محفوظ داود سلمان - العبور الأول.. قصة قصيرة

حين أكملت دراستي الإعدادية كان في ذهني الكثير من الرؤى او المشروعات التي يمكن للإنسان ان يغتذي منها، او تثير الطموح لديه وليس للطموح حدود كما يقال وكنت مثل الاخرين أحلم بتغيير العالم او الثورة عليه حتى وان كانت ثورة حمراء وان كان الوسط الذي اعيش فيه ريفياً تحيط به غابات النخيل وكل شيء فيه اخضر، النهر والسهل والحبيبة التي احبها خضراء لكن ابي الذي رحل مبكراً لم يترك لي اية فجوة أمر منها الى عالم الحلم هذا فقد تركني في مواجهة الواقع لوحدي وكما يقال للضرورة أحكام فقد طويت احلامي طي السجل للكتب واختصرت طريقي في الذهاب الى دورة تربوية اعلنت عنها وزارة المعارف في الخمسينيات كي اكون معلما ابتدائيا في كميت وهي بلدة في اطراف لواء العمارة وعليّ ان اعد نفسي لنسق يومي مكرر وتفاصيل نمطية ابتداءاً من يومي الاول هذا فلا بد لي من سترة رمادية وربطة عنق كنت اشعر بالعبودية وهي تكبل عنقي وانا اشدها كل يوم واراقب نفسي في المرآة مستذكرا صورة دوريان جراي خائفا مما تنبئ عنه الايام المقبلة ثم حذائي الاخر ورباطه المنحل دائما الذي اتعثر به في أزقة لواء العمارة، وخصل شعري التي كانت تنوس على جبيني دائما وانا اداريها بالمدراة أي المشط وعندما أتاكد من كل هذه التفاصيل التي تتكرر يوميا احمل معي الخطة السنوية للدرس التي تتضمن دروس القراءة الخلدونية التي صممها المفكر ساطع الحصري مبتدأ بدار دور وزير زيران منتظراً وانا في الطريق رحلتي الى المدرسة وفي سمعي ايقاع الجرس الحديدي القديم الذي يشبه حدوة الحصان يقوم المدير بقرعه مرات عديدة كأنما يقودنا الى الجحيم حيث يقف شبح ابي فهد بنظارتيه على باب الصف.

وفي الطريق الى المدرسة وهي في الجانب البعيد بعد عبور النهر وكان نهر المشرّح كدراً طيلة ايام السنة لا يصفو ابداً فكأنه صورة مني في كدره وقلقه وتوتره الدائم مثلما كان الشاعر الجواهري يرى نفسه في دجلة او في الفرات على حالتيه صافيا هادئا او ثائرا متمردا غاضبا وكان يجب ان اعبر جسرا قديما متهالكا او متهرأً وقد تفككت اوصاله او كادت أخشابه ان تتداعى هذا الجسر القديم كنت أعبره ومعي حشد من الناس الطلاب بملابسهم التي اعُدت لهم بأنساق متشابهة للذهاب الى مدارسهم او صفوفهم وحشد من المعلمين من جيل الخمسينات الذين كانوا يبالغون قليلا في مظهرهم الخارجي فقد يكون للبعض منهم ميول استعراضية او نزوع نرجسي لذلك تراهم مهتمين بذواتهم احذية حمراء لماعة ، واربطة غالبا ما تكون حمراء هي الاخرى وسترات فضفاضة وهناك نساء فلاحات يحملن سلالاً من الخضر او اوعية من اللبن وهن يكتشفن الطريق خيوطاً من الشمس، تنسدل على اكتافهن ويرتدين عباءاتٍ سوداً على أجسامهن البضة.

لكن الجسر الوحيد ذلك الصباح قد اغلق لاسباب نجهلها ولم يكن العبور ممكنا ونحن نبدأ نهارنا باستعداد كامل من الاناقة والحيوية والأمل بانجاز المهمات المكلفين فيها ولما كان الجسر قد تقطع فقد انحدر البعض الى شاطئ النهر محاولا العبور عبثا وكان الماء في حالة جزر الا انه لا يعطي مجالا للحفاظ على الصورة التي كنا عليها فكيف لنا ان نذهب الى المدرسة او الى السوق مبللين بمياه النهر او حاملين قطعا من الطحالب تطرز ملابسنا او نملأ جيوبنا اصدافا ومحاراً، وفي لحظة التردد هذه ، وبرهة القلق والشعور بالتردد بين ان نعبر وان لا نعبر ونحن حشد من المعلمين ترسب في اعماقنا فكرة اننا قادة نزود المجتمع بالافكار والمناهج نضع الخطط التربوية لا يمكن ان نضحي بمظهرنا الخارجي ونخوض هذه الجزرة المائية امام الاخرين. لكن امرأة جميلة بدثارها الاسود ويقال انها امرأة شيخ القبيلة بطولها الفارع وعباءتها الفارهة تقدمت حشدنا وكان الجميع يحدق بعيون الذئب فيما سوف تنجزه، مثلما فعلت بلقيس اذ كشفت عن ساقين بضتين ممتلئتين وكان خلخالها صامتا كما يقول الشاعر الجاهلي لانه ممتلئ بساقها وعندما التمعت الفضة وهي تحاول العبور صرخت في الحشد وهي تنزل النهر باصرار وتغرق فخذيها في الماء بعد ان رفعت ملابسها الى الاعلى

– بروح ابيكم.. جبن لو مو جبن

فما كان من الحشد إلا ان هبط وراءها بكامل ملابسه

– والله يابا جبن (أي جبنة بيضاء)

وكان هذا عبوري الاول الى مدرسة الطين ذات يوم بعيد ذاهباً الى كميت في لواء العمارة


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى