بَن لوري - البط.. ترجمة : عبد الصاحب محمد البطيحي

أحبَّ بطٌ صخرةً . كانت كبيرةً ، وفي الواقعِ كانت بحجمِه تقريباً – تنتصبُ بعيداً عن ضفةِ النهرِ وقليلاً تتجاوزُ شجرةَ الدردار . بعد الغداء من كلِّ يومٍ كان يسيرُ وئيداً صوبَ تلك الصخرةِ ليقضي وقتاً قصيراً ينظرُ اليها بولهٍ واعجابٍ .
سألته طيورُ البطِ الأخرى : الى أين أنت سائرٌ ؟
قال : أتجولُ ، وليس لي قصدٌ محددٌ .
بيد ان الطيورَ تلك كانت تعرفُ بالضبط مزارَه ، وفي غيابِه كانت جميعاً تضحكُ .
" البطُ الغبيُ يحبُ صخرةً ."
وعلى خلافِ ما كانوا عليه ، كانت هناك واحدةٌ منهم لم تشاركهم الضحكَ . كانت ، منذُ مدةٍ طويلةٍ ،على علمٍ بما هو عليه من غرابةٍ ، تجدُ فيه ذلك الطير الطيب واللطيف . كانت تأسى عليه . انه حظٌ عاثرٌ أن يحب َ صخرةً . كانت ترغبُ بإسداء المساعدةِ لكن ما الذي تقدر عليه ؟ جرجرت خطاها خلفه ، ومن خلف احدى الأشجار شاهدته يتودد للصخرةِ . كان يقول : أحبكِ ، أحبكِ ، أحبكِ ، أحبك
أحبكِ أكثر من حبي للنجومِ في السماء
أحبك اكثر من حبي للسمكِ في البحارِ .
أحبكِ اكثر من . . . أكثر من . . .
بعد ذلك انقطع الكلامُ إذ لم يعد هناك من شيءٍ يفكرُ فيه .
ومن خلف الشجرةِ قالت البطةُ : أهذه الحياةُ ذاتها؟
لم تكن تعني الشروعَ بالكلامِ إنما انطلقت منها الكلماتُ هكذا .
استدار البطُ ليلقي نظرةً عليها واعتراه خوفٌ شديدٌ .
قالت البطةُ وهي تتهادى في مشيتِها من خلف الشجرةِ :
حسنٌ. أعلم أنك تحب الصخرةَ ، الجميع يعلم بذلك في الحقيقة .
تساءل البط : حقاً ؟
تقول البطةُ : أجل ، أجل ، انهم يعلمون .
أطلق حسرةً وجلس على الأرض . لو كانت له يدان لكان قد دفن رأسه فيهما.
قال : ماذا سأفعل ؟ ماذا سأفعل ؟
قالت : ماذا ستفعل ؟
قال : كيف يمكن ان يجري الأمرُ على هذا النحوِ ؟ أن أحبَ شيئاً يفتقد القدرةَ على النطقِ والقدرةَ على الحركةِ والقدرةَ على . . . حتى انني لا اعرفُ كيف يشعرُ نحوي .
نظرت البطةُ الى الصخرةِ ولم تعرف ماذا تقولُ .
يقول البط : انا اعلم بأنك تعتقدين بأني أحمق ،تعتقدين بأنها مجرد صخرة .هي ليست كذلك . انها شيء مختلف. . مختلف تماما .
القى نظرةً على الصخرة .
قال : ينبغي على شيءٍ ما أن يحدثَ . . أن يحدث حالاً ، فقلبيِ سيتفجر حسرةً إن استمرت هذه الحالة لفترة أطول .
في تلك الليلة افتقدت البطة القدرة على النوم . ظلت تدور حول نفسها وتدور . فكرت في الصخرة والبط وقلبه المجروح . فكرت ملياً لفترةٍ طويلةٍ ، وقبل طلوعِ الشمسِ طرأت على بالها فكرةٌ . . سارت وأيقظت البط َغريبَ الأطوارِ.
قالت : تحدثُ الأشياءُ متى ما ينبغي لها أن تحدثَ كما لو انها نمطٌ يحمل معنى عميقاً
يسأل البط : وماذا بعد ذلك ؟
أجابت البطةُ : لديَّ خطةٌ أعتقد انها ستنجحُ .
قال البط وهو في غايةِ الفرحِ : حسنٌ . ماهي الخطةُ ؟
أجابت : خطةٌ تتطلبُ وقتاً طويلاً ومنحدراً صخرياً مرتفعاً بالإضافة الى ذلك ، فنحن بحاجةٍ الى عونٍ . كان المنحدر بعيداً الى الجنوب في الجانب الآخر من التل .
بعد ذلك بيومين انطلقوا بالصخرة . كان الأمر يتطلب اربعة طيور لحملها ، وهم يعملون بالتناوب ، يتبادلون العمل كل خمس عشرة دقيقة فهم اخوة عندما يتعلق الأمر بذلك .
قال اكبرهم سناً : المنحدر الصخري اعرفه ، انه في الجانب الاخر من التل . اتذكر انني حلّقت فوقه عندما كنت صغيرا وكان يبدو كأنه على حافة العالم .
مشى البط بجهدٍ تحت وطأة ثقل الصخرة لساعاتٍ – لساعاتٍ ، وبعد ذلك لأيامٍ . ينامون في الليل اسفل الشجيرات والأشجار الغريبة ويأكلون الخنافس والضفادع ..
سأل احدهم : أتعتقدون ان المكان بعيد ؟
قال اكبرهم سناً : هذا محتمل . لم تعد ذاكرتي قوية .
في اليوم السادس اخذهم التعبُ .
قال احدهم : لا اعتقد ان هناك منحدراً صخرياً
قال آخر : وانا ايضاً لا اعتقد بذلك . أعتقد أن البط العجوز واهن ومخبولٌ .
قال ثالث : يؤلمني ظهري وانا اريد العودة .
قال رابع : وأنا ايضاً . في الواقع انني سأعود.
بعد ذلك اخذت الطيور تعود . . هوت الصخرة في الغابة وارتمت هناك .
نظر البط غريب الأطوار الى البطة متوسلاً .
قالت : لا عليك ، سوف لا اتخلى عنك .
راقبا الطيور تطير عائدة الى مساكنها . بعد ذاك ، رفعا الصخرةَ على ظهريهما ومشيا بجهد .
قال البط : ماذا سيحدث إن نحن القينا الصخرة بعيداً عن المنحدر الصخري ؟
قالت : ليست لدي فكرة . لكنني لا اعرف الا ان هذا سيكون عملاً نقوم به .
اخيراً وصلا الى حافة المنحدر . كان السقوط مريعاً بحيث لم يقدرا على رؤية الأرض – فقط هناك غيوم بيضاء هائلةٌ خفيضةٌ تنتشرُ امامهما مثل دثارٍ من القطن لانهاية له يتدحرج من دون توقفٍ .

قال البط : غيومٌ تبدو ناعمةٌ جداً .
قالت البطة : أجل . انها كذلك . هل انت مستعد ؟
القى البط نظرةً على الصخرةِ وقال :هذه ، يا حبيبتي ، لحظة الحقيقة . ومهما يحدث ارجوك أن تتذكري – دائماً تتذكري – بانني احبك . والقيا الصخرة ، معاً ، بعيداً عن المنحدر .ربما يقول المرء :
سقطت الصخرة ببساطةٍ كما يسقط اي حجر.
لكن بعد ذلك بدأ شيء ما يحدث : أخذت الصخرة تتباطأ ، اخذت تنمو وتتغير ، تغدو دقيقة وتستطيلُ – وتنتشر الى الجوانب ايضاً .
تقول البطةُ : انها تتحول الى طيرٍ .
كانت تتحول الى طيرٍ جميلٍ رمادي اللونِ -- في الواقع ليس مغايراً للبط . أخذت اجنحته تتحرك ببطءٍ الى الأعلى والأسفل ، الى الأعلى والأسفل ، هبط ثم طار مرتفعاً بمحاذاة الساحلِ . استدار ببصره نحو البطتين على المنحدر ، اطلقَ نداءً واحداً حسب : وداعاً ! بعد ذلك كان يرتحلُ ، يرتحلُ ، حجمُه يصغرُ ويصغرُ، يطير مبتعداً فوق ستار الغيوم عِبرَ السماء .

لم يتحدث الطائران كثيراً في طريق العودة .
قال البط : هل تعتقدين انه سيكون سعيداً ؟
قالت : آملُ ذلك .
كان ذلك كل ما نطقا به.
عندما وصلا البركة تجمعت طيور البط حولهما تطلب منهما معرفة ما حدث َ . تبادلا النظرات ثم قالت البطة : لا شيء . لقد سقطت .
في الأيام التالية انفرد البط مع نفسه بينما ذهبت البطة تسبح وتدور على هيئة دوائر . فكّرت في الطائر الصخري وهو يطير بعيداً نحو السماء . ظلت هذه الصورة تتكرر في ذهنها .
في يومٍ ليس بالبعيد رأت البطَ يسبح نحوها يحمل في منقاره سمندرا صغيراً .
سألته البطة : هل هذا الحيوان البرمائي لي ؟
وابتسمَ البط ُ.
سمندر : حيوان برمائي شبيه بالعضاءة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى