حسن سرحان - القارئ والمروي له.. محاولة لفض الاشتباك

تتناول هذه الدراسة بديهية من بديهيات الشعرية الحديثة نتطرق خلالها الى فكرة يتقاسمها الكثيرون من النقاد (مع بعض الاستثناءات طبعا) تتعلق بالمروي له. من المعلوم ان "المروي له"، باعتبار كونه مصطلحا بنيويا/سرديا، ظهر للمرة الأولى بصورة خاصة في كتابات رولان بارت خلال ستينات القرن الماضي. نظّر له، من بعد ذلك، جيرار جينيت في فرنسا وجيرالد برنس في العالم الانكلو ساكسوني.
كان يُراد لهذا المصطلح، وقت الاشتغال عليه، ردم هوة ورفع غموض وفض اشتباك مفاهيمي بين كيانين نلمس الى الان بينهما في كتابات بعض النقاد شيئا من المطابقة تصل حد التماثل. اعني بذينك المكونين القارئ الخارجي ذي الوجود المادي الحقيقي والقارئ الضمني المتمثل داخل النص والذي يتوجه اليه السارد، أحيانا، صراحة تحت اسم "قارئ" او باستخدام ضمير المخاطب المفرد او الجمع ( كما في "العدول" لميشيل بوتور) مما يسمح للمروي له بالظهور علناً على مسرح الحدث وهو يمارس فعل القراءة. تُعير بعض النصوص السردية المروي له صوتا سرديا وحوارا داخليا واعتراضات وأسئلة موجهة مباشرة الى السارد/الشخصية (كما في "طفولة" لنتالي ساروت و"جاك القدري" لدينيس ديدرو).

القارئ الحقيقي
في مطلق الأحوال، لا بدّ من تجنب الخلط بين هذا الكيان الداخل نصي والقارئ الحقيقي رغم ما بين هذين المفهومين من تجانس ظاهري هو الذي يجعل بعض الدارسين والنقاد يطلقون عليهما معا صفة "قراء" دون الالتفات الى حقيقة وجود اختلافات واضحة بينهما. ان عدم التمييز بين الراوي والمروي له لا يصدر إلا عمن هو قليل المعرفة بالمفاهيم السردية/البنيوية. بغية التبسيط، نقول أن الراوي ومعادله المروي له هما، على التوالي، الشخصية التي تروي والشخصية المروي لها. هذا التعريف البسيط يحدد وجود هذين الكيانين بالشخصيات الحاضرة داخل النص. المسرود له إذن شخص تخييلي يتداخل بعلائق نصية مع شخص تخييلي هو الاخر ونعني به السارد. اذا عدنا الى النظريات اللغوية، سنلاحظ ان المروي له هو بمثابة متلقي الإرسال اللغوي المرسل من قبل المتكلم والذي هو، في حالة النص السردي، السارد وليس الكاتب. يصبح النص بهذا المفهوم فضاء اتصال ليس بين الكاتب والقارئ، كما يظن البعض، بل بين السارد والمسرود له.
ولأن السارد كان قد حظي بقدر لا باس به من الاهتمام النظري، وان كان هناك من لا يزال يمزج بينه والكاتب، ولأن وجوده أكثر وضوحا، في الغالب، من وجود المروي له، فإننا سنركز من الآن فصاعدا على هذا الأخير مع الإشارة الى أننا قد نعود، في مناسبة أخرى، لدراسة مصطلح الراوي دراسة بنيوية سردية في محاولة لفض الاشتباك بينه وبين المؤلف.
قدر تعلق الأمر بنص سردي تخييلي، ليس للمروي له وجود حقيقي أكثر من ذلك الذي للراوي. فلكليهما حضور خيالي لا يتجاوز حدود النص الذي يتحركان على سطح مساحته السردية. كما السارد، يتحدد حضور المسرود له بحسب ثلاثة أشكال من الوجود النصي مصنفة بحسب اشتراكه او عدم اشتراكه في الحكاية: المروي له الداخلي narrataire intradiégétique (اي الذي يشكل جزءا من الحكاية) والذي يمتلك كل ما للشخصية الروائية من خصائص، المروي له الافتراضي narrataire invoqué اي ذلك الذي لا تمنحه القصة هوية محددة لكنها تتوجه اليه بشكل صريح وليس له من الخاصيات التخييلية التي للشخصية الروائية غير افتراض توجه السارد بالخطاب اليه عند سرد للحكاية، المروي له الخارجي narrataire extradiégétique (اي الذي لا دور له في الحكاية) وهو من يمثل القارئ الافتراضي للنص الروائي والذي يتماهى معه كل قارئ خارجي يقرا القصة.

صورة وهمية
ان المروي له النصي عبارة عن كيان تحددت، ولو إجمالا، صيغ وجوده نهائيا. تختزل حضوره مجملُ مؤشرات داخل النص: مجموع الفوارز، الجمل المؤولة، إشارات وصفية، ملفوظات بالاسلوب المباشر الخ... والتي ترسم له أحيانا صورة وهمية وأحيانا أخرى تمنحه الكلام في فضاءات مميزة عندما يعلق الراوي قصته كي يتساءل عن أدائها وتلقيها (كما في "مزيفو النقود" لاندريه جيد، مثلا). من الممكن طبعا ان يكون للقصة أكثر من متلقٍ داخل نصي يميز النص بين طرق قراءاتهم المتعددة كأن يميز بينهم من ناحية الجنس (قراء، قارئات) او من حيث الجغرافيا (قارئ مدني، قارئ ريفي).
يبقى انه حتى في حالة كون القراء الداخل نصيين مجموعة وليس فردا واحدا فان القائمة تكون دائما نهائية. أما القارئ الحقيقي فانه على العكس من ذلك شخص واقعي يقرا الكتاب وصفاته غير متوقعة ومتغيرة من قارئ الى آخر ومن قراءة الى أخرى زمانيا وتطوريا وقائمته مفتوحة ووجوده طبيعي. القارئ الحقيقي جسم حي يستصحب معه لحظة قراءته للنص تاريخه الشخصي وذاكرته وتجربته في العالم وفي القراءة. التمييز اذن وجودي بين هذين الكيانين حيث ان الاول، اي المروي له، ليس أكثر من كائن من ورق لا يتجاوز حضوره حدود النص.
أما الثاني، اي القارئ المفترض للنص، فهو مخلوق حي وحقيقي ذو وجود صريح وواضح.

نماذج تطبيقية
إليكم مفتتح احد روايات ايتالو كالفينو: "ستبدأ أنت الآن قراءة رواية ايتالو كالفينو الجديدة والتي عنوانها "لو ان مسافرا واحدا كل ليلة شتوية". استرخ وركز.ابعد عنك كل فكرة أخرى. دع العالم الذي يحيط بك يتلاشى في العدم. من الأفضل إغلاق الباب ففي الجانب الآخر لازال جهاز التلفاز غير مطفأ. قل للآخرين حالا: "لا. لا أريد مشاهدة التلفاز" قل ذلك بصوت أعلى. (...)" ليس هذا الحوار بين الكاتب والقارئ الخارج نصي بل هو بين السارد والمسرود له. ميزة هذا الحوار، كما ستكون تلك ميزة أساسية لحوار سارد "المعظم" للروائي طه حامد الشبيب، انه يعلن عن وجود المروي له بوضوح. وتلك حالة قلما تسعى الى إظهارها صراحة النصوص الروائية محلية كانت أم عالمية. حيث ان المسرود له يكون غالبا ضمنيا دون حضور ملموس كذلك الذي تمنحه إياه روايتا كالفينو و طه الشبيب. مثل كالفينو، يبني طه الشبيب قارئه الداخل نصي عندما يجعل السارد يستدعي مباشرة المروي له مشركا إياه في لعبة السرد ودواليبها. ان هذا الإشعار المباشر الذي تتسم به رواية "المعظم" يطرح بوضوح الحوار بين السارد والمسرود له وذلك عن طريق الظهور الصريح لضمير المخاطب الجمع "انتم". يبني كل من الراوي والمروي له عند الروائي طه الشبيب نماذج لقراء النص الذين يجب عليهم أن يقبلوا، إن أرادوا متابعة استكشاف النص، شروط القراءة فوق النصية.

نصوص عراقية
يحدث أحيانا ان يكون المروي له متعددا بتعدد الرواة. تلك حالته في "غسق الكراكي" و"ترنيمة امرأة" للروائي والقاص سعد محمد رحيم وكذا "ذاكرة ارانجا" للروائي محمد علوان جبر.
في "غسق الكراكي"، يكون المروي له الأول، وتلك حالته في اغلب نصوص القاص والروائي سعد محمد رحيم، بلا دليل يقطع بوجوده باستثناء الافتراض الصحيح الذي يقول ان لكل خطاب لفظي مستقبلا يتسقبله، لكن هذا المروي له الأول ليس هو الوحيد دوما الذي يتوجه اليه الخطاب السردي. عندما تبدأ الشخصية الرئيسة، وهنا لابد لي ان اسجل تحفظي على هذه التسمية التي لا تتوافق مع مبادئ علم السرد البنيوي الذي لا يجيز الحديث عن شخصية رئيسة واخرى ثانوية بل عن ادوار سردية لغوية دون الالتفات الى حجم تلك الأدوار ومساحتها في فضاء النص، اقول، تماشيا مع الشائع، عندما تبدأ الشخصية الرئيسة بقراءة مذكرات شخصية أخرى، تتحول الشخصية الرئيسة نفسها في هذه الحالة الى مروي له يضاف الى المروي له الأول مثلما يتحول سارد المذكرات الى سارد من المستوى الثاني يستكمل، على نحو من الأنحاء، ما رواه السارد الأول الذي افتتح القص. في "ذاكرة ارانجا"، يكون تعدد المروي لهم أوضح بسبب تعدد الرواة أصلا في عمل الروائي محمد علوان جبر. فإذا ما افترضنا، وذلك فرض صحيح قطعا، وجود مروي له إزاء كل راوٍ، سيكون لدينا في النهاية أكثر من متلقٍ داخل نصي للخطاب.
تفصيل ذلك ان إبراهيم، راوي "ذاكرة أرانجا" الأول، يوجه خطابه، مرة، الى سلام الذي يمثل، بطبيعة الحال، المروي له ومرة الى المروي له النصي. اما إبراهيم نفسه فهو يمارس دور المروي له عند استماعه لخطاب أبيه السردي ونقله ذلك الخطاب الى المسرود له النصي المتواري على الدوام.
خلاصة القول أن كل نص لا بد ان يتوجه الى مروي له، ظاهرا كان أم مضمرا، وان هذا المروي له ليس هو، في كل حال، القارئ الخارجي للنص. فكل كاتب يفترض مسبقا قارئا غير موجود بعد يشكل له نموذجا مفترضا وخياليا داخل النص لا خارجه.



د. حسن سرحان جاسم


* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى