة من السرد بوصفه تسلية واستخفافاً بالعقول ونشراً للسخف. الشيء الذي يجب أن تمتنع عنه الكتابة الرفيعة.ومتوافقةً مع مواقف المفكرين الذي كانوا يرون أن الأمة بحاجة إلى التوجه إلى الخطاب المباشر الإيقاظي صريح الدلالة بدل التورية لإحداث التغيير المرجو، أو النهضة المرجوة. الأمر الذي جعلهم يكرهون ويكّرهون الناس بأدب التورية والخيال الذي تمثله الرواية.
ولكي تحظى الرواية بالاعتراف وكاتبها بالاعتراف ولا يرى في كتابتها عيباً،فعليه أن يقوم بمتابعة الواقع ووصفه ونقده. أي عليه أن يكون رائياً لا رؤيوياً. كما كان شأن المرويات العربية الأولى. وكما هو السرد عموماً. وبذلك بدأت العين تزيح العقل وما يرتبط به من ذاكرة (فحتى السرد التاريخي تراجع) ومن استبصار.
ما ربحنا نحن القراء من هذا التحول وما خسرنا؟ لا أظن أن لنا في الأمر أي مكسب فلقد خسرنا المرويات (مرويات الرؤية) التي كانت تنعش خيالنا وتبعث فينا أمل التحرر وتشحذ الذاكرة الضرورية للتواصل مع الثقافي خارج الامتداد التاريخي الكاذب بدرجة كبيرة والذي يخدم الأنظمة المتسلطة والمؤسسات التقليدية الدينية والثقافية والتعليمية وكل ذلك لتجعلنا في مواجهة مريرة مع نتاج الحتمية الثقافية والتاريخية التقليدية العربية التي لا يمكن أن تنتهي بغير هذه الأنظمة التسلطية الحاكمة التي يختلف شكلها ويبقى مضمونها واحداً. وهي بروحها وشكها لن تؤدي أبداً إلى غير واقعنا الذي تتراكم فيه طبقات الظلم والتسلط وتتحول مؤسساته وقوته الرمزية والفعلية إلى أداة لإخضاع الذات والإنسان وتركيعه للقبول بمصيره وبوضعه في تراتبية المجتمع والثقافة والسلطة.
لهذا اعترفت الثقافة الرسمية العربية من خلال مؤسساتها التعليمية التي ظلت بيد الدولة بالرواية وعدت زينب بدايتها الحقيقية. أذكر أن روجر ألن – مؤرخ الرواية العربية - يقول ان السلطة انتبهت الى ما يتضمنه كتاب حديث عيسى بن هشام للمويلحي من تمجيد للتراتبية الاجتماعية التقليدية القائمة على التمييز بين أبناء الاصول والعامة ونقد لخلختلها المضرة بالبلد، فجعلته ضمن مناهج التعليم لكن بعد أن تُحذف منه شطحات انتقدت صورة رجل الدين والحاكم. شطحات لم ينتبه إليها الكاتب لأن الكتاب كان متفرقاً وعلى صورة مقالات في الصحف نُشرت على مدار سنوات. وفعلاً قام المويلحي بحذفها ليدّرس كتابه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى