حاتم الصكر - معضلات الكتابة.. وأسئلة القراءة

يعنينا ، كلما دار الحديث - أو عاد - حول قصيدة النثر أن نستعيد الأسئلة أكثر من تقديم المقترحات أو التصويت بالقبول المطلق أو الرفض التام في مجال الأنواع - والأشكال - الشعرية.
كان مقترح (قصيدة النثر) على رغم الالتباس الواضح في تسميتها ووصفها واشتراطاتها واستسهال كتابتها واختلاطها بالمنظور الفني والجمالي للنثر ، كان مناسبة لسؤال الحداثة المتجدد في الشعر العربي بخاصة. وهو يستند إلى موروث هائل وتراكم نوعي يجعل قوة الشعرية العربية التقليدية غير قابلة للاختراق ، كما حصل في تراث العالم الشعري وفي تجارب لغات - وآداب - الأمم الأخرى التي واجهت المقترح ذاته... ولكنها قبلته بيسرٍ وسرعة. إضافة إلى (قوة) الشعرية العربية الموروثة ، تقف أسباب أخرى من دون (قبول) أو حتى (فحص) مقترح قصيدة النثر ، ليس من الجمهور المتلقي فهو محكوم بأعراف وتقاليد شعرية تغيرها أفراد النصوص المكتوبة ولكن من الشعراء أنفسهم والقراء الخاصين والمهتمين ، أعني النقاد والباحثين والدارسين. وذلك آتٍ من غياب (المراجعة) المطلوبة في أفق قراءة (ديموقراطي) وذي أطياف متنوعة وموضوعية ، لا تتمثل للسائد وتحافظ بتعصب على الميراث ، قدر إخلاصها للشعر وتجربة كتابته أولاً. وذلك يستدعي السؤال عن مفهوم الشعر نفسه ، وما يمسّه من تحديث وتحول عن المفاهيم السابقة ، والتي سكّها النقاد والدارسون احتكاماً إلى شعرية قائمة في زمنهم ، نالها - لغةً وإيقاعاً وتصويراً وأغراضاً - الكثير من التحول والتبدل ، إلى جانب ما استجدّ في الحياة ذاتها ، و(البيئة) الشعرية من متغيرات تمس وسائل العيش والاتصال والتعبير ، كما تمسّ الفنون المجاورة للشعر ، وذلك يترك - من دون شك - أعمق الأثر سواء في تكوين الشاعر نفسه ، أو القارئ المتلقي للشعر.
ولا شك في أن تجارب الشعر المترجم إلى العربية أو المقروء بلغاته الأصلية سيترك ظلالاً من المماثلة والتأثير في تغير الفهم الفني والجمالي للقصيدة ، وهو ما حصل بحدود ومقادير في تجربة كتابة الشعر الحر (شعر التفعيلة) إذ ليس مصادفة أن يكون (رواده) من المطلعين على تجارب الشعر الغربي في عصوره المختلفة... وذلك المحرك نفسه صار لافتة اعتراض من (رافضي) المراجعة والتحديث ، فالمرجع (الغربي) وإن كان شكلياً لا يفرض مضمون الغرب أو موضوعه ، سيكون في قراءتهم كافياً للتشكيك في دوافع التحديثيين ومنطلقاتهم ، وصولاً إلى حد (التخوين) والاتهام بالتبعية!
ورافق ذلك عدد من (الجنايات) التي ارتكبها الخطاب النقدي نفسه ، فهو لم يعن بالنظرية النقدية قدر عنايته بمتفرقات تتصل عموماً بالأدب شعراً ونثراً كالالتزام ، ولغة الشعر ، وواقعية القصة والرواية ، والإيقاع ، والصلة بالتراث ، وسواها بينما أغفل النقاد مستويات التلقي وتغير أفق القراءة ، فضلاً عن صلة الشعر بالعلوم الإنسانية والمعارف وقنوات التوصيل ، والأثر أو المحرك النفسي. ومن الجنايات النقدية كذلك ما أسميه (المقايسة) النموذجية ، أي اصطناع نموذج شكلي أو نوعي (شعر الجواهري مثلاً أو أحمد شوقي) ثم الاحتكام إليه لقياس قبول (أو رفض) النماذج اللاحقة. وذلك ما سوف تكرسه (المدرسة) والمناهج الدراسية حتى في مراحل الدراسة الجامعية الأولية والعليا ، وما سادها من شروح وتعريفات وتحليلات غير نصية ، ولا تساهم إلا بتحويل الأدب إلى (تاريخ) أدبي أو مسلسل محفوظات وتفسيرات سياسية.
وسنصل في تقليب أسباب سوء الفهم للنوع الجديد إلى جنايات الرواد أو (الجيل الأول) من كتاب قصيدة النثر ، سواء في طريقتهم في بحث الجوانب المعرفية المتصلة بالتراث والواقع والغرب ، أو في الحماسة التبشيرية التي تشطب الأنواع الأخرى وتعادي الموروث عموماً - ولو بمغالطة المحاججة إذ كان أدونيس مثلاً يعمل على ديوان الشعر العربي ويختار من التراث بينما يكتب بحماسة انفعالية كلاماً مثل :نحن بلا تراث.. الشاعر لا تراث له! وكذلك القول بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل والخيار الوحيد في أفق الكتابة الشعرية. ويرافق ذلك ما حصل من بلبلة اصطلاحية ومفهومية واختلاط الملفوظات الواصفة أو المعرّفة والمحددة للأنواع مثل (الشعر الحر) و(قصيدة النثر) و(الإيقاع) و(العمود) وغيرها.
كما أن للاستلاف من الغرب ، والاستنجاد به من دون تمحيص ، أثر في جناية مريعة مثلتها مقدمة أنسي الحاج لديوانه (لن) والتي ظلت البيان النظري اليتيم طوال سنوات ، في محاولة لسكّ محددات وقيود لنوع شعري هارب من القيود والمحددات.
وتلك هي المفارقة! فما اقترحه الحاج نقلاً عن سوزان برنار أو تلخيصاً لأطروحتها لا يلزم أو يمثل تجارب شعراء آخرين.
وساهم الخطاب النقدي (الآخر) أي المضاد والرافض للتجربة الجديدة في تهميش هذا النوع ، إذ اكتفى بالرفض والاتهام من دون تحليل أو اقتراب نصي ، ولعل نازك الملائكة أفضل مثال لهذا النوع من الجدل القمعي المبكر حيث سفهت تجارب شعراء مجلة (شعر) وأخرجتها من وصف (القصيدة) ومن الشعراء والقراء تجيء الجناية التالية: إنهم يتصورون - بناء على الجانب النثري في قصيدة النثر - أنها سهلة الكتابة ، فراحوا يرونها في كل ما هو خارج الوزن! وتطفلوا عليها بتجارب ناقصة وغير ناضجة أو مكتوبة بحسّ الخاطرة والنثر الفني بمؤثرات جبرانية (نسبة الى نثر أو حكم جبران) وبمخاطبات وهيجانات لغوية وصورية ليس فيها بؤرة إيقاعية أو لغة شعرية.
مقابل ذلك حاولت الدراسات النصية اللاحقة إظهار ما في قصيدة النثر من انتظام منطقي داخلي وما فيها من لغة وإيقاعات وصور ، بل راح بعض المنظرين يبحثون لها عن سلالة أو وراثة في الكتابة الفنية العربية (لدى المتصوفة والنفري والتوحيدي خاصة).
كما أسهم المترجمون في العقود الأخيرة في إيصال تجارب شعرية بلغات مختلفة ، تؤكد وجود الشعر في القصيدة حتى بعد ترجمتها وتقدمها إلى القارئ بهيئة النثر (من دون وزن أو تقفية) ، ومؤخراً أسهم السرد في إغناء القصيدة بالتعيّنات أو التثبيت المكاني والزماني والتسميات والقص والوصف ، وهي وسائل سردية اجتلبها الشعراء إلى قصيدة لنثر لتعويض المحور الغنائي الغائب بغياب الموسيقى التقليدية المتولدة من التفعيلات والقوافي والتقسيم البيتي... وهذا حاصل نقدي جنيناه من الدعوة إلى انفتاح الأجناس الأدبية والأنواع على بعضها والإفادة من وجودها في النصوص.
أسهم الخطاب النقدي الجديد أي المستفيد من الوعي بمنجز التراث العميق ، والمتأثر بالثورة المنهجية في الغرب ، في خلق موجات من الكتابة تتدرج - مسهمة في قبول النوع الجديد - من: النزعة الفنية الممهدة أي التي تفحص التراث وتؤسس جماليات القراءة تأثراً بالنقد الجديد ، ثم النزعة النصية العامة أي التي تشمل اصطفافاً نقدياً واسعاً وعريضاً حول النص وكونه مرجع القراءة الأول. وصولاً إلى نظريات القراءة والتقبل وإعادة النظر في جماليات التلقي وأفق القراءة ، وموقع الذات القارئة أو دورها في إعادة تشكيل النص وملاحقة دلالاته لا معانيه المباشرة ، والبحث عن إيقاعاته لا موسيقاه المعلنة ، ولغته الخاصة لا ما يكرره من أنساق لغوية أو تصويرية ، والاستعانة بالسرد كمفتاح لقراءة النصوص وتقصي ما فيها من أحداث وتسميات وزمان وفضاء... وتتم هنا الدعوة إلى معاينة المستوى الخطي سواء عبر الاهتمام بموجهات القراءة أو عتبات النصوص (كالعناوين والإهداءات والتواريخ والأمكنة...) وكذلك تنضيد النصوص المكتوبة ومعاينة الهيئات التي تتكتل بها النصوص وتقسيمها أو ربطها ببعضها... وملاحقة التناص والإفادة من علاقة النص بسواه من خلال وجوده فيه. وسأختم بالدعوة إلى عدم التوقف في قبول أو رفض قصيدة النثر ، عند التجارب الأولى ، فثمة أجيال متعاقبة على مدى خمسين عاماً ، تجدد هذه الكتابة وتسهم في تطويرها ، وهي أجدر بالفحص والقراءة والنقد لاكتشاف رؤاها وأساليبها وموضوعاتها. كي لا نكرر ما حصل في قراءة تجارب شعر التفعيلة ، حيث لم يتم الالتفات إلا للنماذج الأولى في مرحلة الريادة وما بعدها ، وظل منجز الشعر الحر منذ الستينيات مهمشاً في الدراسات النقدية والبحوث والدراسات الأكاديمية عامة.
وسيرى القارئ والباحث أن ثمة مناخات وتيارات وتجارب متنوعة في مجال كتابة قصيدة النثر تكرست على مدى الأعوام الخمسين من عمرها ، وهي حرَّية بالقراءة والاهتمام ، كي لا يتم الكلام عن قصيدة النثر مثل كتلة واحدة أو صفقة أو وصفة عامة لا خصوصية فيها ولا تميز.
وأنبه هنا إلى أن قصيدة النثر سبق أن قرئت نماذجها من دون تمييز بين تجارب الماغوط وجبرا ويوسف الخال مثلاً ، وتجارب أدونيس أو أنسي الحاج ثم تجارب الجيل التالي في البلاد العربية ، مما جعل الحديث عن تجارب متباينة يتم من منطلق واحد وبلغة واحدة من دون تلمس الفوارق بين مناخاتها وأجوائها التي لا يصعب التفريق بينها لا سيما في مجال الريادة الأولى... وكذلك تبدل المراجع أو المؤثرات في تجارب الأجيال اللاحقة.



* عن يمرس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى