هدية حسين - صنارة الضجر

لم يصدقني أحد حين قلت ما أعرفه، وأنا لا أعرف الكثير عن السيدة، بعد خمسة عشر يوماً قضيتها في مركز الشرطة أخذتُ الى المحكمة، ومن هناك تقرر مصيري فجيء بي الى سجن النساء، دفعتني السجانة بعنف الى إحدى القاعات فهرعت السجينات مثل الجراد والتصقن بي، وجوههن بلا لون وعيونهن من دون بريق، إحداهن زغردت، لا أدري لماذا، وأخرى كبيرة في السن تضع كحلاً ثقيلاً حول عينيها اقتربت مني، غمزت الى التي زغردت وسألتني: ما هي حكايتك؟
بانتظاري سلسلة طويلة من أيام متشابهة ستمتد الى عشرين عاماً، وإذا بقيت حية فسوف أخرج بعمر الأربعين، أنا متأكدة الآن أن رجلاً على شاكلة محمود ياسين لن يتزوجني، وأن (الأرانب) التي خلفتها ورائي ستموت جوعاً.
**
السجينات يسمعن الحكايات من الألف وليس من الياء، وإذا كنتُ قد التزمت الصمت في الأيام الأولى فها هو يتداعى أمام إلحاحهن، إذ كيف سنلوّن الأيام والليالي المتشابهة دون أن نكسر الصمت لنستوعب الحياة التي صرنا عليها؟ هذا ما قالته التي تضع كحلاً ثقيلاً حول عينيها.
وضعنني في شبه دائرة، وقالت التي زغردت: إن أول الحكاية هو المهم وهو الذي يقود الى نهايتها، ورحتُ أمسك بخيط الحكاية، حكايتي مع السيدة التي طعنت في سرير نومها بسكين المطبخ، غابت وجوه النساء من حولي واتضح وجه السيدة.
**
إنها تأخذ قيلولتها كما في كل يوم، أنا أنظف الفضيات بالخل الأبيض والليمون، القط الأسود فوق السجادة العجمية يفتح عيناً ويغمض أخرى، البلاط صقيل مثل المرآة والزوايا نظيفة، الكتب مرتبة في رفوف المكتبة لا رائحة للغبار تنبعث منها، مصفوفة بحسب أحجامها وأنواعها، السيدة لا تقرأ هذه الكتب لكنها تشتري المزيد من حين لآخر كشيء مكمّل للديكور، وعندما تستيقظ السيدة يبدأ طقس الحمّام، حمامها واسع وسقفه من الزجاج الشفاف، يُتيح لها حين تتمدد في البانيو أن ترى السماء، بغيومها أو سطوع شموسها نهاراً، وبنجومها عند المساء، لكن السيدة تفضل أن تغطس في البانيو نهاراً لتتسلى بمشاهدة أسراب الحمام التي تعبر وتهاجر الى مدن بعيدة، أكون أنا قريبة من باب الحمام أنتظر أوامرها، فقد تكون بحاجة الى شيء، مع أنني لا أنسى شيئاً، الصابون المطعّم برائحة الأعشاب البرية، وأوراق الليمون المعطرة ومرطب الشعر وغسول الفم والمنشفة الوردية وخُف القدم القماشي ومناشف الوجه، كل شيء في مكانه، داخل خزانات ملحقة بالحمام أو على الرفوف.
عندما تنتهي السيدة بعد ساعتين من حمامها اليومي، أسرع لأعد لها الشاي المطعّم بالهيل أو النعناع، مع البسكويت المعجون بالزعتر، وتكون السيدة أثناء ذلك قد انتهت من تجفيف شعرها وترطيب جسدها بأنواع فاخرة من الكريمات، وحينما تدخل الصالة بثوبها الفضفاض يقفز القط الأسود ويتمسّح بأذيالها، يتبعها بتذلل ويتمدد عند قدميها حين تجلس، القط لا يتمسح بأطراف ثوبي، كأنه يشم رائحة الفقر، وأنا لا أجلس باسترخاء مثل السيدة.
**
في التاسعة مساءَ تخرج السيدة، قبل خروجها تتبرّج فتبدو بشرتها تحت الماكياج كأنها من شمع، يتغير شكلها تماماَ، عيناها تغرقان بالكحل وجفناها يثقلان بالشدو، وتصطبغ شفتاها باللون القرمزي اللماع.. لا أعرف الى أين تمضي السيدة، لكنني أعرف أنني أكون بانتظارها مهما امتد الوقت، أفتح لها الباب، أحمل لها حقيبتها، وأصعد معها الى غرفة النوم لأطمئن عليها، إذ تبدو عندما تعود في هذا الوقت المتأخر مرهقة تماماً، وفي أحيان أخرى تكون مترنحة فأسندها.. روائح غريبة تفوح من السيدة عندما تعود.
**
في نهاية كل شهر تأتي عمتي وتستلم راتبي لتتدبر رعاية أمي المريضة واخوتي الصغار، عمتي تعمل خاطبة، تزيّن الزواج للشبان والشابات، لكنها تقول لي إن الزواج مقبرة الأحلام، وأنا أحلم بالزواج حتى إذا كان مقبرة، تقول لي أيضاً إنني إذا تزوجت فسأحكم على أمي بالموت وعلى اخوتي بالتشرد، لكنها في وقت آخر تؤكد لي أنها ستزوجني يوماً ما عندما تستقيم الأمور، وتكرر على مسامعي أن المرأة مرغوبة في اية مرحلة من عمرها.. أعرف أنها تكذب وأدّعي أنني أصدّقها.
ذات نهار طلبت السيدة صحن كرزات وتابعتْ بكل شغف فيلم (أفواه وأرانب) تمد يدها من حين لآخر وتأخذ كمشة حمص أو لوز وعيناها مشدودتان الى الشاشة، وعندما رن الهاتف أشارت لي دون أن ترفع عينيها عن محمود ياسين وفاتن حمامة، فهمتُ إشارتها ورفعتُ السماعة وأنا أرد: السيدة نائمة.
أقعد على مسافة منها وأتابع أيضاً (أفواه وأرانب) وفي الليل، تحت الأغطية، أحلم برجل يشبه محمود ياسين، يحبني وينقذ (الأرانب) الجائعة في بيت عمتي.. عمتي هي التي أطلقت تسمية الأرانب علينا، ولعلها كانت قد شاهدت الفيلم في الماضي، حين تُناولنا الرغيف المدهون بالزبدة تردد: أرانب لا تشبعون.
شعرتُ بالسعادة لنهاية الفيلم لأن (السيّد) تزوج الخادمة، لكن السيدة وقتها التفتت نحوي ولم تكن سعيدة، تقلصت ملامحها ورمتني بنبرة تحذيرية: لا تصدقي كلام الأفلام، السيد يبقى سيداً والخادم عبداً... ومضت الى غرفتها.
**
ساعات الليل في السجن طويلة، عقاربها تتسلل تحت جلودنا وتمتص دمنا، والحكاية لاتزال خيوطها في صنارة الضجر.. الضوء خافت داخل القاعة، وكذلك أصواتنا لئلا تأتي السجانة وتطفىء الضوء فيعم الظلام وتفقد الحكاية تسلسلها.
كثيراً ما تساءلت أين تمضي السيدة، وكثيراً ما كبحت جماح السؤال بالرد على نفسي: اخرسي يا بنت هذا ليس من شأنك، لستِ سوى خادمة، أكاد أسمع صوتي المكبوح حين أرد، ويخيل لي أن نبرته تشبه نبرة أوامر السيدة، ويحلو لي أحياناً أن أتسلل الى خزانة ملابسها العامرة بالفساتين والمعاطف والبلوزات وعباءات الحرير الخالص والشالات والقبعات والألبسة الداخلية المخرّمة، والكثير من الاكسسوارات والباروكات ذات الشعر الأشقر والأحمر والأسود الفاحم، أرتدي ما أشاء وأنظر الى نفسي في المرآة، لا أرى أي فرق بيني وبين السيدة، سوى أنني أصغر منها، لكنها تملك ما لا أملك، من أين يأتيها المال؟ أظنها ورثت من زوجها الميت.
**
متى تستقيم الأمور وأتزوج يا عمتي؟ ترد عليّ غير مبالية بمشاعري، اصبري يا ابنة اخي، أمك بحاجة الى أدوية كثيرة واخوتك الأرانب جياع، سوف أزوجك حتى لو أصبح عمرك بالأربعين..أشهق: أربعين؟ تصمت وتتركني أغص بالشهقة.
سألت عمتي ذات يوم: ما هي مهنة السيدة؟ حدجتني بغيض وهي ترد: مهنتها لا تعنينا.
سأعرف في اللحظات الحرجة وأنا بين يدي المحقق، أن السيدة تعمل في كازينو للقمار، وأنها تملك نسبة من أرباح الكازينو.
**
عندما عاينوا الجثة، وفتشوا كل زاوية في البيت، لم يجدوا سوى بصمات أصابعي، سألوني عن الليلة التي سبقت مقتلها، أخبرتهم أنها خلدت للنوم حالما وصلت ومضيت أنا الى غرفتي الملحقة بالمطبخ، ثم استيقظت على صوت السيدة وهي تصفق الباب وتصرخ: لا أريد أن أراك يا غراب البين، كان الوقت قد اقترب من الفجر ولم أسمع شيئاً بعد ذلك، نمت نوماً عميقاً لاكشف في الصباح مقتل السيدة... لم يصدقوا ما قلت.
**
حين انتهيت من حكايتي انفضت السجينات من حولي، وفي صبيحة اليوم التالي أحطن بسجينة جديدة، دفعتها السجانة الى القاعة مثلما دفعتني، زغردت إحداهن وغمزتها المرأة التي تضع كحلاً ثقيلاً حول عينيها.. وكنتُ أول من سألها: ما هي حكايتك؟



* قاصة عراقية مقيمة في كندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى