ألف ليلة و ليلة كتاب الليالي : علي حسن الفواز - هل ألف ليلة وليلة الأساس الحكواتي للرواية البوليسية؟

هل يمكن الحديث عن علاقة تناصية بين المثيولوجيات الشعبية في الف ليلة وليلة والرواية البوليسية في ادبنا الحديث؟ وهل نجد ان المخيال السردي المعاصر قد استثمر الفضاء الحكواتي الغني وعوالم السحر والغموض فيها للتعاطي مع اشكلات تخيلية وسردية على مسويات المكان والزمن في ادبنا الحداثي؟ وهل يمكن ان نتعرف على ان كتاب الرواية البوليسية المعاصرة، بدءا من اغار الن بو الى موريس لبلان واجاثا كريستي وغيرهم قد اطلعوا على الادب الشرقي في حكايات الف ليلة وليلة؟ وكيف للباحث والناقد ان يجترح منظورا تاريخيا او نفسيا او حتى بنائيا للكشف عن التعالقات النصية في ذلك؟هذه الاسئلة بدت اكثر اثارة ونحن نطالع الافكار التي طرحها الناقد سليمان البوظي في احدى محاضراته عن"ألف ليلة وليلة و أثرها في نشأة القصة البوليسية"**
البعض يتحدث عن تطور القصة البوليسية في الأدب العربي على انها جزء من مما يسمى بقصص المخاطرات، تلك التي شكلت النواة الأولى لهذا الفن القصصي، وان حكايات الف ليلة وليلة محتشدة بتلك القصص خاصة في عوالم القصور والمؤامرات النسائية وفي اسفار السندباد وحكايات على بابا والاربعين حرامي. وقد اثارت هذه (الحدوتات) كتّاب القصة والرواية الاوروبيين الذين ترجموا واطلعوا على الحكايات الشرقية وعوالمها.
قص مبتور
يقول الناقد البوظي عن القصة البوليسية (بانها عمل درامي يقوم على الصراع والتشويق بواسطة الألغاز أو الرموز، وتعني قصصه وحكاياته أول ما تعتني بحل اللغز والوصول للقبض على المجرم. ولعل كتابة اول القصص البوليسية الغربية بمعناها السردي بدأت مع (إدغار ألن بو) في روايته (حوادث القتل في مستودع الجثث) عام 1841م، وروايته (لغز ماري روجيه والرسالة المسروقة)، واليه يعيد الأدب الغربي عبر الموسوعات وكتب التاريخ شرف ابتداع وإنشاء هذا اللون من القصص، إلا أن الحقيقة التاريخية تكشف أنه مسبوق بفنه هذا من قبل (مبدع) ألف ليلة و ليلة بمئات السنين، فألف ليلة و ليلة تتصل بفن القصص البوليسي ليس بالشكل فقط من حيث التشويق الدرامي بطريقة القص المبتور عندما تنتقل من حدث إلى آخر و من مكان وزمان إلى عوالم و أزمنة أخرى دون استكمال إضاءة الحوادث في تلك الأطر الزمانية الأولى لتعود إليها في الوقت الذي لا يكون القارئ فيه متوقعاً هذا ان لم يكن قد نسيها بفعل اللهاث وراء المجاهيل المخبوءة في طيات الأحداث الواقعة لشخوص الحكاية.
لقد وضع الحكواتي في (ألف ليلة وليلة) تصورا متخيلا عن الحكاية التي تجري في إطار مجموعة من الحكايات التي تبدو أحداثها متلاحقة وذات قوام واحد من لقاء وفراق وخيانة وقتل وجزاء وعقاب، ويحدد الناقد البوطي في هذا السياق طبائع خاصة للبنية السردية التي تنتمي إلى القصص البوليسي من منطلق ان الأمر المهم الذي يضعها في الاطار التوصيفي لهذا النوع من القصص هو وجود جرائم من صنف الجرائم الواقعة على الأفراد مثل القتل والاحتيال والسحر أو الشعوذة و جرائم الخيانة وكذلك وجود أبطال يقع على عاتقهم كشف هذه الجرائم أو درء وقوعها و إعادة الحقوق إلى من وقعت عليهم تلك الجرائم و أشهر هؤلاء الأبطال في السير الشعبية: العيار(علي الزيبق) ، والمحتالة دليلة، والخليفة هارون الرشيد، اذ يضع البعض تصورا بان هارون الرشيد في السياق الحكواتي لألف ليلة وليلة، هو من روج لفكرة البوليس السري، فهو يأخذ على عاتقه كشف جريمة قتل، كما جاء في إحدى حكايات الليالي، ويخلص الناقد البوظي الى أن قوام الحكاية في ( الليالي ) قائم على ثيمات متعددة تشكل الجريمة واحدة من صورها، وهذه الجريمة/الثيمة تبدأ في سياقها الدرامي التقليدية من الحدث الى الذروة الى انكشافها ومن ثم تلقي العقاب عليها.

موروثنا العربي

هذه التصورات كثيرا ماشابها التهويم، اذ من المبالغ فيه ان يضع الناقد بعض افكاره وكأنها هي الاساس المرجعي لوظيفة الحكاية البوليسية في السيرة وفي التعاطي مع اصولها، اذ يدعونا الى استرجاع( شرف إبداع هذا الفن القصصي من ايدي ( إدغار ألن بو) ووضعناه وسام على صدر أدبنا الشعبي) كم يقول.
هذا التصور الجريء عن بعض الخفايا في موروثنا العربي واهتمامه بالقصة البوليسية وعوالمها وغرائبها، يضعنا امام نمط اخر من القراءة، تلك القراءة التي تقترح موجهات اخرى يمكن ان تضفي عن تاريخ الادب العربي القصصي والحكواتي العديد من السمات والخصائص والتي تتجاوز ما أطرّته القراءات الرومانسية والتاريخية، تلك التي جعلته اسيرا لاحكام معينة ولقراءات معينة ومحدودة ايضا، فضلا عن ان هذا الكشف يضعنا امام شكوك امتياز الادب الغربي بحظوة اكتشاف الانماط المعاصرة للكتابة الرواية ومنها الرواية والقصة البوليسية.
ان اعادة قراءة الرواية البوليسية واعطاءها توصيفا وتعريفا نقديا، يضعنا امام مسؤوليات ليست نقدية فحسب وانما امام العديد من المسؤوليات الاخلاقية والسسيوثقافي، التي يمكن ان تضع هذه الكتابات وكأنها وثائق مهمة في اعادة دراسة الشخصيات المنحرفة التي ارتكبت الجرائم السياسية والامنية والجنائية في تاريخنا العربي والاسلامي، فضلا عن دراسة الجريمة ذاتها، ولعل الكثيرين يجدون مثلا في حكايات شارلوك هولمز وارسين لوبين ومايك هامر وغيرها مصدر مهما للتعرف على انماط معقدة وغامضة للجريمة ظروفها واليات كشفها، وطبعا هذه الجريمة ذات مستويات متعددة منها ماهو جنائي ومنها ماهو نفسي ومنها سياسي. وقد استثمر الكثير من علماء النفس والجريمة اشكالات الجريمة الروائية لتسليط الضوء على دور المجتمع والشخصية والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في صناعة الجريمة والمجرم.

رواية سياسية

لقد استثمر الادب العربي ثيمة الجريمة كثيرا، واسهم العديد من الكتّاب في كتابة قصص تحمل في بعض مستوياتها نماذج للشخصيات الجرمية، وللبيئات التي تسهم في تهيئة ظروف صناعة المجرم، خاصة تلك القصص والرويات التي تحولت فيما بعد الى نصوص للعرض السينمائي خاصة تلك الافلام التي اخراجها صلاح ابو سيف وتوفيق صالح وممدوح شكري وفي الدراما التلفزيونية بدءا من اعادة انتاج روايات عبد المنعم الصاوي مرورا بروايات اللص والكلاب لنجيب محفوط ورواية، يوميات نائب في الارياف، لتوفيق الحكيم وانتهاء بكتب السير الخاصة باعلام ثقافية وسياسية معروفة.
في هذا الاتجاه يقول الناقد سليمان البوظي( أن نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس يعدان من أشهر أعلام القصة البوليسية في أدبنا العربي الحديث، بيد أنه ارجع السبب في عدم ازدهار هذا النوع في أدبنا العربي الحديث إلى التفاته نحو الرواية السياسية التي تهاجم النظم الاجتماعية والسياسية القائمة على الفوارق الطبقية وبسبب الأحداث السياسية التي أثرت على واقعنا العربي على مدى قرن من الزمن و هو القرن العشرون)
هذه الافكار وضعت الرواية العربية من جديد تحت ضوء اخر، وجد فيه بعض الروايين الشباب مصدر الهام جديد لاعادة قراءة الكثير من الوثائق المهمة التي تتعلق باشكال معينة من الجريمة، خاصة الجريمة السياسية، اذ ان هذه الجريمة ظلت غائبة عن التوثيق وغائبة عن فحص اسبابها.
ومن ابرز الروايات الجديدة التي سلطت الضوء على الجريمة السياسية والثقافية في آن، الرواية الجديدة للعراقي علي بدر(حارس التبغ) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والتي تمثل قراءة سردية لجريمة قتل الموسيقار العراقي يوسف صالح، وتفحص العوالم الغرائبية التي احاطت بالشخصية وسيرتها والاقنعة التي اردتها في سياق صراع الهويات الذي تلبس الحياة العراقية طوال عقود طويلة..
ان قراءتنا لهذه الطروحات لايعني ان الرواية العربية اصبحت صاحبة السبق في كتابة الحكاية البوليسية، خاصة اذا عرفنا ان فكرة الجريمة ذاتها قد ارتبطت بنشوء الانسان ذاته، لكن ما يميز نص الجريمة هو الجانب السردي الذي يضع الحكاية في سياق مبان حكائية اخرى تعطي للمخيال قوته السردية، فضلا عن ان هذه الطروحات تضعنا ايضا امام دعوة لاعادة قراءة موروثنا الحكائي في السير والمغازي والمثيولوجيات وغيرها للكشف عن خبايا كثيرة، اسهمت الطرائق القرائية المعاصرة وهي منتج غربي بالكامل في كشفها واعادة النظر اليها كموروث وثائقي وكنصوص سردية مهمة وفاعلة.




* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى