مزهر جبر الساعدي - مقبرة حية

بعد ان حل الليل وغفا صاحبي الحارس معي كعادته وحطت الظلمة على المكان عادت بي الايام الى ذلك اليوم, حينها أدهشوني عندما طلبوا مني العمل فأنا على يقين من انهم يعلموا ما يقول الناس عني, يصفوني بالمجنون, ألا أني على عكس ما يروني اعرف قدرتي على تمحيص وضعي وهذا ما دفعني في البدء على عدم تقبل الامر. أشعرني حينها بالقرف الشديد المصحوب بالخوف الذي تمكن مني ألا أني قلبت الوضع باحتمالاته المتعددة ومن جميع الوجوه, اذ كيف بإمكاني حراسة جدار قيد الأنشاء يمتد لمسافة بعيدة جداً, أحمي فيه مواد البناء ومعداته وأنا أحاورني قلت: قد يهون الوضع, ربما لا أحد بإمكانه سرقة كمية كبيرة من مستلزماته (وقتها لم اكن أتنبأ بما ستؤول اليه الاوضاع فهي خارج تصور أي أنسان....).
أذ تحيط بالمقبرة طرق عريضة لا عد لها تتوغل في مختلف الاتجاهات وبين أحياء سكنية وأخرى حكومية فمن يريد ان يسرق يحتاج الى عجلة حمل وعمال بالإضافة الى ما يستغرقه التحميل من وقت ربما ساعة او أكثر على أقل تقدير, هذا غير ممكن من الناحية الواقعية, لذلك عزمت على أبلاغهم بموافقتي على العمل في صباح اليوم التالي. قلت لهم
- موافق كحارس لجدار تحت البناء, جدار مقبرة.
الآن وبعد سنين أسميه جدار مع انه لم يرتفع أكثر من شبرين عن مستوى الطريق. أكوام من الحصى والرمل والطابوق وأكياس الاسمنت منتشرة هنا وهناك على أمتداد الجدار الملتوي كأفعى, ينحرف الى الداخل مرة واخرى الى الخارج, يلتف حول القبور, قبور لا يوجد بينها غير ممرات ضيقة جدا. بالكاد تتسع لمرور شخص واحد لا غير, حتى تدور حوله بالكامل كحارس, ربما يستغرق منك ساعات بالسيارة, ها هاهاها .. صاحبي النائم هناك لا أقصد صاحب شاهد القبر ذاك, صاحبي الحارس معي لجدار المقبرة ومواد بناءه. ينام بين الفينة والاخرى مع ذلك ينعتني بالمجنون هو الآخر يقول حين يخاطبني : يا مجنون. يستخف بي عندما يبصرني أقرأ هناك تحت السدرة, جنب القبر ذاك. في النهار أحتمي بها من حرارة الشمس عندما تهدأ روحي استمتع بما أقرأ من روايات, تشعرني شخصياتها بالآلفة معها وتخفف عني همي. نهضت ومشيت على الرمال تاركاً جدار المقبرة خلفي. مشيت الى شاهد القبر ذاك. مثقل بالهم والألم. يأخذني التوهان حتى بت لا استطيع ان اتأكد من وجود اي شيء مما يدور حولي. حاولت ان أسيطر على زمام نفسي لكن دوران رأسي خذلني في هذه اللحظة نظرت أليه, الى صاحبي, ما باله نائم, ثمة شخير وتمتمات تكاد لا تسمع, من فيه ومنخريه, انه منكفأ على وجهه. في هذه اللحظة بدء الطنين في أذاني, أنه يزداد أأأأأهياله من متعب هذا الطنين, أمامي تمتمات صاحبي انخفضت ثم تلاشت, ضاعت في الليل, مع انه, الليل في بداياته. فيما الطنين في أذاني تصاعد مع صفير الريح وهي تهز سعف النخيل المنتشر على الطريق العام وايضاً من هنا وهناك وهنالك يصلني أزيز الريح في سعف النخيل السامق والمتجذر في ارض المقبرة بين القبور وحولها وعلى مقربة ومبعده منها. وجدتني كأني اسمع أنين مرضى وجياع.
ثم في اللحظة التالية جعلتني أصوات رياح الليل وهي تئن بين مزق اوراق الجرائد والكتب المنسية التي غابت عنها أيادي من يحبونها هكذا تخيلتها وهي تتطاير من حولي لتستقر بين اكوام الحصى والرمل والطابوق وأكياس الاسمنت. تعرفت على مزق أوراقها من شكلها رغم ظلام الليل, ميزتها عن غيرها من مزق الاوراق, أسمع اصوات قادمة من مزق أوراق الكتب, من ليل الحصار والذي صار بعيداً, من وراء الجدار, الجدار المرتفع قبل ان يسقط أصوات مموسقة مع أن فيها حشرجة وأنين قصص لأناس لي معهم فيها حكاية مؤلمة, عندها دفعتني اصوات رأسي الى الدوران حول نفسي في جميع الجهات.بينما عيوني أستمرت تحدق في البيوت المترامية من حولي متوائمة مع صوت ركض فوق تلافيف دماغي يقول: أنهم معذبون, عذبتهم سجون المقبرة, وحشة القبور.
تمنيت ان يصفوا ذهني مثلما يحدث معي في اوقات كثيرة تحررني فيها أصوات رأسي. حاولت أن أكبح جماح روحي وأبعد عني أصواتهم غير أن رأسي ما أنفك يدور ويدور.
صرت على بعد بوصات من شاهد القبر, الراقد فيه, صاحبي, أتبادل معه في الليل الحكايا المؤلمة, يحكي واحكي.
الحارسمعي
جاءني قبل الفجر بقليل وهو يرتجف مثل سعفة في رياح عاصفة كنت حينها بارك على ركبتي أمام شاهد القبر الراقد فيه صاحبي, الشاب الوسيم. يحكي حكاية مؤلمة ابكتني مع اني على علم بها من زمن ليس ببعيد قبل ان يرحلوا عنا الى مكان آخر. حين وقف على رأسي ناداني بصوتٍ راعش ومتهدج قال (أنهض....) , لكني لم استطع كنت أنشج والدموع تتدفق من عيوني. رفعت وجهي ليس اليه وانما نحو السماء السوداء, سماء ملبدة بالغيوم السود, لا نجوم فيها, صرخ بعد ان فقد رشده (أيها المجنون قلت لك, أنهض...) ألا أن صياحه غاب عني من غير أرادة مني لذلك ظللت مسمراً في مكاني, متواصلاً في الاستماع الى صوت صاحبي الراقد تحت شاهد القبر أمامي لثانية أقل او أكثر او للحظة لا غير. خلالها استمر صوته يأتيني واضحاً وجلياً, يرن في أذاني يقول بلوعه: اريد ان أرى أمي, لم تأت, في قلبي شوق كبير أليها لهفتي كبيرة أن أسمع نواحها قرب رأسي, يرفع عني وحدتي ووحشتي. صوتها يظل يرن في أذاني وهي تنشج بألحان حزينة ومؤلمة لكنها شجية. تنشدني أليها, تذكرني بنواحها ذاك البعيد. عندما سقط الصاروخ علينا في الخفجي برمشة جفن أبصرتها تنزل نحوي من بين حزم الدخان والنار تصرخ من حنجرتها, ابني ومزقت ثوبها الى نصفين اقتربت منها مخترقاً النار والدخان في ركضي اليها, قلت لها (لا تحزني, انا هنا, معك), ألمني غيابها, لم تكن هي وحدها من غابت عني, زوجتي قبلها لم تأت. جاءني في المرات الاخيرة فقط أبي ومعه ابنتي الحلوة, حملها أبي على صدره, جلسوا هنا في مكانك. يا صاحبي لا تبكي بصوت عالي, قد يفز النائمون في هذه البيوت المترامية حولنا...
أرجوك أذهب الى بيت أهلي, تعرف العنوان, عنوانهم الجديد طالما حدثتك عنه كثيراً قبل ذلك, أذا نسيته قل لي, لأوضح لك اين يقطنون.. اجبته (أعرفه...).وأرتج جسدي بقوة حتى اصطدمت جبهتي بشاهد القبر عندها رفعت وجهي الى الاعلى, رأيته, الحارس معي, يقف فوق رأسي, يهزني من كتفي ... يستمر بالصراخ (ألا تسمع. أأنت اصم, أنهض, أنهض, أنهض,..........) تحاملت على نفسي, وقفت بقامتي أمامه, أسمع صوت تنفسه يأتيني, يصفر في أذاني, وزفيره الساخن في وجهي. قال بتلعثم شديد: لم أفهم ما تفوه به, ألا أنه بعد ذلك صرخ (أفهمني, أرجوك, أفهمني وعاوني), ركزت عليه, قال: (جاءوا وانصرفوا تركوا وراءهم جثة شاب, ذبحوه, تعال معي لنرى ما نفعل) ثم وبصوت مملوء بالأسى والحزن الشديدين. أخبرني (أتصلت بالشرطة في الحال ربما هم الآن في الطريق ألينا). غافلوني, الخنازير باغتوني, أخذتني الغفلة, انا الملوم, ألوم نفسي, قلبي يؤلمني يكاد يطفر من بين ضلوعي, أمسكني أرجوك أكاد أسقط, أنظر الى هناك تحت نور المصباح المعلق في العمود, جلست فيه لارتاح لدقائق لا أكثر, تمكن مني التعب, هنا في مكان البوابة فعلوها, لم أنتبه اليهم ألا عند مرورهم بالسيارة التي تقلهم الى يميني تحت النور, لم يكن في تصوري انهم قاموا بفعل شنيع كهذا, عندما أبصروا رأسي يطل اليهم من وراء كوم الطابوق هناك, فتحوا نيران أسلحتهم نحوي, أحتميت فيما تواصل رصاصهم يقدح ويئز في الطابوق أمامي. ثم سكت رأيته للمرة الاولى منذ عرفته, يكز على اسنانه. وأنا أنظر اليه والى الأنحاء من حولي والى المذبوح أمامي عاودني دوران رأسي ومن أعماق رأسي رجع أصوات ترن في أذاني وصور أليفة لوجوه أحبه تنبثق من بين الصدى الحزين المتفجر في دماغي أحدهم وجه اخي صاحب صاحبي الراقد هناك تحت شاهد القبر ذاك. صوت اخي يسألني من مكان بعيد بعيد وبعتاب شديد أنت يااخي لماذا لا تبحث عني, أني في رمال صحراء حفر الباطن أجوبها في الليل وحدي. انت يا اخي تختلف عن امي كثيراً, أنها وصلت الي بعد ان جابت الصحراء بحثاً عني, نحن وهي بين الرمال والليل والظلام. انها نحيفة وشاحبة عندما عثرت علىَّ. تقول عنك عز علي ان اتركه وحده فهو في تيه دائم لكنها وحسبما أخبرتني حدث الامر رغم أرادتها تقول قلبي خانني من النواح عليك ابني. اخي أتسمعني لم أجب لأن دوران رأسي ارهقني وكي أسيطر على خلجات نفسي وجهت عيوني أليه, عصرني ألمني ما زاد في حزني, لا يزال يختض ويرتعش غضباً مما نحن فيه. خشيت عليه ان يسقط على الجثة, جثة ممددة على الطابوق, لم أرى في حياتي مثل ما أرى الآن أمامي, الطابوق صار لونه أحمر. رفعت وجهي الى السماء ومن غير ان أسيطر على مكامن نفسي وجدتني أصرخ بأعلى صوتي (ألهي, اين هي عدالة السماء...). أبصرت في الافق البعيد أنبلاج الفجر, يؤذن بطلوع الشمس, عرفت ذلك من خلال تلون حافة السماء الملتصقة بالأراض في المدى البعيد عنا, أنا والحارس معي في المقبرة المرتجف غضباً أمامي, بلون أحمر مشوب باللون الاصفر في هذه اللحظة فززتني أصوات إطلاقات, إطلاق نار كثيف في تقاطع الطرق المؤدية الى المقبرة, إطلاق نار من الجانبين, اشتباك عنيف قلت مع نفسي. على ما يبدوا الشرطة قطعت الطريق عليهم وفي هذا الاثناء أزداد الرمي ضراوة من الجانبين, انه بعيد عني.
قرص الشمس يعلو الآن هامات القبور في المدى البعيد, اشعته غمرت المكان. بقينا وحدنا, أنا والحارس معي حتى جثة الشاب نقلتها سيارة الاسعاف فيما رياح الصبح تدفع مزق الاوراق في جميع الجهات, أوراق جرائد ومجلات وكتب, قصاصات من ورق الجرائد وإلى الجانبين منها مزق اوراق الكتب تخيلت بينها قصائد صاحبي الراقد هناك, التصقت بالطابوق المدمى بدم الشاب المذبوح, ربما ظل الدم محافظ على رطوبته بفعل بلل ونداوة الفجر...
ما جعل مزق اوراق الجرائد والكتب تستقر هنا, عليه, على الطابوق المدمى.. قراءت انفجار مفخخة في ساحة الطيران, في الصفحة الرئيسة لأحدى الجرائد التي استقرت في المكان أمامي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى