أووِيم اكبان - أفكار أثقل من زخات المطر.. قصة قصيرة

نهار مطير من تلك الأيام المطيرة البائسة في نيروبي. ومنذ أن تخطيت القدّاس الصباحي في كلية هيكما كوليدج، وهي مدرسة لاهوتية يسوعية كنت أدرس فيها، كان عليّ أن أحمل مظلتي المطرية وأتمشى في ضاحيتنا، ضاحية الليدي غوادلوبّي، بالقرب من سوق آدمز ذات القناطر، التي تقوم عند حافة حي كيبيرا الفقير. تدور في رأسي أمور أثقل من زخات المطر والرعد المشتت فوقي. أحسست بثقل كل الأوراق التي عليّ أن أملأها بالكتابة- عن الأسرار المقدّسة، والعدالة الاجتماعية، والقانون الكنسي. فكرت في لائحة المدرسين اللعينة ذات الاشتراطات الأربعة التي ستواجهني في نهاية دراستي. ترى هل سيصار إلى ترسيمي مدرسا؟ هل سأتقدم أنا بطلب لترسيمي؟ وكانت فضيحة التحرش بالأولاد قد ذاعت في بوسطن، وأنا في غاية الخجل إذ هممت بكتابة ردود للرسائل الالكترونية التي وصلتني من أسرتي وأصدقائي وهم يسألونني فيها عن تلك الفضيحة. بدا لي الحي الذي أقيم فيه متراميا لا حدود تنهيه، ثم تهافت على رأسي سيل المشاكل التافهة وفكرة الجلوس مع الآخرين في الحي في مساء ذلك اليوم للحديث عمّن يغسّل يديه بعد تناول الوجبات الخفيفة وعمن يحتكر سيارات الحي عندنا وكانت هذه كلها تزيد من توتري.

وأنا في طريقي إلى شارع نغونغ، تحولت الزخات الرذاذية إلى مطر غزير. ولكنني كنت مرتديا من الثياب الشتوية الجيدة، ما يجعلني أنعم بالدفء لعشر دقائق أخرى هي ما تبقى من وقت مسيرتي إلى الكنيسة. وهنا سحبت مظلتي الكبيرة متعددة الألوان وقربتها من رأسي أكثر فأكثر لأتفادى بها الريح الباردة التي أخذت تعصف وجهي.

عند مشارف غوادالوبّي وتحت مظلة كشك خشبية تباع فيها المقتنيات المقدّسة أيام الآحاد كان يقف صبيّان.

بادرني أحدهما: هل عندك نقود أخي!

قلت: لا نقود.

قال الثاني بإلحاح وهو يتلمس شاربيه: ولو شلن واحد، لنشتري خبزا

تجاهلتهما. كنت أعرف أنهما جزء من عصابة صبية الشارع الموزعين في أرجاء سوق آدمز ذات القناطر، وإنني على يقين من أنهما عرفاني كما سبق لهما أن عرفا معظم طلبة اللاهوت. لم يتعديا سن السابعة أو الثامنة. لكل منهما شعر أشعث، تربعت عليه حبات مطر مثل قطرات ندى الصباح. كانا حافيين، ببنطالين قصيرين، وقميصين مبتلين حدّ أن التصقا على بطنيهما المنتفختين. جلسا القرفصاء جنبا إلى جنب وراحا يفركان راحتيهما بقوة كما لو أنهما يتضرعان لإله يختص بمنح الدفء. أما عيونهما، الحادة الراصدة للأعداد، فقد هرعت لتحصي المتوافدين على القداس وهم قلة: قوامهم من موظفين وسكان الحي الفقير، وتجار وراهبات وقورات.

اندس الصبيان تحت المظلة معي دون أن أنتبه، لكنني شعرت بهما يتحسسان جيوب بنطالي وهما يقهقهان. ومع أن محفظتي كانت خالية من النقود تماما، فقد اضطررت إلى نقلها إلى جيب سترتي الباطني. فلطالما سمعت حكايات وقصصا عن هؤلاء الصبية وهم ينشلون الناس. حاولت أن أطردهما بكلمات مهذبة، لكن الوقت فات، فقد لمحا المحفظة. ولأنني نيجيري، لم أكن قادرا على التحدث بلهجتهما الكيسوالهيلية لأشرح لهما أن المحفظة خالية من أي شيء. وأوشكت أن أصرخ بهما عاليا لأبعدهما عني، لكن باب الكنيسة كان مفتوحا سمعت من خلاله أن القداس قد بدأ للتو.

دعوت الصبيين للدخول معي، وكلي أمل أن يرفضا دعوتي وينسحبا إلى الكشك، لكنهما تبعاني إلى داخل الكنيسة الكهفية. كانت مقامرة مني وخسرت.

دفعت بمظلتي الملفوفة لأحدهما لكي أتمكن من أن أمسك بيديهما. وصعدنا ثلاثتنا عبر الممشى الرئيس ملتحقين بالحشد المتناثر وهو يطوق المكان المقدس، حيث جدارية غوادالوبّي تلوح خلف المذبح. لكنهما فجأة أفلتا من يدي. وعندما التفت مع التلاوة الأولى للقداس، رأيت النصابين جالسين على أحد المقاعد الخشبية، يعبثان بالمظلة. وهنا بدأ غضبي يظهر. فلو أنهما قررا الهرب بالمظلة، كيف لي أن أتعقبهما؟ كان الصبيان يتحدثان معا خلال التلاوات كلها والمواعظ وجمع التبرعات ومراسيم التكريس. وكنت أرصدهما وأرى فميهما مفتوحين للآخر،ولسانيهما يتحركان في ثرثرة لا تنتهي.

ما أن عدت إلى مقعدي بعد تناول قربان العشاء الرباني، حتى فزعت وأنا أرى المحتالين وقد انسلاّ في الطابور الصاعد نحو الممشى. كانا هادئين تماما، وكانت عيونهما تحدق في وعاء القربان الذهبي في أثناء ما كان القس يتناول منه رقاقات البسكويت ويضعها على ألسنة المؤمنين. وكان الصبيان، ينظران بحدة أحيانا إلى الصبية الآخرين في الطابور ويقلّدان إيماءاتهم، وهم يمدون أيديهم معا ويحنون رؤوسهم. ثم يراقبان فم أحدهم الذي غادر لتوه. عصف الخوف قلبي- خوف من أن يستفز وكيل الكنيسة انتهاك الصبيين لحرمة المكان ، كما كانت حال الكنيسة في سني صباي، فيجرهما من أذنيهما ويسوقهما إلى الخارج؛ خوف من أن يتبرأ الكاهن منهما في اللحظة الأخيرة؛ خوف من أن لا تتوافر لي مرة أخرى المجازفة لتناول جسد المسيح. انعقدت أنفاسي في صدري، إنه ذنبي أنا الذي سقتهما إلى هنا حيث سقوطهما المحتمل.

لكن الصبيين ما أن تناولا القربان وابتعدا عن الكاهن، حتى بدءا يلوكان رقاقتي البسكويت، بحركات فموية فيها من المبالغة الكثير، كان فم كل منهما أشبه بفكي عنكبوت وهو يلتهم حشرة. ثم عندما انتهيا من الرقاقتين، خرجا من هدوئهما وانطلقا إلى الخارج مسرعين.

بعد انتهاء القداس، أعاد الصبيان إلي مظلتي.


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى