عبد العزيز عبد الوهاب سلطان - إنها قصة الأمس.. قصة قصيرة

دائما يحن سامر إلى الماضي فيجلس لوحده ويغط في إغفاءة تفكير طويلة يستعيد خلالها أيام كان طالبا في الإعدادية في الستينات..

فيتذكر كيف كان يستيقظ من نومه مبكرا وهو يسكن في غرفة أستأجرها مع زملائه الطلبة من أبناء مدينة المجر الكبير في فندق يطل على شارع دجلة في العمارة. فيبدأ بتهيئة وجبة الفطور ليتهيأ بعدها إلى تهيئة نفسه وكتبه ليذهب إلى مدرسته بعد أن يقتل بعض الوقت واقفا منتظرا ذلك الجمال الساحر الذي سيخرج من الدار المجاورة للفندق حاملة حقيبتها وهي في طريقها إلى إعدادية العمارة للبنات.كانت تعيش في قلبه لأنه أحبها من أول نظرة.

كان سامر يتابع خطاها بكل هدوء وما أن تصل مدرستها تلتفت إليه فيلقي عليها نظرة الوداع التي تحكي لها عيناه ما يكنه لها من الحب العميق. ويواصل سيره إلى مدرسته و(بثينة) تراود خياله. ومر عام عليه وهو يعيش ذلك الواقع الذي صاحبه منذ رآها وهي واقفة عند باب دارها فسحرته بربيع عينيها.

كيف يصل إلى قلبها… وكيف يحدثها.. والخوف يراوده ففكر أن يكتب إليها رسالة يبلغها من خلالها بحبه لها.. وجلس في تلك الليلة التي خلت غرفته من زملائه.. وبدا يسطر مشاعر قلبه بكلمات عذبة في تلك الرسالة وهو يجول بنظره في الغرفة فتأخذه لحظات من التفكير العميق.. وانتهى من كتابة رسالته وأعاد قراءتها أكثر من مرة وهو يشطب ويضيف بعض الكلمات.. وما أن إنتهى من رسالته حتى ارتمى على فراشه مركزا بنظره إلى سقف الغرفة وهو يفكر كيف يوصل الرسالة إليها ؟

وفي الصباح استيقظ مبكرا وكالعادة خرج لوحده للذهاب إلى مدرسته وكعادته ظل واقفا ينتظر حبيبته.. وبعد دقائق خرجت بثينة من بيتها وتبعها وهي تواصل المسير لمدرستها فاقترب (سامر) منها وقال :

صباح الخير.. يا بثينة :

فردت عليه مذهولة صباح الخير..

فمد سامر يده في جيبه واخرج الرسالة وسلمها إليها واستلمتها منه قائلة له :

ما هذه ؟

فقال لها : اقرئيها.. ستعرفين مضمونها.. وافترقا.. وراح يسرع متعثر الخطى قاصدا مدرسته . ظل سامر ذلك النهار تائها حائرا يفكر بما قام به وما ذا سيكون ردها على رسالته.وبعد انتهاء الدوام عاد إلى الفندق وهو يحلم بأن أمله سيتحقق.

وفي صباح اليوم التالي وكعادته انتظر بثينة وما أن خرجت من دارها التفتت إليه مبتسمة فارتعش فرحا لبسمتها وهم بالسير وراءها فأثقلت خطاها وما أن اقترب منها سلمته رسالة.. فتلقفها بكل شوق واتجه صوب مدرسته وهو يقرأ ردها المتمثل بتلك الكلمات الرقيقة التي تعبر عن الحب والشوق وأمنيات المستقبل ..

فاطمأن سامر إليها وحبها واستمرت العلاقة العاطفية بينهما من خلال تبادل الرسائل واللقاء في المناسبات والاحتفالات التي كانت تقام من قبل الطلبة. وبعد انتهاء العام الدراسي وحصول الطلبة على نتائج التخرج ومن ثم إعلان نتائج القبول في الكليات والمعاهد كان نصيب بثينة (كلية التربية) في بغداد أما سامر ولظروفه الخاصة التحق بـ (دورة تربوية) ليكون معلما.. وهنا شاء القدر أن يفرق بينهما فذهب كل منهما في طريقه وانقطعت الاتصالات بينهما وهو يشعر بالحزن والألم وعاش في كآبة وهو يمارس واجبه التعليمي في مدرسة ريفية. وتمر السنون وتتخرج (بثينة) وتعين مدرسة وتقترن بعد ذلك بأحد زملائها من أبناء مدينتها الذي تعرفت عليه في الكلية وتوطدت العلاقة بينهما.

وكذلك تزوج سامر… وذات يوم اتفق سامر مع بعض زملائه لزيارة زميل لهم يرقد في مستشفى الزهراوي لمرضه.

وفي الصباح ذهب سامر وزملاؤه إلى المستشفى وأثناء دخوله إلى الغرفة التي يرقد فيها زميله وكان هو أول من دخل تفاجأ بوجود (بثينة) جالسة بجوار زوجها الذي يرقد في الغرفة نفسها فنهضت من مكانها وهي مذهولة بهذه المفاجأة التي لم تتوقعها بعد سنين عديدة.. في الوقت نفسه ارتعش سامر من هول المفاجأة فتعثر بين زملائه وهو ينظر إليها وقال :

صباح الخير..

فردت مع زوجها عليه… صباح الخير.. واستأذنت زوجها وخرجت من الغرفة لتفسح المجال للزائرين بالجلوس. وبقيت واقفة خارج الغرفة.. أما سامر فقد ارتبك كثيرا وهو يتحدث مع زميله المريض بحيث شعر زملاؤه بحالته وارتباكه. وما أن إنتهت الزيارة خرج الزائرون من الغرفة متمنين لزميليهم الشفاء العاجل.. وخارج الغرفة التقى سامر بزميلته ودار حديث بينهما استعادا به قصة الأمس وهو يرتجف من هول المفاجأة والدمعة في عينيه.

فقال لها : كيف حالك يا بثينة ؟

قالت له : لقد تزوجت.. ورزقت بولدين وهما اليوم بسعادة وخير.. وأنا أكن لك كل تقدير وأتمنى لك الموفقية والعيش الرغيد. وقالت له : كيف حالك أنت يا سامر ؟ أجابها سامر قائلا : تزوجت.. ورزقني الله بالزوجة الصالحة مثلك والأولاد ولكنني لم أنس أيام زمان..وحبـ…بـ..ي..زميلتي بثينة. أسأل الله لك السعادة والرفاء ولزوجك الشفاء العاجل.. ردت عليه دامعة العينين.. وداعا يا سامر لقد كنت نبيلا في أخلاقك أتمنى لك ولعائلتكم الموفقية. ودخلت على زوجها. وسار سامر مع زملائه وهو يردد..

أزف الموعد والوعد يعن

والغد الحلو إلى بثنة يحن

فسأله زملاؤه لماذا ارتبكت في الغرفة وتعثرت واحمر وجهك.. يا سامر.. قال : ما ذا أقول لكم إنها قصة الأمس يا أخوتي. هيا بنا… وهو يلتفت إلى الوراء. وعيناه إلى الغرفة التي ضمت بثينة وزوجها.


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى