دهنون آمال - بين الشعر والنثر، قصيدة النثر.. 1-2

لقد ظهرت قصيدة النثر العربية بعد فترة قصيرة من ظهور شعر التفعيلة أو ما أطلق عليه «الشعر الحر»، وكان الجدل لا يزال على أشده حول شرعية هذا النوع حتى أطلت «قصيدة النثر»، وأحدثت هزة كبرى في تاريخ الشعر العربي، وأحدثت ما يشبه الصدمة عند القارئ الذي تعوّد على الشعر الموزون المقفى، فإذا به أمام شعر تخلى عن كل قيود الخليل..لقد شهدت القصيدة العربية تحولات بارزة مع منتصف القرن العشرين، لم تشهدها طيلة مسارها التاريخي، فما إن لاحت قصيدة التفعيلة حتى أطلت «قصيدة النثر» بشكلها الصارخ وتمردها على القيود الخليلية من وزن وقافية.
وقد عرف هذا الشكل في الآداب الأجنبية، ويشير يوسف بكار إلى ذلك بقوله: «وجد الشعر المنثور اسمه في الإنجليزية» Prose poetry أو Poetryin Prose بوحي من الإنجيل وترجمات الشعر الكلاسيكي والحديث، وربما ظهرت بداياته الأولى عند المسيحيين من أدبائنا العرب لاطلاعهم على نماذج أجنبية منه».(1)
وقد عرف هذا الشكل الجديد عند الغرب قبل أن يظهر في حركة الشعر العربي فقد أطلق (جون كوهين) على قصيدة النثر «قصيدة معنوية» ويقول: «ففي قصيدة النثر في الواقع يوجد بصفة عامة الخصائص المعنوية نفسها التي توجد في قصيدة الشعر ليس هناك شك في أن الشاعر في «قصيدة النثر» متحرر من قيود الوزن وهو من ثم أكثر طواعية لكي يلعب على رافد المستوى المعنوي»(2).
ويرجع مصطلح «قصيدة النثر» في الأصل إلى ترجمة المصطلح الفرنسي “poéme en prosr” وهو مصطلح «وجد في بعض كتابات (رامبو) النثرية الطافحة بالشعر، وإن تكن له أيضاً أصول عميقة في الآداب كلها، بما في ذلك العربية ولاسيما الديني والصوفي منها»(3).
وقد أخذ أدونيس مصطلح «قصيدة النثر» من كتاب (سوزان برنار) «قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا هذا» الذي صدر عام 1959، ويعتبر أدونيس من أوائل المنظرين لهذا الشكل الشعري الجديد في مقالة نشرها في العدد الرابع عشر من مجلة «شعر»، يقول أدونيس: «هي نوع متميز قائم بذاته، ليست خليطاً، هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة، لذلك لها هيكل وتنظيم ولها قوانين ليست شكلية فقط، بل عميقة عضوية كما في أي نوع فني آخر»(4).
أما محمد علي الشوابكة فيعرفها بأنها: «الكتابة التي لا تتقيد بوزن أو قافية وإنما تعتمد الإيقاع والكلمة الموحية والصورة الشعرية، وغالباً ما تكون الجمل قصيرة محكمة البناء مكثفة الخيال»(5).
وهو إن كان يتفق مع تعريف (جون كوهين) بتخلي قصيدة النثر عن الوزن والقافية فإنه يضع لها بعض الخصائص المميزة كالإيقاع والصورة الشعرية والجمل القصيرة والخيال.
ومع ظهور هذا المصطلح الجديد في نهاية الخمسينيات ثار جدل حوله، فقد رأى عدد من النقاد والدارسين أن مصطلح «قصيدة النثر» يحمل معه متناقضات إذ يجمع بين جنسين أدبيين هما القصيدة والنثر، ويرى صبري مسلم أن ذلك التناقض يرجع إلى خصائص كل من النثر والقصيدة، ويقول: «لأن القصيدة تتطلب شكلاً منتظماً له مرجعيته العريقة في تاريخ الفن الإنساني والنثر لا يشترط فيه أن يخضع لتقاليد عروضية أو أسلوبية معينة»(6)، وهو بذلك يشير إلى الفاصلة التي تعودنا على وضعها بين الشعر والنثر.
وقد كان جبران خليل جبران سباقاً في الجمع بين هذين الحقلين الأدبيين الشعر والنثر في مصطلح الشعر المنثور مع بدايات القرن العشرين، كما استخدم مصطلح «القصيدة المنثورة» في رسالة بعثها إلى مي زيادة عام 1918، حاول فيها أن يميز بين القصيدة المنثورة والقصيدة المنظومة(7)، لكنه لم يلقَ الرفض الذي واجهه رواد «قصيدة النثر».
ومن الأوائل الذين وقفوا ضد هذا المصطلح نازك الملائكة، فرأت بأنه يتسم بالغرابة وعدم الدقة، وأكدت أن الفرق بين «القصيدة» و«النثر» واضح ولا مسوغ للجمع بين النقيضين، كما أنها في هجومها «الانفعالي» رأت أن هذا الخلط في المصطلحات بمثابة نكسة فكرية وحضارية، وذهبت إلى القول بأن مصطلح «قصيدة النثر» «ما هو إلا مجرد بدعة وأن «تسميتها للنثر شعر» هي في الحقيقة كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة وعليها أن تجابه كل ما يجابهه الكذب من نتائج»(8). ولم يتوقف الأمر عند الاتهامات بالكذب والزيف والتشويش، واستمر الهجوم الذي كان نابعاً في الأساس من غموض المصطلح، حيث وصف بأنه مبهم فبينما توحي كلمة قصيدة بانتماء النص إلى الشعر نجد كلمة النثر توحي بانتماء هذا الجنس الأدبي إلى عالم النثر وتصبح التسمية مبهمة، وبالتالي فإن هناك من يذهب إلى أنها ليست قصيدة شعرية بأتم معنى الكلمة ولا هي نثر عادي، وإنما هي مصطلح غامض لا ينتمي إلى الشعر ولا إلى النثر، ومن هنا فإن قضية المصطلح هي أول ما واجه هذا الجنس الأدبي الجديد لأنه يثير مفارقة واضحة بين طرفي المصطلح «القصيدة والنثر» نظراً لما ارتبط في أذهاننا عن شكل القصيدة التقليدية.
ويعتقد أن رواد مجلة (شعر) قد أخذوا المصطلح عن الشعر الغربي في نماذجه التي تخلت عن قيود الوزن والقافية، فما هو مفهوم الشعر والنثر الذي أحدث اجتماعهما كل هذه التساؤلات؟ إن تحديد مفهوم الشعر ليس بالأمر السهل، لأن تعريفه قد اختلف باختلاف البيئات والعصور.
لقد فرق النقاد القدماء بين الشعر والنثر، وكان الشعر ديوان العرب وهو ما أطلقوه عليه أما النثر فبرزت مكانته بعد استقرار الدولة الإسلامية، وقد انقسم النقاد في مفاضلتهم بين الشعر والنثر، فهناك من فضّل النثر على الشعر وقد يرجع ذلك إلى العامل الديني، لأن هناك من الآيات القرآنية والأحاديث ما ينص على ذم الشعر.
وأما ابن رشيق فلم يقصر تعريفه للشعر على الوزن، ويقول في باب حد الشعر «الشعر يقوم بعد النية على أربعة أشياء وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية، وهذا هو حد الشعر لأن من الكلام ما هو موزون ومقفى وليس بشعر لعدم القصد والنية»(9). فابن رشيق لم يعتبر الوزن مميزاً وحيداً للشعر، كما أننا نلاحظ أنه قدم المعنى على القافية وهذا دليل على اهتمام النقاد القدماء بالمعنى.
ونجد حازم القرطاجني لا يقصر تعريفه للشعر على عناصر العروض (الوزن والقافية)، وإنما أعطى أهمية كبيرة للتأثير في السامع لما يحدثه من غرابة، فيقول: «فأفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيئته وتوقيت شهرته أو صدقه أو خفي كذبه وقامت غرابته...»(10).
وهناك من النقاد من فضل الشعر على النثر ولعل مرد ذلك إلى خصائص الشعر الإيقاعية وإلى تفرده بالوزن، والذي أولاه النقاد عناية كبيرة وربطوها بالانفعالات النفسية وهو ما يشير إليه جابر عصفور في قوله: «ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة، وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم ومنها ما يقصد به الصغار والتحقير وجب أن تحاكي تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها إلى النفوس»(11).
وأما حسين مروة فيذهب إلى أنه ينبغي أن نطلق كلمة شعر على كل كلام فيه إيحاء جمالي سواء كان موزوناً أم غير موزون، فيقول «فنصطلح إذن على الشعر الذي له النبض الجمالي سواء كان مكتوباً بوزن أو بغير وزن، والنثر هو الكلام العادي أو التقريري أو التسجيلي المباشر، هذا نثر يمكن أن أكتب مقالة فنية وأسميها نثراً»(12)، فهو يفرق بين الشعر والنثر بدرجة الإيحاء والخيال، بل إن الشعر هو كل كلام ابتعد عن التقريرية واقترب من المشاعر وهزّ الوجدان.
وأما أدونيس فإنه يفرق بين الشعر والنثر من حيث طريقة الاستخدام فيقول: «النثر يستخدم النظام العادي للغة، أي يستخدم الكلمة لما وضعت له أصلاً، أما الشعر فيغتصب أو يفجر هذا النظام، أي أن يحيد بالكلمات عما وضعت له أصلاً»(13).
وقد حاول صلاح فضل أن يزيل بعض الغموض الذي اكتنف المصطلح، لأنه جمع بين «القصيدة» و«النثر». وأكد أن الجذر (قصد) لا يتضمن الأوزان العروضية(14).
إن ما أحدث هذه الإشكالية في المصطلح وأدى إلى رفض عدد من النقاد والدارسين له هو هذا الجمع بين جنسين مختلفين الشعر والنثر، وبتتبع مجمل الآراء نجد أن التعامل مع المصطلح تم من الناحية اللغوية فقط وهو ما يبرر ذلك الرفض، وقد أشار إليه قاسم المومني بقوله: «هناك فعلاً جمع بين جنسين مختلفين، وربما تحل المشكلة إذا تم التعامل مع المصطلح بغض النظر عن الجانب اللغوي، فهناك كثير من المعاني الاصطلاحية التي تختلف عن معانيها اللغوية، فالمعنى الاصطلاحي يختلف عن المعنى المعجمي، فإذا كان الأول معنى استعمالياً قبل كل شيء لأنه أكثر تخصصاً ودقة فالمعنى الثاني عام يحمل في معظم حالاته أكثر من وجهة»(15).
ويبدو أن مصطلح «قصيدة النثر» أطلق رغبة في تسمية الأشياء بأسمائها للخروج من البلبلة والخلاص من تشويه الحقائق(16)، إلا أنه قد فتح باب الجدل على مصراعيه، إلى درجة أن أدونيس فكر في حل لهذه المشكلة واقترح مصطلحاً آخر هو «الكتابة شعراً بالنثر»، ورأى أنه يبتعد عن الغموض الذي نجده في مصطلح «قصيدة النثر».
ولقد أطلق على هذا الشكل الجديد مجموعة من المصطلحات منها: الشعر المنثور، النثر الشعري، القصيدة المضادة، القصيدة غير العروضية، النثيرة، الإبداع والشنر وهي محاولة من الشاعر محمد حسن عواد لينحت من اللفظين أي الشعر والنثر لفظاً ثالثاً وأطلق عليه «الشنر»، لكن هذا المصطلح لم يلقَ الترحيب من قبل الشعراء والنقاد.
وسماه ميخائيل نعيمة «الشعر المنسرح» وأطلق عليه أيضاً اسم الشعر المنثور(17)، ولكن هذه التسمية لم تستمر واقتصرت على مقال واحد من مقالاته(18)، وكما أطلق عليه عبدالله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير) مصطلح القول الشعري، فيقول: «فجملة القول الشعري إذاً هي كل جملة شاعرية جاءت في جنس نثري»(19).
الهوامش:
1 يوسف بكار: في العروض والقافية، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط2، 1990، ص: 151.
2 جون كوهين: النظرية الشعرية، ترجمة أحمد درويش، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، ط4، 2000، ص: 33.
3 يوسف بكار: في العروض والقافية، ص: 152.
4 أدونيس: في قصيدة النثر، مجلة (شعر)، دار مجلة شعر بيروت، س4، ع14، 1960،
ص: 81.
5 محمد علي الشوابكة: معجم مصطلحات العروض والقافية دار البشير، الأردن، د. ط. 1991، ص: 209.
6 صبري مسلم: تساؤلات في تقنية قصيدة النثر
7 ينظر: نذير العظمة: قضايا وإشكاليات في الشعر العربي الحديث، النادي الأدبي الثقافي، جدة، المملكة العربية السعودية، ط1، 2001، ص:220.
8 نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين بيروت، ط7، 1983، ص: 216.
9 بن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد الدين عبد الحميد، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، لبنان ط5، 1981، ص: 119.
10 حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بين الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط2، 1981، ص: 71.
11 جابر عصفور: مفهوم الشعر، مؤسسة فرح للصحافة والثقافة، القاهرة، ط4، 1990، ص: 201.
12 جهاد فاضل: قضايا الشعر الحديث/ )مقابلة مع حسين مروة) دار الشروق، بيروت، ط1، 1984، ص: 431.
13 أدونيس: سياسة الشعر دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، دار الآداب، بيروت، ط1، 1985، ص: 24.
14 ينظر: صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب، بيروت، ط1، 1995، ص: 218.
15 قاسم المومني: شعرية الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنثر، بيروت ط1، 2002، ص: 104.
16 ينظر: باب أخبار وقضايا، مجلة شعر، دار مجلة شعر، س6، ع22، 1962، ص: 130، 131.
17 ينظر: محمد علي الشوابكة: معجم مصطلحات العروض والقافية، ص: 209.
18 ينظر: نذير العظمة: قضايا وإشكاليات في الشعر العربي الحديث، ص: 213.
19 عبد الله الغذامي: الخطيئة والتكفير، دار النادي الأدبي الثقافي، ط1، 1985، ص: 98.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى