خيري عبد الجواد - الشيخ البعيــــــد - قصة

خيري ع. الجواد.jpeg


مر شهر بالتمام والكمال منذ أن جاءنى الهاتف للمرة الأولى، جاءني مرتين بعد ذلك، كلماته لم تتغير في المرات الثلاث، ظننتها في بادىء الأمر مجرد هلوسات، لكن أن تتكرر ثلاث مرات في مثل هذه المدة القصيرة وبنفس الكيفية : اذهب الى شيخك وارمي حمولك عليه، هو في انتظارك فلا تتأخر .

كانت حياتي قد اضطربت منذ فترة على كافة الاصعدة، فلا شيء مما خططت له تم تنفيذه، البيت الموروث عن والدي والذي عرضته للبيع لم يشتره أحد، ظل مثل البيت الوقف، وكلما كان يمر الوقت كان الوضع يزداد تأزما، وكنت أطمئن الدائنين دائما بالتسديد أول ما يباع البيت، وفي الآونة الأخيرة، كان الأولاد يلحون في ترك المنطقة العشوائية التي ما عادت تناسبهم، كنت أيضا اطمئنهم، وزوجتي كانت أكثر شراسة من ذي قبل ولم يكن لها سوى مطلب واحد طوال سبعة عشر عاما هي عمر زواجنا، أن تسكن في منطقة تليق بها وبأولادها، كنت أطمئنها هي الأخرى، ولكن من كان يطمئنني ؟

في هذا الصباح الذي صحوت فيه مبكرا على غير عادتي، وضعت في حقيبتي بعض علب السجائر وبلوك نوت وقلم حبر سائل وبعض عناوين اصدقائي وتليفوناتهم، غادرت المنزل، لم أخبر أحدا الى أين سوف اتجه، أنا وحدي كنت أعلم، ركبت المترو حتى آخر الخط في شبرا الخيمة، ووجدت الميكروباصات المتجهة الى طنطا واقفة في انتظار أدوارها، اخترت مكانا بجانب الشباك حتى أستطيع التدخين، انطلقت العربة في طريقها الى طنطا، وانطلقت أنا بأفكاري الى مدني الموحشة.


روح واحدة لقطة

علاقتي بالمشايخ والأولياء قديمة منذ أن كنت طفلا، كانت أمي تصحبني إليهم يوم الثلاثاء من كل أسبوع، أول الزيارات تبدأ بالسيدة زينب، ومن هناك كانت العربة الكارو تأخذ الزوار الى الحسين، ثم آخر المزارات أبو السعود الجارحي والذي كانت زيارته يوم الثلاثاء فقط، حيث كانت تقام حلقات الزار في البيوت التى حول المقام، ذات مرة نزلت احدى هذه الحلقات، كنت صغيرا وقتها، وكانت لدي قطة ألعب بها لما خربشتني، وبحركة لا إرادية أمسكت بالقطة الصغيرة وطوحتها في الهواء فنزلت على الارض بلا حراك، جاءت أمي على صوت الارتطام ورأت القطة على الارض تلهث والدم يخرج من أنفها وفمها فضربتنى وأحضرت بعض الماء رشته على القطة، سمعت أنا وأمي صوتا آتيا من الجسد المسجى بلا حراك يشبه طشة الملوخية أعقبه دخان كثيف وكأن القطة تحترق ثم همدت حركتها تماما وماتت .في الايام التالية على موتها ، بدأ يزورني في نومي رجل بلا ملامح، ما يميزه طاقية كان يرتديها على رأسه تخفي ملامحه ، كان يضغط على رقبتي بيدين قويتين حتى أختنق وأرفس الهواء بساقي وذراعي، ولا ينقذني من هذا الموت سوى استيقاظي وصراخي مناديا على أمي لتخلصني من أبي طاقية كما أطلقت عليه .

دارت بي أمي على الاطباء حتى داخت، اقترح عليها البعض أن تذهب الى أبي السعود الجارحي صاحب السر الباتع والكرامات المعروفة، الطريق الى أبي الكرامات صاعدة حتى سفح الجبل، مقامه يقع فوق ربوة عالية، حوله كانت النساء يفترشن الحصير ويجلسن وقد وضعن أرجلهن تحتهن، باعة الفول النابت والخبز المقدد، والشاي يملأون المكان، اشترت لي أمي كوز ماء مالحا، الماء نزح من بئر جنب المقام، قيل أنه نبع من تحت أقدام الشيخ حين جاء الى هذا المكان الموحش فشرب منه وتوضأ وأقام بجانبه، فهو وصفة مجربة، كانت تناولني كوز الماء المالح الصدىء لأشرب منه جرعات، ما تبقى من الماء تمسح به وجهي وشعر رأسي، ثم ترش الباقي في وجهي، كانت تجلسني على الحصير بجانب باعة الفول النابت وتطلب طبقين ورغيفين ونبدأ في الأكل، قبلها، كانت تدخلني المقام وتدور بي من حوله وتجعلني أمسح بيدي على سياج النحاس الناعم الرطب والذي يسيج مقام الشيخ الجليل، لا تظهر منه سوى عمامة وضعت أعلى السياج، عمامة خضراء يفوح منها العطر كما يفوح من أربعة أركان المقام، وضوء أخضر يسري في المكان لا أعرف مصدره، لكنه كان يشعرني بالراحة والسكينة وبعض الرهبة، كانت تخرج البك الاسود الصغير من صدرها وتفتحه، تتناول بعض القروش القليلة التي تملكها تفرقها على محاسيب الشيخ الذين يملأون المكان، الا أن ذلك كله لم يمنع شبح أبو طاقية من الظهور لي كل ليلة، ذبحت أمى بطة كبيرة فوق رأسي، ولطخت حوائط البيت بكفها، وأوفت نذرا كانت تظن أنها نذرته ولم توفه، لكنني كنت ممسوسا بكائنات خرافاتي التي لم يكن يرها أحد غيري، وما كانت تنفع معي تلك الأحجيات، وشيخي البعيد ظل يلاحقني، حتى بعد أن توفيت أمي وتزوجت وأنجبت، ما زال يأتيني في نومي هاتفه يأمرني بالرحلة صوبه، وها أنا ذا ألبي .


مــــلك

اجتازت العربة كوبري بنها، وكنت قد انتهيت من تدخين ثلاث سجائر متوالية، فتحت الشباك على آخره فاجتاحتني نسمة صباحية طرية أنعشتني، فكرت أن لي مدة لم أذهب الى طنطا، وتساءلت لماذا أنا مشدود دائما الى هذه البلدة رغم بعدها عن مدينتي؟ هل هو الحنين الى أزمنة قضيت والى أماكن أشم روائحها؟ أذكر المرة الأولى التي ذهبت فيها الى طنطا، كان عندي وقتها أقل من عشر سنوات، وكانت أمي تمسك يدي في يدها، وخالي أوقف عربة حنطور انطلقت بنا من محطة الاتوبيس الى حيث قمنا بجولة في المدينة، ربما كانت أمي أيضا تحب هذه البلدة، كانت تتحين الفرص للزيارة والتبرك بصاحب المقام والكرامات، أذكر انه فيما بعد، وحين أصبحت كاتبا ، كتبت مرة رواية وضعت فيها سيرة شعبية تسمى خضرة الشريفة، وهي تتحدث عن كرامات السيد البدوي الذي ذهب ليحرر خضرة الشريفة من أسر اليهودي اللئيم ورجوعه بالاسرى، لم يكن هناك مبرر فني لوضع مثل هذا النص «بعبله» في رواية حديثة، هل هو نزق وشطح خيال جامح ؟ هل هو الحس الفني العميق والدفين الذى يرى ما لا يراه الآخرون؟ لكني أظل دوما مأسورا ومسورا بسياج صاحب الكرامات الذي يدعى الملثم والسطوحي وأسماء أخرى تأتي في السياق اذا وما وصلنا اليه فسوف نحكي عليه، والعاشق في جمال النبي يصلي عليه .

كنت قد تلقيت دعوة من قصر ثقافة أسيوط الذي يشرف عليه الصديق الشاعر سعد عبد الرحمن لإقامة ندوة لي أتحدث فيها عن تجربتي في الكتابة، واستأذنت منه أن آخذ زوجتي معي فأذن لي، كانت حاملا وفي شهرها السابع وكنت أريد لها أن ترى الصعيد معي، فلا أنا ولا هي نعرف شيئا عنه الا من خلال المسلسلات التي تصوره مظلما كئيبا، والصعايدة ما هم الا قتلة وسفاحون يقتلون في عز الظهر ولا يفعلون شيئا في حياتهم سوى الجلوس في الطرقات المظلمة ببنادقهم انتظارا لأخذ الثأر، هكذا كنا نتصور، حجزنا في الدرجة الأولى المكيفة وانطلق بنا القطار يتهادى وسط الحقول، كان اللون الأخضر المحاذي لنهر النيل يكحل عيوننا التى اشتاقت الى الخضرة في مدينة اسمنتية بلا قلب ولا لون، وكانت ذكرياتنا أنا وهي والتي تكونت عبر رحلة معاناة هي حديثنا المشترك والذي استمر لساعات دون توقف، كنت أشتاق اليها، وكانت تشتاق الي رغم مرور أكثر من سبع عشرة سنة هي عمر زواجنا، كانت الحياة تأخذنا في دواماتها التى لا تنتهي، وكنا ندخل في شرنقة تكاد تنغلق علينا واحدة واحدة ونحن لا ندري، كنت أحدثها هامسا عن أول لقاء بها، والحديث الذي دار بيننا، لم نشعر بالقطار يتوقف، ولم نقرأ اللافتة على رصيف المحطة تشير الى: محطة أسيوط، لكني لمحت سعد يقف في مواجهة الشباك ويشير لنا بالنزول بينما القطار يتحرك، انتبهنا فجأة ومددت يدي الى حقيبة صغيرة كانت موضوعة على الرف، جرينا في اتجاه الباب الذي كان مفتوحا، تسارعت حركة القطار وغادر الرصيف، اتفقنا على القفز وكدنا نهم به حين ظهر أمامنا شخص سد علينا الباب، نظرنا اليه في دهشة، وتساءلت وزوجتى في نفس اللحظة : من أين جاء هذا الرجل ؟ لقد نبت فجأة أمامنا، نظرت اليه، كان بلا ملامح تقريبا، مددت يدي وهممت بازاحته عن الباب فأمسكها ونظر الي قائلا: الى أين؟ ولما كنا في دهشة من أمرنا ولا نجد اجابة في تلك اللحظة، خلت انه يبتسم وهو يغلق باب القطار بثقة ويقول: ليست هذه محطتكما، لم يحن أوانكما بعد. وكما نبت فجأة تلفتنا أنا وزوجتي فلم نجد له أثرا.


رجوع الشيخ

توقفت عربة الميكروباص في نهاية الخط، وكان علي ركوب عربة أخرى تذهب بي بالقرب من الجامع الكبير، تغير كل شيء الى الأسوأ بالطبع، كانت العربات في الزمن الفائت تصل بك الى الجامع مباشرة، ها أنا ذا أصل الى محطة القطار الكبرى في عاصمة الدلتا، الشارع الكبير المتقاطع مع محطة القطارات يفضي الى الجامع مباشرة ويكون في نهايته ما يشبه الميدان، على جانبي الشارع انتشرت محلات الحمص وحلوى السيد البدوي بألوانها البهيجة، اقتربت من المقهى المواجه للجامع بسياجه الحديدي المطل على الباحة الخارجية لصحن المسجد، المقهى مقسوم الى نصفين، نصف يقع في الخارج ملاصقا للسياج الحديدي، النصف الآخر داخل جدران المقهى بظلاله الرطبة وسكونه في تلك الساعة من النهار، اخترت مكانا أطل منه على باحة المسجد وجلست ملاصقا لحائط المقهى وطلبت شايا بالنعناع، كنت أشعر ببهجة كلما أتيت الى هذا المكان، تذكرت أياما مضت ولن تعود كنت أنا وحسني سليمان ناشر روايتي «العاشق والمعشوق» نأتي الى هنا كثيرا كلما أردنا أن نفك من جحيم القاهرة، وكان يفرح مثلي ويعتبرها نزهة، يصطحب زوجته التي تحضر لنا ساندوتشات وفاكهة وماء، نظل طوال الطريق نتحدث في صخب وفرح مثل أطفال ونحن نسمع أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز بينما الشمس تغرب وآخر خيوطها يرسم قوسا ذهبيا في الأفق، حسني فنان حتى النخاع رغم أنه لا يكتب، لكن مزاجه وحبه لكل فن جميل وانسانيته التي تدهشك بعفويتها وبساطتها، كل ذلك جعله مقربا مني وصديقا حميما، فما الذي حدث وأوقع الفرقة بيننا .!؟

الشمس توسطت السماء، وكوب الشاي بالنعناع أنعشني، أخذت أتأمل المئذنتين المنتصبتين في الهواء برشاقة على جانبي صحن المسجد الخارجي، وأطفال يلعبون بجانب أمهاتهم الريفيات وقد افترشن بعض الحصر في الباحة الخارجية، وثمة رجل أمن يجلس على كرسي بجانب حائط في حالة وسن، وعبر سرب من الحمام سماء الباحة وحط بشويش على الأرض وأخذ يلتقط الحب المبذور في اطمئنان، كنت قد أحضرت معي نوتة تليفوناتي وكنت قد قررت الاتصال بأصدقائي جار النبى الحلو، عادل عصمت، أحمد عزت سليم، لكني قررت فجأة أن أجلس وحدي، فما عدت أشعر برغبة في الحديث مع أحد، بيني وبين الشيخ «عمار» وأشعر براحة نفسية في المجيء الى هنا، أعرف تاريخه جيدا، ورحلته من المغرب العربي حتى وصوله الى طنطا، عذاباته ومكابداته في طريق الوصول الى الله، كراماته التي جعلت منه علما من أعلام الصوفية وشيخ طريقة، له ست روايات شعبية، ما خفي كان أعظم، تعالى آذان الظهر من داخل المسجد فقمت لدفع الحساب وتوجهت الى الميضأة فتوضأت وتوجهت الى الصفوف المتراصة: الله وأكبر. طفت حول المقام وقرأت الفاتحة للشيخ واخذت أقرأ في لوحة معلقة على الحائط نسبه الشريف وشجرته التي تنتمي للعترة المحمدية، كذلك أسماءه وألقابه والتي كنت أقرأها ربما للمرة المائة، ثم عرجت الى مقام سيدي مجاهد تابعه الأمين والذي تقع حجرته بالقرب من سيده، قيل فيما يروي عنهما أن سيدي البدوي عاش ملثما ولم يرى أحد وجهه، وفي أحد الأيام أراد سيدي مجاهد أن ير وجه سيده، كانت رغبته حارقة، فقال له أرني أنظر اليك، قالها ثلاث مرات بينما سيدي البدوي يتجاهله وينهره ويقول له لن تستطيع تحمل رؤيتي . فقال له هذا لابد منه حتى ولو كان الثمن هو حياتي . فلما رآه مصرا رفع اللثام، وما أن رأى النور الذي يشع من الوجه حتى خر ميتا من وقته وساعته.

خرجت من المسجد وكان علي المرور على بائع الكتب القديمة الشيخ حسن، يقع كشك الكتب الذي يملكه بالقرب من المسجد، كان رجلا طيبا، سمحا وعلامة التقوى محفورة فوق جبينه مثل قرش معدني غامق، حين تعرفت عليه أدركت شغفه بالكتب القديمة مثلي، لكنه كان يعشق كتب الحظ والطالع وعلوم السيمياء، وعلى الأخص الكتب التي ترشد الى فتح الكنوز، وله طريقته في البيع والتي تعجبني، اذ يقول لك هذا الكتاب وهبته كذا وليس ثمنه، لديه فسائل من تلك التي كانت تباع في الموالد كنت أقتني المئات منها، ذهبت اليه فرحب بي وجلب لي كرسيا خارج الكشك، كان هو يجلس بالداخل، وضع كنكة سوداء على وابور السبرتو وعمل شايا بدون سكر لي، قال وهو يرشف من كوب شايه : حمدالله على السلامة، سبحان الله، أنت تجيء الى هنا ونحن نذهب الى هناك ! قلت مستفسرا : ماذا تقصد؟ أقصد أننا ذاهبون بعد صلاة المغرب لحضور الليلة الختامية لمولد سيدنا الحسين رضي الله عنه وارضاه، بينما أنت تحضر في نفس اليوم الى طنطا لزيارة السيد البدوي، سبحان الله . ضحكت وقلت الشيخ البعيد كما يقولون ياشيخ حسن . هز رأسه وكأنه يتأمل الحكمة من وراء ذلك، ساد بيننا بعض الصمت قطعته بقولي: اعطني هذه الفسائل عليّ أجد فيها جديدا . وأشرت الى حزمة من الأوراق الصفراء كان يحزمها بخيط فأعطاني اياها، أخذت أقلب الفسائل المهترئة بحرص شديد خوفا من أن تذوب في يدي، عثرت على نسخة نادرة من أحد أجزاء السيرة الهلالية، كان بعنوان منامات الملكة شيحة، كما عثرت على سيرة شعبية لسيدي ابراهيم الدسوقي وأخرى للحلاج، كان الشيخ حسن قد انتهى من شرب كوب الشاي، وشعرت به يتأملني، قال فجأة : رأيت بالأمس رؤيا عجيبة يا أخي . التفت اليه وقلت : خير ياشيخ حسن . قال : رأيت فيما يرى النائم وكأني أطفو فوق موج عال من الماء على البحر المحيط، وشخص أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول لي أذهب ياشيخ حسن الى المكان الفلاني، ووصف لي بدقة صفة هذا المكان وكيف أذهب اليه، ثم قال لي : ستجد بيتا صفته كذا وكذا ادخل فيه واعبر مدخله وقف عند علامة - عينّها لي - واحفر تحت قدميك ، فسوف تجد كنزا .هل تعرف مكانا بهذه الصفة عندكم في القاهرة ياعم خيري ؟ كنت أحملق في وجه الشيخ حسن مأخوذا بما أسمع ، وحين انتهى من رؤيته كان قلبي يدق بعنف وقد تصبب العرق مني، فالمكان الذي وصفه بكل تفاصيله الدقيقة ، كان هو بيتي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى