علي كاظم داود - محنة الصوت الآخر.. عن الهوية والسرد النسوي

على الرغم من شيوع مصطلح السرد النسوي أو الأدب النسوي والكتابة النسوية بعامة، إلا أن من الضرورة القول بأن هذا التصنيف قد دار حوله جدل نقدي طويل، واختلفت فيه الآراء وتباينت المواقف بين القبول والرفض والوسطية. كما اختلف دعاة النسوية في ما بينهم، فلم يتوصلوا إلى تحديد أسس نظرية ثابتة أو مصطلحات متفق عليها في إطار هذا المجال، مع غياب تحديد دقيق وكامل لمصطلح الكتابة النسوية، كما أكدت بعض الدراسات المختصة.
نشأت الحركات المطالبة بحقوق المرأة في القرن التاسع عشر، في أوروبا، وأطلق عليها لاحقاً النسوية، ويُنظر إليها «بوصفها أسلوباً في الحياة الاجتماعية والفلسفية والأخلاقيات، يعمل على تصحيح وضع النساء المتدني الذي يحط من شأن المرأة ويحقرها». وتعمل الفلسفة النسوية على فضح كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية النسوية وجوهرية الاختلاف، بما يؤدي إلى الأكثر توازناً وعدلاً، على حد وصف د. يمنى طريف الخولي، في بحثها الموسوم بـ (النسوية وفلسفة العلم). فكان أدب المرأة، تحت مظلة هذه الفلسفة، بمثابة ردة فعل، في مواجهة الفعل الاجتماعي المسلّط عليها من المجتمع.
في إطار ذلك يحاول د. عبد الله إبراهيم التمييز بين سرد النساء والسرد النسوي أو الأنثوي وذلك في كتابه: (السرد النسوي ... الثقافة الأبوية، الهوية الأنثوية، والجسد)، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2011. واضعاً كل ما تكتبه المرأة في مجال السرد تحت مصطلح سرد النساء، فهو يرى فيه نمط كتابة «تتم بمنأى عن فرضية الرؤية الأنثوية للعالم والذات إلا بما يتسرب منها دون قصد». بينما يختص المصطلح الثاني، السرد النسوي أو الأنثوي، بحضور أحد المكونات الثلاثة الآتية في السرد، أو اندماجها معاً فيه، وهي: «نقد الثقافة الأبوية الذكورية، واقتراح رؤية أنثوية للعالم، ثم الاحتفاء بالجسد الأنثوي، فتشابكت تلك المكونات من أجل بلورة مفهوم الرواية النسوية بما صارت تعرف به»، وهذه الكتابة ـ بحسب الكتاب ـ تهدف إلى التعبير عن حال المرأة استناداً إلى تلك الرؤية في معاينتها للذات والعالم. أي أنها تنشغل بنقد الثقافة الأبوية، واعتبار جسد المرأة مكوناً مركزياً فيها. كما يرى أن كل ذلك يجب أن يجري في إطار الفكر النسوي، ويستفيد من فرضياته وتصوراته ومقولاته، من أجل إنتاج مفاهيم أنثوية، من خلال السرد وتفكيك النظام الأبوي بفضح عجزه.
يبدو أن هذه النظرة لا ترى في القضايا النسوية ومعالجاتها السردية جانبها الإنساني العام، وكون هذه القضايا تندرج في إطار مباحث ومعالجات ثقافية متعددة، تنهض بقضايا الإنسان، بما هو إنسان، دون النظر إلى جنسه أو لونه أو صفته، وقد عزز الكتاب المذكور ذلك، بإقراره أن التمثيلات السردية للعالم هي نتاج وعي الأفراد، نساءً ورجالاً، بأحوال العالم، ووجودهم فيه، وهذا الإقرار يلزم بأن إنتاج المعارف والأفكار في أصله رؤية فردية لها استقلالها وخصوصياتها الذاتية. كما أشار الكتاب إلى وجود هوية مستقلة للمرأة، في مواجهتها للعالم، وهو ما يَفْترِض وجود اشتباك شرس تدور رحاه على أرض الواقع بين هوية أنثوية وهوية ذكورية، في حين نلاحظ أن ما يتجه له دور المرأة هو التكامل من خلال التفاعل والتواصل مع دور الرجل، لبناء المجتمع وإنتاج الأنساق المعرفية والفكرية الموحّدة، تحت سقف الهوية الإنسانية، ولا نشهد، بوضوح، مثل هكذا معارك طاحنة في الواقع، خصوصاً في عصرنا الحاضر.
تعدّ هذه الرؤية امتداداً لجهود ناقدات غربيات من مثل: هيلين سيسو، ولوسي إيريجاري، وجوليا كريستيفا، واللاتي فتحن باب الجدل حول ذات المرأة وهويتها، أو هي مضاهاة عربية لما يعرف بالنسوية الفرنسية، وهو اتجاه ركز اهتمامه على هذا المفهوم، وربطه بمفهوم الكتابة الأنثوية، فمن الضروري في النسوية الفرنسية أن تكرس المرأة كتابتها لذاتها الأنثوية، واختيار اللغة التي تعتمدها في تمثيل نفسها، فالاهتمام بالهوية الأنثوية، وبالكتابة الأنثوية، يقصد منه زحزحة الهيمنة الذكورية المتغلغلة في الثنائيات المتضادة السائدة: الرجل/المرأة، العقل/العاطفة، القوة/الضعف، إذ تضفي الثقافة السائدة قيمة أعلى على الطرف الأول من تلك الثنائية، وتخفض أهمية الطرف الثاني، بحسب هذا الاتجاه. على أن سارة كابل تنظر إلى الذكورة والأنوثة بوصفهما «مواضع معينة للذات تشكلت بفعل عوامل خارجية، ولا علاقة لها بالاختلاف البيولوجي»، كما جاء في كتابها (النسوية وما بعد النسوية)، وهي بذلك تشير إلى أن الأنوثة فلسفة وفكر وهوية مستقلة.
في مقابل ذلك شككت جوليا كريستيفا في مفهوم الهوية الأنثوية؛ لكي لا تقع في شرك الثنائيات الضدية في مقابلتها للهوية الذكورية، لأن «المرأة لم تكن نقيضاً للرجل في يوم ما، إنما كانت شريكة، لكن الثقافة المهيمنة حولتها إلى تابع، فوظيفة الكتابة الأنثوية هي تعديل العلاقات بين الطرفين، ومحو التناقضات، وإبراز الخصوصيات، وملء الفراغات التي أهملتها الثقافة الأبوية». في حين يظهر لنا من تتبع مسار النسوية أن ثمة آراء كثيرة قد تصل إلى حد التعارض حيال هذا الموضوع، فلم تستقر بعد مفاهيم النسوية حتى في مهد نشوئها، حيث نجد أن ثمة مجموعة كبيرة من الاتجاهات المختلفة داخل النسوية، تعالج بالبحث الآليات التي تُشكل بها الهوية من خلال اللغة، فتطرح هيلين سيسو فكرة الكتابة الأنثوية، وتطرح لوسي أريجاري فكرة الكلام المؤنث كنقيض للتراكيب اللغوية التقليدية، كما تدعو ديل سبندر النساء إلى رفض دورهن الصامت في إطار ما تصفه باللغة التي صنعها الرجل. لكن هذا أنتج اتجاه قسم كبير من الكتابة النسوية إلى التعبير عن الذات بضمير المتكلم، ما أدى إلى شيوع السرد الذاتي والمونولوجي لدى النساء، والكتابة المتمحورة حول الجسد، وجاءت أغلب كتاباتهن مشحونة بالأحاسيس والمشاعر المتضخمة؛ فقد كانت ـ أي الكتابة ـ أداة ممكنة بيد المرأة لحل إشكالياتها مع الآخر الرجل، ووسيلة لإثبات ذاتها في صراعها معه. على أن فرجيينا وولف قد طالبت، من قبل، بضرورة توحد المرأة جسداً وفكراً، وأن تكون قادرة على التعبير عن كل ما لديها من خلالهما، ما يوحي بأن الكتابة بالنسبة لها بمثابة فعل تحرير للذات الأنثوية، ووسيلة لتحقيق وحدة هذه الذات والتعبير عن كامل وجودها وهويتها، وبما يحقق إقامة علاقات منطقية مع ما حولها.
في ما يخص الجدوى والمنافع المعرفية التي يمكن استخلاصها من وراء تداول مصطلح السرد النسوي، يبيّن د. عبد الله إبراهيم أنّ «ثمة تدافع في الأهداف التي تريد النسوية تحقيقها، بداية من السعي إلى بلورة كتابة أنثوية متميزة عن الكتابة الذكورية، مروراً بتأنيث الكلام النسوي، وصولاً إلى عدم الاعتراف بلغة الرجل التي تستبعد الذات الأنثوية في أساليبها وصيغها وتراكيبها، فضلاً عن كونها تفتقر إلى الكفاءة في التعبير عنها». من جانبنا نطمح، من خلال هذه الدراسة وغيرها، للارتقاء بسرد المرأة وكتابتها إلى مصاف المشاركة لسرد الرجل ومنجزه الكتابي، والتقليل من العوائق والفوارق بينهما، فللمرأة ذات إبداعية لا تختلف عن ذات الرجل إلا في النوع الإنساني، وتشترك معه في الرؤى المعرفية وأساليب النظر إلى القضايا ومعالجتها، ولا تمتاز عنه في المشتركات الإنسانية، إلا في حدود تلك الفوارق الفردية التي تميز بين البشر، فلا يمكن القطع باختلاف النظرة الأنثوية للعالم وقضايا الوجود والإنسان، كمُسَلَّمَةٍ كليةٍ، عن نظرة الرجال حيال هذه الموضوعات. الذات الأنثوية لا تختلف ـ في ما نرى ـ عن الذات الذكورية في محاور مهمة تؤثر على طرائق التفكير وإنتاج المعارف والأفكار، وقد ثبت ذلك أيضاً في الدراسات البيولوجية والأنثروبولوجية وغيرهما؛ ولهذا لا يمكن الجزم بكون السرد الأنثوي منمازاً عن السرد الذكوري، ويحتاج إلى معاملة مختلفة خاصة به تماماً، خصوصاً في الجوانب الشكلية ومعمار النصوص.
ربما يمكن العثور على بعض العلامات الفارقة للأدب أو السرد النسوي، في المستوى الشكلاني، لكن ذلك لن يكون على سبيل الإطلاق والعموم. فعلى الرغم من شيوع الروي الداخلي أو نسق التداعي المونولوجي وشاعرية اللغة في ما تكتبه النساء من سرد، إلا أن المنجز الذكوري لم يخلُ منها أيضاً. لهذا نجد أن من المناسب عدم التفريق بين الكتابتين في التناول النقدي، فقد رسّخت مجموعة من الكاتبات العربيات أساليبهن السردية المميزة، التي لا تختلف عن أساليب الرجال، بل وقفن مقام الندّية في براعة الإمساك بالأدوات الإبداعية، وإتقان السرد، والتخلص من العقد الذاتية، أو العقد التي لازمت المرأة العربية، وتحررن من قيود وإسقاطات الجندر والدوغما، لينتجن نصوصاً سردية مهمة، تنافست في مواضع كثيرة مع نتاجات لأسماء رجالية لامعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى