عباس محمود العقاد - الله وما بعد الحرب!

سئلت في أواخر الحرب عن الموضوعات الأدبية التي ستكثر الكتابة فيها بعد عودة السلام، فقلت: أنها هي الموضوعات الروحية والموضوعات الجنسية.

وسبب الإكثار من الكتابة في كلا الموضوعين واحد وهو الحيرة وقلق النفوس والرغبة في السلوى والاستقرار.

فالذين فقدوا الأعزاء يحبون أن يشعروا بعالم الأرواح ليشعروا (بوجود) أولئك الأعزاء وأنهم غير مفقودين.

والذين يئسوا من حكمة البشر يحبون أن يركنوا إلى حكمة الله، لأنهم لا يستريحون إلى اليأس من الأرض واليأس من السماء.

والذين غلبتهم الأحزان والآلام يحبون أن يغلبوها بقوة الإيمان، وأن يقابلوا شيئاً من الخوف بشيء من الاطمئنان.

قلوب تشعر بالهم والقلق وتحب أن تشعر بالسلوى والاستقرار، لهذا يكثر البحث عن الأرواح والكتابة في مباحث الأرواح ولكن القلق الإنساني قد يلتمس السكينة من طريق غير هذه الطريق.

فالأجسام المستثارة تطلب الراحة فيما يلهيها وما يلذها، ويهيئ لها الأسباب في مجال اللهو واللذة أن الحرب تركت مئات الألوف من الفتيات بغير أزواج وبغير عائلين، وأنها تركت ألوف الألوف من الدنانير في أيدي العاطلين أو أشباه العاطلين، وأنها علمت الناس أن يحفلوا بساعتهم ولا يحفلوا بما بعدها، وأن يستمتعوا بالحياة لأنهم على نذير في كل لحظة بفقد الحياة.

لهذا يكثر الإقبال على موضوع الجسد كما يكثر الإقبال على موضوع الروح، ولهذا توقعنا أن تنجلي الحرب عن إقبال عظيم على متاع هذه الدنيا وإقبال مثله على متاع السماء.

وانتهت الحرب فرأينا أول الشواهد على شيوع الدعوة الدينية من قبل العالم الإسلامي في الهند خاصة، وسرنا أن يتيقظ المسلمون في هذا المجال مع الإيقاظ، فإن النوم في هذا العصر يضيع على صاحبه الحقيقة ويضيع عليه الأحلام.

وجعلنا كلما قلبنا مجلة من المجلات السيارة في الغرب رأينا فيها دليلاً على هذه اليقظة الروحية وهذا الشوق العريق في النفس البشرية إلى عالم غير عالم الحس والعيان.

ومن أمثلة هذه اليقظة تحفز العالم البروتستانتي في الولايات المتحدة لاستعادة سلطان الكنيسة على اتباعها وإدخال التعليم الديني في جميع المدارس العصرية. فإن رؤساء الكنيسة هناك يستعيرون عنوان ويلكى (للعالم الواحد) لينشروا الدعوة إلى (عالم واحد في ظل العقيدة الدينية) ويودون لو هيأت الحرب ومنازعاتها فرصة للسلام بين الأديان أو فرصة لاتفاق الناس في عالم الروح.

قال خطيب منهم في المجمع البروتستانتي بمدينة نيويورك: (إن الدين خليق أن يكون أكبر القوى الموحدة بين الأسرة البشرية. فهي تعرف به قوة إلهية واحدة وقانوناً أخلاقياً واحداً وأسرة واحدة من بني الإنسان. ولكنه على نقيض ذلك كان عاملاً من أكبر عوامل التفريق والتمزيق بين كل قبيل، ومهد الغدر لذلك الأيرلندي الساذج الذي أحزنه طول الخصام بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية فقال: ليت الله يجعلنا كلنا ملاحدة ننكر وجود الله أصلاً لنعيش معاً بعد ذلك كما ينبغي أن يعيش المسيحيون. . . في سلام!)

وقال هذا الخطيب - هاري ايدسون فوسديك - إنه لا يعني بالوحدة الدينية أن المسيحية مثلاً تعلم أتباعها ما يتعلمه البوذيون من ديانتهم أو من البيئة البوذية، ولكنه يلاحظ أن الذين سعدوا بعشرة أناس من البوذيين أو المسلمين المهذبين يحسون شيئاً من القرابة بين المؤمنين بهذه العقائد الدينية، ويرجون صادق الرجاء أن تتيح لهم هذه القرابة سبيل التعاون على بلوغ الغاية المشتركة التي ننشدها أجمعين.

وعند الخطيب أن الخلافات الدينية قد نشأ أكثرها من الجدل العقيم، ويضرب لذلك مثلاً رواه عن لويد جورج السياسي البريطاني المشهور بفكاهاته الجدية وفكاهاته الهزلية على السواء. قال إنه كان يسوق سيارته في بلاد الغال الشمالية ومعه صديق يتحدث إليه في شؤون الديانة، فقال السياسي الكبير: (إن الكنيسة التي أتبعها تتمزق الآن بنزاع عنيف على مسألة التعميد، فطائفة منها تقول إن العماد إنما يحصل باسم الأب، وطائفة أخرى تنكر هذا وتقول: بل يحصل العماد إلى اسم الأب ولا يحصل بحرف الباء. وإنني لا أكتمك أنني تابع إحدى هاتين الطائفتين وإنني شديد الغيرة عليها وعلى استعداد للموت من أجلها.

ولكنني نسيت أي الطائفتين هي التي أتبعها. . . طائفة (أمي) أو طائفة الباء!

وما رواه لويد جورج من باب الفكاهة هو الحاصل جداً وفعلاً في جميع الديانات الكبرى. فإن الشيع التي تتفرق فيها إنما تختلف أحياناً على شيء أيسر من الاختلاف بين حرفي الجر الصغيرين، ولكنه اختلاف يكفي كل طائفة من طوائفها لتكفير الطائفة الأخرى وإرسالها مع اللعنة إلى قرارة الجحيم!

وإذا جاز هذا في عصر الجدل فإنه لغريب جد الغرابة في عصر المشاهدات والأعمال. فقد كان (البرهان الجدلي) أساس المعرفة كلها سواء في العلوم أو في العقائد والأخلاق. فأما وقد أصبح لهذا (البرهان الجدلي) شركاء لا يقبلون منه استبداده المطلق فقد آن لحروف الجر وما شابه حروف الجر أن تقنع بمكانها في الأجرومية، أو أن تستغني بما يسفك حولها من المداد عما كان يسفك حولها من الأرواح.

وقد أشار الخطيب الأمريكي بحل لهذه المعضلة لا يبشر بالخير الكثير، لأنه يرجع بالخلافات التي من هذا القبيل إلى إباحة التفسير الديني لمن يشاء من قراء الكتب المقدسة، فكلما أتفق خمسة أو ستة على تفسير جديد لكلمة من كلمات الإنجيل خرجوا من كنيستهم وأنشئوا لهم كنيسة جديدة تنتمي إلى رئيس جديد، حتى عدت هذه الكنائس المتشعبة بالعشرات وصح فيها قول لويد جورج إنهم يختلفون ثم ينسون سبب الخلاف.

وإذ كان هذا هو الداء فالعلاج الذي يومئ إليه الخطيب أن يناط التفسير بالقادرين عليه ولا يستباح لكل مستبيح من العامة وأشباه العامة، فينحصر الخلاف إذن في أضيق الحدود. ولكنه علاج غير جديد في الديانات، فقد كان (حق التفسير المحصول) علة الانشقاق ومبعث الهجوم على حرية التفسير.

وإنما العلاج الجديد الذي يرجى أن يفيد فيما نعتقد هو توسيع حق التفسير حتى لا يكون فيه حرج على أحد ولا يوجب من فريق أن يعادي الفريق الآخر كلما عارضه في تفسيره. فتوسيع الأفق هو خير علاج لضيق الحظيرة، وقلة الصبر على فوارق الكلمات والحروف، وإقامة الدين على الأسس العامة هو العاصم للدين من تفتيت العقائد في الزوايا والسراديب. فليشمل الدين جميع المختلفين إذن ماداموا متفقين على الإيمان بقواعد الحق والخير والصلاح، وليذهب عصر الجدل الكلامي ليخلفه عصر الوحدة الواقعية التي تقوم على اتفاق العقول في النظر إلى حقائق الوجود.

وقد أحسن الخطيب الأمريكي في كلامه عن الفصل بين الدولة والكنيسة لأنه يقول إن الفصل بينهما قاعدة أساسية في حكومة الأمة الأمريكية، ولكنه ينتقده إذا فهم القول من معناه أن تعليم الأديان محرم في المدارس وأن تعليم الإلحاد فيها مباح ومطلوب.

ففي الوقت الذي تدرس فيه كتب (فرويد) ويتعلم منها الناشئ أن الديانات وهم من أوهام العقل الباطن وحيلة من حيل الغريزة الجنسية، ينبغي أن يتفتح عقله لسماع كلام غير هذا الكلام عن دعاة الروح وسير القديسين والأنبياء، وينبغي أن يتوازن تفكيره بين وجهات النظر حتى لا يصبح التحيز إلى جانب الإلحاد آفة عقلية شراً على رأس الناشئ من التعصب الديني الذميم، ومن ضيق العقل في ناحية الإيمان والتسليم.

وهذا كله صحيح لا يختلف فيه المنصفون. فمهما يكن من شأن الدين فهو تراث إنساني عريق الأصول شديد السلطان على العقول، فليس في وسع أحد أن ينساه أو يتناساه في دور التنشئة والتعليم. وليس من العقل نفسه أن يستخف بقوة كهذه. القوة كأنها قد خرجت خروج الأبد من ميدان الحياة الإنسانية فإن الذي يريد أن يخرجها خروج الأبد لم يلبث هو نفسه على قدمين بضع سنين!! وقد رأينا المبشرين بالفلسفة المادية في روسيا الشيوعية يحنون الرؤوس أمام هذه القوة ويفسحون لها الطريق مكرهين، فإذا كانت في هذه التجربة عبرة (عقلية) و (علمية) فعبرتها العقلية والعلمية أن قوة الدين حقيقة راسخة لا يستأصلها كل من يريد، وهو لا يدري ما يريد.

وفي مجلة أمريكية - هي مجلة هاربر المشهورة - بحث آخر عن موضوعين: موضوع التقاليد الدينية وموضوع الغريزة الجنسية، يقول فيه الكاتب - جون مكبارتلاند - إن كنيسة الشعب الأمريكي في الأجيال الثلاثة الأخيرة قد تغيرت مدى بعيد، ولكن العقائد الدينية والقواعد الأخلاقية لم يصاحب هذه التغيير إلى أقصى مداه ولا إلى بعض مداه. فنحن أمريكين اليوم نحب النهود والأفخاذ لأننا نشاهدها كلما فتحنا الشرفة أو ذهبنا إلى الصور المتحركة أو نظرنا إلى غلاف رواية، ولكننا نستعيذ منها في (البيئات المحترمة) كأنها رجس من عمل الشيطان، فما مصير هذه (الثنائية) الكاذبة في المعيشة والأخلاق؟

مصيرها تدل عليه وثائق الزواج والطلاق. فقد أحصيت نسبة الطلاق في أربعمائة ألف وخمسين ألف زواج فإذا هي تربى على تسع وتسعين في المائة. . . فهلا تكفي هذه النسبة لإعادة الحجر على الموضوعات الجنسية أو عندك أيها القارئ - كما يسأل الكاتب الأمريكي - علاج جديد؟

ونقول: بل العلاج الجديد غير بعيد.

فالعلاج الجديد في عالم الروح، ولكنه الروح الرشيد الذي لا ينكر الجسد كما أنكره الأقدمون، وفي هذا الميدان متسع لدعاة الإسلام (الراشدين) الذين يوسعون الآفاق ولا يضيقون الخناق، لأن الإسلام دين يعرف للجسد حقه ولا يناقض بينها وبين حقوق الروح.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 673
بتاريخ: 27 - 05 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى