محمد نوري جواد - الحذف ومشاركة الآخر..

حَذفُ الشَّيء : إسقاطُهُ . يقال : حَذَفْت مِنْ شَعْري ومِنْ ذَنْبِ الدّابة , أيْ : أخَذْت , والحذف في الكلام أسلوب وصِفَ بأنَّه عجيبُ الأمر شبيه بالسّحر وذاك أنَّك ترى فيه ترك الذكر أفصح مِنَ الذكر والصَّمت عَن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتمّ ما تكون مبينًا إذا لم تبن وهذه جملة تنكرها حتى تُخبر وتَدفعها حتى تنظر .
وإذا قلنا : إنَّ في أسلوب القرآن حذفًا فلسنا ننسب الحذف إلى مضمون القرآن , ذلك بأنَّ اللغة تجعل للجملة العربية أنماطًا تركيبية معينة ففي الجملة أركانها ومكملاتها .
إنَّ بعض المواقف في استعمال هذا الأسلوب تتطلب مشاركة القارئ ومساهمته في الكشف عن الحقائق ؛ لأنَ ترك القارئ مجرّد سلبي يتسلم الحقائق جاهزة يجعله عاطل الذهن , ويلاحظ أنَّ أحدث الاتجاهات الأدبية المعاصرة، يُشَدد على أهمية المتلقي وضرورة جَعله هو الكاشف والمفسر والمستخلص لدلالة النص , والحذف في هذا الموضوع يحتمل أكثر مِنْ وجه فإذا نظرنا إلى قوله تعالى ( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ) , نجد أن كلمة (إصلاحها) وهي مصدر الفعل (أصلح) قد حذف فاعلها في المعنى بعد أن أضيف المصدر إلى مفعوله (ها) , وعلى القارئ أن يكتشف هذا المحذوف علاوة على حذف ما تعلق بالمصدر من أجل أن تكتمل عنده دلالة النص ؛ لذا قيل : فاعل المصدر المحذوف في المعنى هـو (الله) عزّ وجلّ , فيكون المعنى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب ؛ لأن أصل الأرض هكذا . ومنهم مَنْ ذهب إلـى أنَّ الفاعل المحذوف هم الأنبياء , فيكون تقدير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الأنبياء وأتباعهم العاملين أمرها أو أهلها بالشرائع .
فأضاف المصدر في الآية الكريمة إلى مفعوله بحذف المضاف , وهكذا تجد المعاني تتولد من خلال هذا الحذف , ويعمل المتلقي على بيانه من خلال علميته , وهذا الحذف يكون مقصودا ؛ لأنه يعطي اتساعا في المعاني .
ومن الأمثلة أيضا قوله تعالـى ( وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) قيـل : إنّ الضميـر في (بعده) يعود إلى (الله) سـبحانه وتعالى , فيكون المعنى : فبأيِّ حديـثٍ بعد الله , أيْ : بعد حديثه وآياته يُـؤمن هؤلاء المشـركون , أيْ : على حذف المضاف , وقيـل : الضمير يعود إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مع حذف المضاف أيضا , فيكون المعنى : فبأيِّ حديث بعد حديث الرسول يؤمنون وهو أصدق الناس . وقيل الضمير يعود على كلمة (أجلهم) الكلمة التي سبقت هذه الجملة مع حذف المضاف , فيكون المعنى : فبأيِّ حديث بعد انقضاء أجلهم يؤمنون .
فتعدد حذف المضاف في الكلمة بحسب ثقافة المفسر ورؤيته للآية علاوة على تعدد وجهات النظر في عودة الضمير .



د. محمد نوري جواد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى