قصة ايروتيكة جورج سلوم - موسيقى الصمت في المسرح المهجور

مسرحي هذا .. بُني للحب فقط .. لذلك في زمن الحرب غدا مهجوراً .. فالحب والخوف لا يجتمعان .. إلا إذا كان الحب اغتصاباً.

أبطال هذا المسرح كانوا عازفين مهرة مرهفي الحس.. لكنهم اليومَ مشغولون بالعزف على البنادق والمدافع ..

ومقطوعات البنادق ليست مكتوبة .. هي سماعية فقط وقائمة على ردّ الفعل .. وهي عالمية ومفهومة في كل البلدان..

والمعركة أوركسترا عظيمة فيها الكثير من العازفين .. مجموعات متربّصة تتأبّط آلاتها .. وتطلق أنغامها بإيعاز من القائد .. ومن الخلف يصطفّ المنشدون يلوّنون الأنغام بالصيحات والآهات الإنسانية.

أما البندقية .. فما هي إلا آلة موسيقية تحتضنها كالكمان .. تحتاج إلى دوزنة .. ثم تصدح بأعذب الألحان .. غربية الصنع لكنها تحسن العزف على التخت الشرقي .. ويستخدمها عازفونا عند الفرح وعند الغضب وكذلك الحزن ..

فالموسيقى الشعبية في بلدي اليوم هي موسيقى الرصاص !

هل سمعت موسيقى الرصاص ؟... كمُتلقّي وليس كعازف ؟

هل أطلقوا النارعليك يوماً بينما كنت تفرّ مذعوراً ؟.. مكشوفاً .. ومازلت في المدى المجدي للطلقات؟

تبقى سعيداً وترقص بين الطلقات المنهمرة عليك .. رقصاً جنونياً ومجنوناً طالما مازلت تسمع صوتها .. لأنك إن كنت تسمعها فأنت مازلت حياً وهي تخطئك.. قد يكون الرامي هنا عازفاً لا يريد قتلك .. يريد أن يراك ترقص مكرهاً بين الطلقات ..صدّقني سترقص السامبا والرومبا

قد تختبئ وتبقى خائفاً

لأنّ الطلقات الحديثة (الذكية ) تتسلل أحياناً كالأفاعي .. تلتفّ عليك .. وتأخذ منك مقتلاً ولو كنت في جحر

تترنح وتطرب وتطنّ أذنيك .. عندما يعزفون عليك بالبنادق .

آهٍ .. ثم آه .. وياليل .. ثم يا عين ..

ويستمر العزف عليك .. حتى ترتدي الوشاح الأحمر .. وشاح الدم .. وعندها قد يعزفون عنك ..

أو تحذف الزين من يعزفون .. فيعْفون عنك

أو يشدّدون الفاء .. فيعفّون عنك

إنه القتل باللغة العربية .. وتلاعبٌ بالأحرف كالأوتار .. وينتج لحنٌ قاتل !

زوّدوا آلاتكم الموسيقية بكاتمٍ للصوت .. أيها المسلّحون .. فيكون القتل أقلّ إرهاباً

وتكون موسيقاه صامتة ..

الحرب ماتزال دائرة في كلّ مكان .. والعزف مستمرّ على أشدّه

وأنا مازلتُ كلّ يوم أدخلُ إليك يا مسرحي المهجور .. وقد عزفتُ عن الحرب لكني ما زلت أعزف على عودي .. وأهيم بين أنغامه.. ثم أستسلم للصمت الصاخب !

أنا أنتظر الموت الصامت بدون ألم أو خوف .. فلا أقول آهٍ عندما تخرج روحي من جنباتي

وأنتظر (الحب الصامت ) أيضاً .. وهو لذيذ جداً..هل جرّبته ؟

عندما تتسلل إلى بيتها صامتاً كاللص .. تنتظرها على سطح المنزل .. وتصعد هي إليك صامتة على رؤوس أصابعها .. والليل الأسود الصامت ثالثكما .. تحتضنها قبل السلام عليكم فالصمت مطلوب .. تقبّلها بدون صوت .. تعضّها حتى تدميها ولا تتأوّه .. تغرز أظافرها في كتفيك .. ويبقى الحبيبان صامتين .. كاتمين للأنفاس والآهات .. ويعزفان موسيقى صامتة .. لكنها لذيذة!

ها أنا أزيح السّتار لتبدو خشبةُ المسرح خاويةً بخلفيةٍ باهتة وإضاءةٍ خجِلة منتثرة من بقايا الشمس .... وبعض المقاعد من الخيزران بحاجة للتنظيف ومسح الغبار.

أما عودي الحبيب الذي تركتهُ هنا منذ زمن مرميّاً على أحد الكراسي.. فقد بدا لي كعجوزٍ حُبلى نحيلة الذراع وقد تدلّى بطنها والتوى عنقها جانباً بعد أن تقطعت أوتارها وشرايينها .

استرخيتُ متهالكاً في مكاني المعتاد على المسرح ... فغاص رأسي الثقيل بين كتفيّ .

تخيّلتُ الهتاف والتصفيق الحاد من الجمهور الذوّاق المحتشد هنا منذ ساعات ليسمعَ ألحاني الشجيّة . وكان من المفروض أن أبتسم الآن لعدسات المصوّرين تتلألأ أنوارها من هنا وهناك .

حضنتُ العود وداعبت وتره الوحيد الباقي .. وتذكّرت حبيبتي ومُلهمتي .. رأيتها في الصفّ الأول جذلانةً سكرى ... فجذبتها من شعرها الطويل وألقيتها على عودي بعنف.. تألّمت ولكنها مصرّة على الصمت ... وتابعتُ العزف على أوتارها مسجّلاً مقطوعتي الموسيقية الخالدة .

أفقتُ من غفلتي فوجدت نفسي وحيداً في مسرح الحياة المظلم.. الصامت المقفر كمقبرة فرعونية قديمة ... شعرت بالبرد فدفنت رأسي بين كتفيّ واستسلمت لوحدتي وسكينتي.. منصتاً لموسيقى الصمت العذبة .

صدّقني إنّ موسيقا الصمت تحملك بين طياتها خفيفاً خفيفا إلى مرحلة اللاوزن واللا مادية فينتفض رأسك المثقل بالهموم بعد أن غاصَ بين كتفيك وينقلب الزمانُ الصعب سهلاً ويعود زمن الحب إلى مسرح الحرب .

انه التأمّل الخلاق الذي يسمو بالمرء إلى الرّوحانية حيث تتلوّن الرؤى بكلّ الألوان الجميلة وتتلاشى الإضاءة الضبابيّة عن المسرح وتنسدل خلفية المشهد خضراءَ مستوحاة من ظلال الفردوس.

هذا هو بلا شك العالم الروحي الذي سما إليه الشعراء في تأمّلاتهم ، وسعى إليه المتصوّفون بعد أن زهدوا العالم المادي وانصرفوا إلى صوامعهم المنعزلة في قلب الصحراء ليعيشوا بنعيمٍ في هذا العالم الروحي مع ... موسيقا الصمت.

زارتني لوحدها بدون إعلاناتٍ مضيئة فلا كهرباءَ لديّ .. تلمّسَتْ طريقها الذي خبرته سابقاً.. قالت:

- أنا جمهوركَ القديم وفرقتك الموسيقية العتيقة .. هلمّ نعزف معاً لحناً فولكلورياً.. (عتابا وميجانا وعلى دلعونا ).. أو أرقص لك رقصة السماح .. أو رقصاً شرقيا ًإن شئت ..

قلت:

- أنغامي حزينة هذا اليوم فلن تهزّ فيك خصراً ولا جفناً .. والفرقة مشغولة بالعزف على البنادق .. والرقص متاحٌ خارجاً لمن أراد.. فالأجساد صارت كالطير يرقص مذبوحاً من الألم .. دعينا نمارس اليوم موسيقى الصمت !

هل شاهدت راقصة شرقية بكامل حلتها المثيرة وترقص على موسيقى صامتة ؟

ترقص للطبال وطبلته مهتوكة الجلد .. فضوا بكارتها بطلقات الحرب

نعم.... جلسنا في مسرحي السماوي ساعةً تناغمتْ فيها روحَينا وتراقصت قلوبُنا على إيقاعٍ واحدٍ ابتكره ملاك الحب في تلك الجلسة الحالمة.. وكانت فعلاً قيثارتي المتحمّسة..

لم تكن بحاجة إلى (دوزنة) بل كانت أوتارُها متعطّشةً لنعزف معاً... معاً... مقطوعة الحب الموسيقية الكلاسيكية... نعم كلاسيكية بكل معنى الكلمة ولا غروَ في ذلك..فهي قديمةٌ وعريقة قدم جدّتها حواء.

وهكذا دخلنا في لحن الحب دخولاً هادئاً ناعماً واستمرّ فترةً تموّج فيها وتشعّب حتى اشتركت جميع الآلات في العزف.... ثم تصاعد وأصبح اللحن أكثر حيوية وغنىً وأسرع حركة وأعلى صخباً حتى وصل إلى ذروته النهائية.

عندها أخذ الحماس والإجهاد من العازفين كل مأخذ... فساد بعده ذلك الصّمت اللذيذ الذي ملأ آذاننا بالطنين العذب ونفسينا بالروعة والنشوة.

استسلمنا بعدها ومن جديد إلى موسيقا الصمت وقد نشرت فوقنا ألحانها الحالمة.

جورج سلوم

تعليقات

أعلى