دوسان كوزل - شخص آخر سيجيء.. قصة - ترجمة - عبد عون الروضان

مضى النهار بسرعة مرعبة في هذا الصباح ، كان قد استيقظ على صرير باب المطبخ، ثم جاءه صوت الدجاجات وهي تقوقىء في الساحة، فتذكر عويل المرأة العجوز في قطار الأمس.. يا إلهي الرحيم أنا متأكدة بأن ذلك الجسر كان سينسف بعد عبورنا عليه مباشرة، ثم كان هناك وقع أقدام أونتي توبخ الدجاجات لأنها وسخت عتبة الباب الخارجي ثم وهي تنثر لها حفنة من الحب.. هل استيقظت لتوك.. تمطى بكسل ثم انطلق راكضا نحو الجدول عند طرف الغابة، غرف شيئا من الماء بيديه ثم تركه ينهمر على وجهه .. كان الماء باردا جدا إلى درجة تقطع الأنفاس.. جاء ديك صغير بخطوات متمهلة مهيبة وهو يرفع رأسه متطلعا بفضول، من تراك تكون؟ ثم قذف الماء الذي كان في فمه باتجاه الطائر الذي صاح بخوف، هكذا أحسن.. هذا ما كنت تريده؟ صب بعض الماء على ظهره وهو يطلق لهاثا عاليا.. أووه.. فأجابه صوت فتاة من تحت.. اعتدل في جلسته سريعا ولكن لم يكن هناك سوى أونتي تومىء إليه من المدخل، ثم وهي تضع أمامه إناء وتعطيه ملعقة طريفة من الخشب.. وعندما أنهى إفطاره قادته إلى خارج الكوخ وأشارت إلى السقف الذي كان هناك في الأعلى.. هل تراه؟ كنت أود لو أنني جئت معك لكن لدي الكثير من العمل علي ّ انجازه.. وهكذا ذهب بمفرده.. أقفل الباب بمفتاح ضخم ثم شمل المكان بنظرة متفحصة ، لم يكن ثمة شيء في الداخل سوى حجارة الموقد الذي يحتل ثلث المطبخ تقريبا، وكان هناك في فجوة بالجدار رف عليه قارورتان من الصلصال ومنضدة إلى جوار النافذة.. مجرد نافذة بسيطة وصغيرة كانت بالنسبة له في وقت سابق كبيرة جدا حتى أنه لم يكن ليستطيع أن ينظر إليها إلا من الأسفل. كان من غير المجدي أن يحاول الإمساك بطرفها ليفرد قامته بتلك الطريقة، لأنه لم يكن يستطيع حتى بذلك أن يشبع عينيه المسكونتين بالفضول لتريا ذلك الذي يصلصل أويعبق بالرائحة في الأعلى فاكتشف أن من الممتع جدا أن يتحسس كل السيقان تحت المنضدة مفضلا السيقان الضخمة على كل شيء. ثم سمع صوت أبيه الذي ينتمي لاولى أضخم زوجين من السيقان، وهو يقول: إن الفئران تحت المنضدة من دون شك، وفي الحال تلتزم الفئران السكون وتبدأ قلوبها تضرب عاليا بخوف بهيج حتى أن الصوت يكاد يسمع في كل أرجاء البيت، وحركة واحدة غير محترسة كانت كافية لأن تسبب عويلا يائسا تحت المنضدة، لكن في اللحظة تلك تظهر الأيدي الكبيرة وتسحبه عاليا ليستطيع الآن النظر من الأعلى وليستمر بالنشيج لوقت أطول قليلا، ولكن ما أن تضرب الأيدي الضخمة المنضدة مرة واحدة حتى يعود كل شيء إلى وضعه الطبيعي، والمنضدة الآن بالغة الصغر، بالغة القدم حتى أنه يشعر بالأسف إزاءها.
وعندما جاءت أونتي ووجدته مقرفصا تحت المنضدة شعر بالخزي من نفسه .ظهرت فجأة في الممر برغم أن( لديها الكثير من العمل عليها إنجازه ) انحنت إزاء عضادة الباب وأخذت تراقبه وهو يفتح باب الغرفة ثم وهو يفتش الفراش وخزانة الملابس والمنضدة الصغيرة، كانت ثمة ملابس مطرية على عتبة النافذة مع مزهرية مترعة بأزهار نضرة تقف عليها .كانت أونتي هناك تنظر إليه بارتياب كما لو كانت تتوقع شيئا ما سيحدث، وهذا ما جعله يشعر بالارتباك. الشيء الوحيد الذي تعرف عليه هو منضدة المطبخ وكل ما عداها بدا له غريبا حتى أنه لم يستطع أن يتذكر أنه شاهدها من قبل، قالت أونتي: لم أكن أتوقع مجيئك ولو كنت أتوقع ذلك لرتبت كل شيء من أجلك..
أجابها لا عليك..
كان يشعر لسبب لا يعرفه بأنها كانت تتوقع جوابا مختلفا، وكان على وشك أن يقول شيئا آخر، أن يشرح لها السبب الحقيقي لمجيئه إلى هذا المكان، لكنه عدل عن رأيه ثم شعر بالفرح حين صار خارج الكوخ مرة ثانية وهو يستنشق بقوة الهواء المنعش البارد.
نظر إلى الريف بعناية .. هناك شيء مضحك إلى حد ما كما لو كان قد رسم من قبل طفل صغير.. المنحدر الحاد.. الوادي.. الجانب الآخر للوادي وعلى كل واحد منهما ملء قبضة اليد من الأكواخ.. بعيدة ومتفرقة ..أيّ منعزلين هم الذين بنوها ..إنها عالية بشكل لا يصدق.. تبدو للوهلة الأولى وكأنها مستحيلة المرتقى حتى يقع بصرك على الدرب الضيق الذي اختطته أقدام السائرين على جانب التل .أحد الأكواخ كان في مواجهته تماما على المنحدر الآخر أولئك هم (الجيران المتاخمون لهم ) .أنت تستطيع أن تبني جسرا عملاقا عبر الوادي وهذه الممرات الكثيرة التي اختطتها أقدام السائرين، هناك في المدينة يصدم الناس بعضهم بعضا في كل خطوة..أما هنا فلعل أحدا لا يطرق بعض هذه الدروب على مدار العام.
عاد إلى الكوخ .. قال لها : يبدو يا أونتي أنك بحاجة إلى قفص للأرانب، سأصنع لك واحدا.. ثم قفز إلى العلية وهناك عثر على بضعة ألواح من الخشب جميلة ومناسبة، قاسها ثم قطعها، ثم قال:ماذا عن المسامير يا أونتي ؟ ليس ثمة مسامير هنا: ثم جاس حلال الكوخ بحثا عنها، نقب في كل الحيطان وفي السياج الخارجي فلم يجد مسمارا واحدا يصلح للاستعمال في أي مكان ، جلس في الباحة وهو يشعر بنفسه مستهلكا ومحبطا . .
قالت أونتي : لا تهتم لذلك كثيرا .سأكمل قفص الأرانب بنفسي في وقت أخر ، وحين أذهب إلى المدينة للتبضع سأشتري بعض المسامير .. والآن هيا.. تعال وتناول غداءك بعد الظهر ذهب إلى الينابيع المعدنية.. رسمت له أونتي الطريق، وعندما كان يتخذ طريقه عبر جانب التل منحدرا شاهد فتاة صففت شعرها على شكل ضفيرة واحدة تتدلى من مؤخرة رأسها وهي تنتظر فرصتها، كانت تمتع نفسها بالغناء، لكنها ما أن لمحته حتى توقفت وارتبكت.. كان يود لو أنه استطاع أن يكلمها أو أن يريها المسدس الذي اشتراه من أصدقائه في المصنع، لكنه لم يكن يدري من أين سيبدأ بالضبط، ثم قال في نفسه: سأكلمها في طريق العودة، ثم ركض منحدرا نحو النبع، هناك شرب قليلا من الماء الفوّار ثم استلقى على المرج وشعر بالراحة. كان العشب حوله يغني بصوت ذي جرس غريب، إنه مكان يصلح لبناء دارة، وهناك سيكون طريق إليها تسلكه السيارات التي تنقل الناس الذين سيشربون الماء من الينابيع ويستلقون على العشب، وفي الشتاء سيمارسون رياضة التزلج.
عندما عاد كانت الفتاة قد ذهبت.
قالت أونتي عندما رأته يجمع حاجياته : لماذا لا تقضي الليلة هنا ؟
قال لها: لا أستطيع ، أصدقائي ينتظرونني .
شعر بأسف حقيقي لأنه سيغادر ، يود لو أنه ظل هناك مستلقيا على المرج ذاك يشاهد الغروب ، وأسف أكثر لأنه لم يكمل قفص الأرانب .
مسحت أونتي يديها الملوثتين بالطحين بمئزرها ، كان ضوء النهار ينحسر بسرعة ، وظلال قاتمة تنتشر في المطبخ من وراء خزانة الأواني ..
قالت أونتي : تستطيع أن تظل معي عن طيب خاطر.
إنه يستطيع أن يظل هنا عن طيب خاطر ، وعليه أن يذهب غدا لقص العشب في المرج ،أو أن عليه الذهاب للعمل في الغابة أو أن يبدأ العمل في بناء الدارة .. ثمة أكثر من سبيل للحياة هنا .
هز رأسه وقال : لعلي أعود عندما ينتهي كل هذا.
رفع حقيبته التي ملأتها أونتي بالكعك إلى كتفه ، وببطء هبط الممر الضيق الذي اختطته أقدام السائرين إلى الوادي ، وصاح سأعود لأبني لك دارة قرب النبع وطريقا يؤدي إليها ، ثم تأكد مرة أخرى من وجود المسدس في جيب سرواله الخلفي ،نصحه أصدقاؤه بعدم حمله معه، وقالوا له إنهم سيجهزوننا بالبنادق على كل حال لكنه آثر أن يقضي رحلته الطويلة بالقطار مشدود الأعصاب مخافة تفتيشه على أن يترك المسدس في البيت . خطوات قليلة ثم اختفى ، هبت عاصفة ريح فحركت الأشجار .
كانت أونتي لا تزال توالي مسح يديها النظيفتين الآن بمئزرها ..
لماذا .. إنه مجرد ولد ! إلى الخلف منها كان الكوخ وحول الكوخ سياج خشبي متداع ..كانت ستعطيه كل شيء لو أنه بقي فحسب، شجرة الكمثرى في الساحة، ملعقة الخشب التي أولاها اهتماما خاصا، ولون الدجاجة التي تأتي لتنقر قرب النافذة عندما تشعر بالجوع..لكن ما أخذه لم يكن سوى الكعكات القليلة تلك ثم غادر بالطريقة نفسها التي غادر بها أبوها وأخوها من قبل ، في ذلك اليوم كان ثمة رعد من منطقة التلال تماما مثلما هو اليوم ، كان لديها الإحساس بالخوف من أنه لن يعود أبدا.
أوه، يا للمأساة ..إنها نزوات أنثوية بالغة السخف.. فكرت أن عليها أن تذهب لتسقي الحديقة حيث تزرع بعض الخضراوات لسد حاجتها الشخصية.. الدجاجات، المعزى..إنها في حركة دائبة من الشروق إلى الغروب مثل النحلة وهي المرأة المتقدمة في السن، الواهنة، العقيمة.بقيت لوحدها تقوم بكل ذلك .
مرة كان لها زوج ، لكنه مات، فظلت مع الكوخ المجاور كما لو كان كوخها ، وعندما رحلت الجارة إلى المدينة طلبا للعمل تركت لها البيت مع كل ما فيه من أثاث يصعب نقله، وعندما كان زوجها في قيد الحياة لم تطأ قدمها ذلك البيت إلا لماما.كانت تذهب لتغيير هواء المكان أحيانا، ولكن بعد وفاته قامت بطلاء الجدران ورتبت البيت برمته حتى أنفـقت آخر فلس لديها من أجل ترميم السقف، وواظبت على وضع الزهور النضرة في المزهرية.. ماذا لو عاد أحدهم فجأة؟ إنها لم تكن لتستطيع أن تترك البيت يتداعى ويتعفن .
إن أحدا سيجيء حتما في يوم ما، لكن أحدا لم يأت منذ بضع سنين حتى كانت الليلة الماضية …
كانت الشمس تلامس ذروة الجبل، والنهار الذي انتظرته منذ سنين مات أو كاد. والآن لا أحد سيجيء ثانية- ياله من فتى عزيز – كان يريد أن يبني دارة وطريقا حسنا.. من يعلم.. ربما يستطيع أن يكون مهندسا معماريا في يوم ما.. ربما يجيء أحدهم ليبني دارة هنا وطريقا يؤدي إليها .. ربما يجيء أحدهم ليكمل قفص الأرانب، لكنه من المحتمل جدا أن يكون شخصا آخر.
قالت الفتاة: هل أستطيع الدخول لشرب الماء؟
بالطبع يا عزيزتي، ولكن ألا ترين أن من الأسرع لو ذهبت إلى بيتك من أجل هذا ؟
اصطبغت وجنتا الفتاة بالحمرة .نظرت نحو الكوخ بقلق.
قالت أونتي : لقد غادر..أنت تعلمين ذلك..
خفضت الفتاة عينيها.. وراحت تحدق بالقدح.
اختفت الشمس وراء الجبل.. شخص آخر سيحبك..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى