مشير باسيل عون - أزمة الفلسفة في العالم العربي..

ثمّة سبيلان إلى النظر في هويّة الفلسفة، سبيل المقاربة النظريّة وسبيل المقاربة الواقعيّة. السبيل الأوّل يكشف في الفلسفة همّ المساءلة والنقد والتحقّق، والبناء المترابط. ومن مقتضيات الهمّ الفلسفيّ الانعتاق من سلطان المعارف المتواترة والبنى الحاكمة والأنظمة السائدة. أمّا السبيل الثاني، فيكشف في الفلسفة همّ الانخراط في إشكاليّة الوجود التاريخيّ العربيّ. ومن مسلتزمات همّ الانخراط التاريخيّ إدراكُ طبيعة الاختبار الإنسانيّ الذي تضطلع به المجتمعاتُ البشريّة الكادحة في مختلف أوطان العالم العربيّ. ولا شكّ في أنّ هذين السبيلين يفضيان بتكاملهما إلى صياغة الفلسفة العربيّة المنشودة.


تكابد الفلسفةُ في المجتمعات العربيّة ألواناً شتّى من العذاب الفكريّ. ويرشقها الكثيرون بتهمة العقم في الأثر والإرباك في الحياة. وقد يطول المقام إنْ شاء المرء أن يتقصّى الأسباب القصيّة التي تبرّر بعضاًَ من التأزّم الفلسفيّ في العالم العربيّ، ومنها الأسباب الاجتماعيّة (بنية العلاقات الفوقيّة، النمطيّة المسلكيّة التقليديّة)، والثقافيّة (تمجيد الهويّة الذاتيّة وازدراء الغيريّة والغربة المقلقة، استرهاب النقد الذاتيّ واستقباح المسّ بمسلّمات العمارة الفكريّة الذاتيّة، انعطاب الوصال النقديّ بالتراث الفلسفيّ العربيّ القديم والحديث، تحجّر القوالب اللغويّة وتجمّد المعاني والتعابير، العجز عن ابتكار الإشكاليّة الفكريّة المناسبة لطبيعة الوضعيّة التاريخيّة العربيّة)، والاقتصاديّة (تسلّط الهمّ العيشيّ على الهمّ الفكريّ، الانبهار بالفاعليّة التقنيّة والتشكيك في أثر الفكر التاريخيّ)، والسياسيّة (تسلّط مظالم الاستعمار والصهيونيّة على الوعي العربيّ، انفطار الذات العربيّة الفرديّة والجماعيّة على التبعيّة، خضوع السياسيّات للاّهوتيّات)، والدينيّة (التسليم المطلق بسلطة النصّ الدينيّ المنعتق من قرائن الانتماء التاريخيّ، إيثار الوثوقيّة العباديّة على المساءلة اللاهوتيّة، ارتهان اللاهوتيّات للسياسيّات).
فإذا كانت الفلسفة تخضع في أوطان العالم العربيّ لهذا القدر من الإكراه، أدرك المرءُ أنّ النهوض بالفلسفة أمرٌ عسيرٌ يقتضي مقداراً عظيماً من جرأة الثورة. والحال أنّ الثورات العربيّة الحديثة إمّا اكتنفها الغموض الثقافيّ (التباسات النهضة العربيّة الحديثة)، وإمّا أفسدتها المطامح السياسيّة (إبهامات يقظة القوميّات العربيّة)، وإمّا قيّدتها التواءات المبايعة الفكريّة (معاثر المقاربات الماركسيّة للواقع العربيّ)، وإمّا أنهكتها ادّعاءات الاستئثار الدينيّ القاهرة (مصادرات الأصوليّة الدينيّة للوعي العربيّ المعاصر). وقد يحار المرءُ في تعيين هويّة هذه الثورات حتّى إنّ بعض المتفائلين لا يتورّعون عن افتراض المسعى الفلسفيّ في أصل هذه الانتفاضات العربيّة المتزامنة أو المتعاقبة. وحين يستذكر المرءُ أنّ اليمين العربيّ الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ لم يُثمر على الإطلاق ثمارَ الثورة الفكريّة المنعشة المغنية، يدرك أنّ الفلسفة العربيّة إمّا أن تتجلّى في جرأة التغيير المجدِّد، وإمّا أن تكبو في غفوة التكرار الخاضع والتبرير الصائن لمعتمدات الممارسة التاريخيّة الظالمة.


بيد أنّ الموضوعيّة الفكريّة تستلزم الإقرار بأنّ الفلسفة العربيّة ما نهضت لها ثورةٌ ذاتيّةٌ محضٌ. فالفلسفة في العالم العربيّ الحديث والمعاصر ما اختبرت إلى الآن ثورتها المنبثقة من صميم مقتضيات الوجود العربيّ الاجتماعيّ الثقافيّ. وليس أقدر على التيقّن من هذا التخدّر الفلسفيّ من استدعاء اللاهوتيّات والسياسيّات في إدراك الواقع العربيّ الفكريّ، وهما الحقلان اللذان يمنعان الإنسان العربيّ من البلوغ إلى مواقع الاستفسار الفلسفيّ العربيّ الأرحب والأنسب والأغنى. فاللاهوتيّات العربيّة هي العمق الثقافيّ الذي فيه تنغرس أنظوماتُ التفكّر الدينيّ العربيّ المعاصر الإسلاميّة منها والمسيحيّة. وأمّا السياسيّات العربيّة، فهي الخلفيّة الفكريّة التي تنشط في أرجائها عماراتُ النظريّات السياسيّة العربيّة المؤاتية أو المجافية للأنظمة السياسيّة العربيّة السائدة.
وعلى حين تؤثِر اللاهوتيّات العربيّة الانسلاكَ في مقولات اليقين الإيمانيّ الوثوقيّة، تستفرد السياسيّات العربيّة بجميع ضروب الاختبار الاجتماعيّ العربيّ فتستغرقها وتصادرها وتهيمن عليها بإكراهها على اعتناق مقولات الولاء والمبايعة والائتمار. ومن ثمّ، فإنّ اللاهوتيّات العربيّة والسياسيّات العربيّة تتواطأ على استكراه الفلسفة واستقباحها ومجانبتها واضطهادها. ذلك أنّ الفلسفة ترفض تخدّرات الوثوق الدينيّ وتناهض إماتات المبايعة القاهرة. ولا عجب، من ثمّ، أن تتحالف اللاهوتيّات والسياسيّات على إحراج الفلسفة وإخراجها من دائرة الاهتمام الوجوديّ العربيّ المعاصر. فالفلسفة، بما تنطوي عليه من إرباك الاستفسار الخلاصيّ، تخالف يقينيّات التسليم الدينيّ ومسلّمات المبايعة السياسيّة. وما دامت المجتمعات العربيّة تخضع لهيمنة اللاهوتيّات والسياسيّات في ممارساتها القمعيّة، استحال على الإنسان العربيّ أن يفوز بتصوّر فلسفيّ نقديّ إصلاحيّ واعد.


وحين أتحدّث عن يقينيّات التسليم الدينيّ أميّز تمييزاً صارماً اختبار الإنسان العربيّ الروحيّ الإيمانيّ من خضوع العقل العربيّ لسلطان الأنظومة الدينيّة والنصّ الدينيّ والتقليد الدينيّ والمؤسّسة الدينيّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ الإسلام العربيّ والمسيحيّة العربيّة يتشاركان في نسب مختلفة في محنة العقل العربيّ. ولذلك ينبغي أن تنهض في الأوطان العربيّة فلسفةٌ عربيّةٌ في الدين تحرّر الاختبار الإيمانيّ العربيّ في حقليه الإسلاميّ والمسيحيّ من تجارب التخدّر الدينيّ. ذلك أنّ الإسلام والمسيحيّة ينطويان كلاهما معاً على مكانز روحيّة جليلة الشأن تعزّز في الإنسان طاقات الاختبار الإيمانيّ الصافي التي تضع الوجود الإنسانيّ في وصال الحبّ الإلهيّ. فيجب، من ثمّ، أن تقوم فلسفةٌ عربيّةٌ في الدين تحرّر الاختبار الإيمانيّ في تذوّق الحبّ الإلهيّ من قيود التفسير الدينيّ المؤاتي لمنافع السلطة الدينيّة. وبذلك يتهيّأ للاّهوتيّات العربيّة أن تستقيم باستقامة الاختبار الإيمانيّ الروحيّ الإسلاميّ والمسيحيّ. ولا شكّ في أنّ البحث الفلسفيّ في قابليّة الإيمان لتجاوز تعثّرات المؤسّسة الدينيّة هو من أشدّ الأبحاث ضرورةً في مسرى الإصلاح الدينيّ العربيّ.


وحين أتحدّث عن مسلّمات المبايعة السياسيّة أفصل فصلاً قاطعًا بين مقتضيات التجلّي الاجتماعيّ السياسيّ لفطرة الحرّيّة الإنسانيّة الكيانيّة ومساومات السلطة السياسيّة في صون منافع النظام الحاكم. فالإنسان العربيّ ما ألِف قطّ التوق إلى الحرّيّة السياسيّة الذاتيّة إلاّ في نطاق الانتماء الدينيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. فأتت الأنظمةُ السياسيّة العربيّة تمجّد فضائل الانتماء وتقلّل من شأن الحرّيّة حتّى تهيّأ للإنسان العربيّ أنّ حرّيّته لا قوام لها ولا معنى إلاّ في خضوعها لمقتضيات الانتماء. فغدت الجماعةُ هي جوهرَ المعنى في الوجود السياسيّ. فانصرف الكثير من الناس إلى تطلّب الحرّيّة الوجدانيّة الباطنة واكتفَوا بمقدار زهيد من الحرّيّة السياسيّة. فإذا بالعقل العربيّ يأنس إلى المبايعة ويحذر المساءلة والنقد والتفرّد والابتكار. ولمّا كان الأمر على هذه الحال، اقتضى للعقل العربيّ أن يأتي بفلسفةٍ في السياسة تعيد ربط الكيان الإنسانيّ العربيّ بمقولة الحرّيّة. وفي دائرة الاختبار العربيّ الأرحب ينبغي لفلسفة السياسة أن تنقض مسلّمات الأنظمة السياسيّة الحاكمة التي تخالف في تصوّراتها وفي مسالكها انعقاد الفطرة الإنسانيّة على أصل الحرّيّة.


ويقيني الثابت في ختام هذه الإشارات أنّ الفلسفة المقبلة إلينا في العالم العربيّ لن يستقيم لها حال ما لم تقترن باللاهوتيّات والسياسيّات. ومعنى ذلك أنّ الفلسفة العربيّة المعاصرة إمّا أن تكون فلسفةً دينيّةً وفلسفةً سياسيّةً، وإمّا أن تسقط في متاهات التجريد الترفيّ. وما من أحد يمنع الفلاسفة العرب، إنْ وُجدوا، من أن ينهضوا بعمارة فلسفيّة عربيّة غير دينيّة وغير فلسفيّة. ولكنّ الظنّ الأغلب أنّ هذه الفلسفة سيعسر عليها أن تقيم البرهان على صوابيّتها النظريّة وملاءمتها التاريخيّة. ورأس الكلام أنّ الفلسفة، إذ يحاصرها الدين والسياسة في الأوطان العربيّة، ينبغي لها أن تتفلّت من هذا الحصار من دون أن تكرّر خطيئة الدين والسياسة، فتحاصرهما على غير هدى. فما السبيل التاريخيّ الأقوم لركوب هذا المركب الفكريّ النبيل، وأهل العرب خاضعون لمشيئة القدر، مسيَّرون بداعي المنفعة الضيّقة ومفعول الدهر الكابح؟

* أستاذ الفلسفة والحوار في جامعة الروح القدس (الكسليك)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى