محمد الحداد - حلم مجنون..

(1)
ليلة أمس.. حدثتني النفسُ أنْ أعاودَ ممارسة جنونٍ قديم كنتُ ألوذ بهِ كلما أحسستُ بظلمٍ ما (هذا يعني أنني فعلتُ ذلك طوالَ عمري) .. قبل النوم..أجلسُ على سريري وألقّنُ نفسي ما أتمنى من حُلُمٍ أحاولُ استدراجهُ إلى سماءِ نومي حتى يغلبني النعاسُ فأحلم بذاتِ ما لقّنتُ نفسي به..هو حُلمٌ وفقَ الهوى أو حَسْبَ الطلب.. فيهِ نحوٌ من إيحاءٍ نفسي لكنهُ يشبهُ انتفاضة نسرٍ مجروحٍ يُحلّقُ أعلى من رؤوسِ جارحيهِ.. يقتحمُ فضاءهم مُرفرفاً فوق أسوارِ المستحيل.. يثأرُ لنفسهِ منهم بسلام.. دون أنْ يجرحَ جارحيه.
لكن برغم عنفوانه..لم يكن جنوني القديم هذا يُتيحُ لي إلا أحلاماً تكتسي زغبَ طفولةٍ غضة.. أحلامٌ مثل بالونٍ صغير بحجم أمنية.. تارة يمتاحُ مِلءَ اليدِ و يتفرقعُ تارة فورَ انتفاخهِ بدبابيس يقظةٍ حادة.
بعد ذلك.. عِشتُ عمري كلهُ أحلمُ أنْ أحلمَ أحلاماً أخرى.. تكون لي وحدي.. لكنني بقيتُ أنتظرُ على قارعةِ الظلمِ والوجع حتى وجدتني ذاتَ يومٍ أقفُ على أعتابِ رجولةٍ باغتتني مبكراً وحَمَّلتْ ظهريَ الصغير ما لا يُطيق.. وبقيتُ أبحثُ عن كومةِ أحلامي الضائعة هذهِ وهي تبتعدُ عني.. حلماً تلو حلمٍ.. وتضيعُ من يديَّ عاماً بعد عامٍ كحباتِ رملٍ تذروها الرياحُ وتدحرجها السنواتُ فوق صحراءٍ شاسعةٍ دونما أثر.
مرَّتْ السنواتُ وتساقط عن جسدي زغبُ الطفولةِ ونبتَ مكانهُ ريشٌ استقى قوتهُ من تلك الأحلامِ التي تساقطتْ مني على أرصفةِ الحياة..تلك التي عجزتُ طوالَ حياتي أنْ أراها في اليقظة.
ليلة أمس اعتلى أسوارَ جنوني ذلك الشيطان من جديد.. خرجَ من قُمقُمِ الزمنِ كماردٍ قديم يغسلُ النعاسَ من عينيهِ وينفضُ عن رأسهِ غبارَ السنوات.. همسَ بأذني أنْ أعاودَ ذلك.. فاستجبتُ له.. قلتُ لنفسي والظلم يُطوقني كظلي من كلِّ مكان: سأجرب أنْ أصنعَ حُلماً آخر.. لكني سأجعلهُ مغايراً تماماً هذهِ المرة... قلتُ لأجربَ أولاً أنْ أنامَ مُبكراً.. ولا أصدع رأسي بمطاردةِ الأخبار على التلفاز لئلا يكون حُلمي صدىً حزيناً لِما أدمنتُ رؤيتهُ وسماعهُ في اليقظةِ كلَّ يوم.. قررتُ ألا آكلَ شيئاً قبل نومي كي لا يُقال عن حُلمي أضغاث أحلام...هي ليلةٌ واحدةٌ في العمرِ حَسبي أنْ أنامَ فيها باكراً...قبلَ ذلك قلتُ لا شأن لي الليلة بشياطينِ الكتابةِ...سأكنس الكلماتَ من رأسي..لن أقرأ أو أكتبَ أيّ شيء...أضطجعتُ على اليمينِ وتعوذتُ باللهِ سبعينَ مرة من شرِّ كلِّ طاغيةٍ عربيٍّ مُبين وأغمضتُ عينيَّ المبتلتينِ بهم و بجنونِ أفكاري التي لا تنقطع.. لكن بعد كلّ ذلك ظلَّ النعاسُ بعيداً عن عينيّ...تقلبتُ كثيراً في فراشي وتصفحتُ كتابَ أحلامي ساءلتُ نفسي تُرى أيُّ حُلمٍ سأصنع؟ أيُّها سأختار؟ أمسكتُ آخر الأمر بحُلمٍ قصيّ أشبه ما يكون برحلةٍ في عالمِ المستحيل.. لقنتُهُ نفسي على مهلٍ ثمَّ تركتُ لهُ حرية أنْ ينسابَ إلى نومي وفقَ هواه..أطفأتُ المصباحَ من زرٍّ قربَ رأسي فغاصتْ الغرفة في ظلامٍ دامس وولجتُ أخيراً مغارةَ حُلمٍ مُظلمةٍ..وأبصرتُ النور..

(2)
دخلتُ بلاداً من بوابةٍ غاية في التحصين لا أخال عدواً يفكرُ في الدخولِ منها فاطمأننتُ على سلامةِ الحدود وعرفتُ أنَّ قدميَّ وطئتا للتوِّ دولة قوية منيعة.. ولجتُ قاعة المسافرين لكنني دُهِشتُ حينما قرأتُ عبارة مرفوعة أعلى البوابة تقول: أهلاً بكم في دولةِ ال( )..هذا يعني أنني في بلدي!خرجتُ من القاعةِ فرأيتُ في الشارعِ المقابلِ لافتةً كبيرةً جداً يُمكنُ قراءتها من مسافةٍ بعيدةٍ كُتبَ فيها: أيها الشعب.. أيها الناس اتقوا اللهَ في حُكامكم!فاستغربتُ مما قرأتهُ وسألتُ أولَ رجلٍ صادفتهُ: هل هذهِ حقاً بلاد ال( )؟ فرمقني بعينينِ تقطرانِ شَكاً وريبة وقال:هي كذلك... كأنك لستَ من بلادنا يا هذا؟ قلتُ لهُ: بلى لكنني سألتكَ ليطمئنَ قلبي.. ثم طمعتُ في مزيدٍ من الاطمئنانِ فهمستُ بأذنِ الرجلِ وسألتُهُ عن سيادةِ الزعيم...فضحِكَ مني وقهقهَ عالياً حتى ندِمتُ أنني سألتهُ فقال: ولِمَ الخوف؟ على أيةِ حال نِعمَ الزعيمُ هو..عادلٌ زاهدٌ عابدٌ....قلتُ له:كفى كفى.. حسبُكَ.. أتهزأ بي يا رجل؟ قال: صدقني.. ليسَ هو وحدهُ بل كلّ رجالِ الحكومةِ والنظام..اشتروا رضا شعوبهم ونذروا حياتهم في خدمتهم لكن دونَ فائدة قلتُ له: ولماذا؟ قال: بصراحةٍ نحن شعبٌ عنيدٌ.. ظالمٌ.. قاسٍ لا يرحم.. تصورنا تفانيهم في خدمتنا ضَعفاً.. لم ولن نفهمهم أبداً ونظنّ أنَّ صبرَهم علينا بلا نهاية... منذ شهورٍ طويلةٍ وحُكّامنا يعتصمون كلَّ يومٍ بلا يأسٍ في مَيدانِ التحرير يُطالبون منا ما يُسمونهُ حقوقهم المشروعة.. قلتُ لهُ مُستفهماً:مَنْ تقصدُ بالمعتصمين؟ قال: النظامُ كلهُ.. زعيمنا المسكين وجميعُ أعضاءِ حكومتهِ ووزرائه.. لم يكدْ يُكملُ كلامهُ حتى مرَّ مُهرولاً من أمامنا رجلٌ رَكَنَ عربة خُضارهِ على رصيفٍ مُجاور.. تصرفهُ الغريب أثارَ فضولي فسألتُ الرجلَ ما بالهُ والى أين يمضي مُسرعاً؟ قال: ألا تعرفهُ؟ هذا هو زعيمنا! قلتُ: أتهزأ بي مرة أخرى؟ قال:عرفتُ منذ البدايةِ أنك لستَ من هذهِ البلاد.. قلتُ: اعتبرني كذلك لكن أخبرني وأرحني أرجوك قال: هذا الرجلُ المسكين زعيم دولتنا أكملَ عملهُ اليوم على عربةِ خُضارهِ هذهِ ومضى ليواصلَ اعتصامهُ مع المتظاهرين مع جميعِ أعضاء حكومته..كلُهم يفعلونَ ذلك..يُقسمونَ عملهم نصفين قسمٌ للشعبِ وآخر لرزقهم ورزقِ عيالهم.. قلتُ لهُ: عجباً لأمرِكم ماذا يتمنى الشعبُ أكثر من عدلِ زعيمهِ وحكومتهِ؟قال:دَعْ ثرثرتكَ الآن وهلمَّ بنا نتفرجُ عليهم....انحرفنا إلى الشارعِ المجاورِ فرأيتُ رجالاً صُفرَ الوجوهِ شُعثاً غُبْراً ترتعدُ فرائصُهم من التعبِ والخوفِ والجوع... يعتصمون في مظاهرةٍ غاضبة ويُلوِّحونَ بلافتاتٍ كُتبَ عليها (النظام يريد إسقاط الشعب (... شعارٌ واحدٌ لا ثاني لهُ يرفعونَ بهِ الأصواتَ عالياً... رأيتُ جميعَ فئاتِ الشعبِ يُحاصرون المظاهرة.. منهم مَنْ أذاقهم أقسى صنوف الضربِ والقمعِ والبَطش.. ومنهم من اكتفى بالسخريةِ والتفرجِ من بعيدٍ بنظراتٍ يملأها غرور المنتصرين... بعد قليلٍ اعتلى أحد أفراد الشعبِ مِنصة عالية وأمسكَ ميكرفونا بيدهِ فصمتَ الجميعُ ليستمعوا لقوله فقال: (سيادة الزعيم .. أيها الوزراء..يا أعضاء الحكومة.. نحنُ الشعبُ يُهمنا أنْ نُطمئنكم أننا فهمنا الآنَ ما تريدون.. لأننا ندركُ أنَّ بعضَ ما تُطالبون بهِ حقٌ مشروعٌ نؤيدُ وجهة نظركم فيهِ... فامنحونا قليلاً من الوقتِ لتنفيذهِ.. لكنَّنا في ذاتِ الوقتِ ناقمونَ عليكم ونستغربُ مطالبكم الأخرى ونُحذّركم من محاولةِ ابتزازِ تعاوننا معكم فلن نظلَّ نرفعُ لكم سقفَ المطالبِ مرة بعد مرة كما تشاؤون لأنَّ صبرَنا عليكم بدأ ينفد... طالبتم أولاً بجعلِ عملكم في خدمةِ الشعبِ مُقابل راتبٍ رمزيٍّ بعد أنْ ظلَّ لسنواتٍ طويلةٍ مجّاناً فلبينا لكم ذلك..ثم طالبتم بزيادةِ هذهِ المرتبات واستلمنا منكم بالأمسِ لائحة بهذا الخصوص بحجةِ أنها لا تتناسب مع جهودكم التي تبذلونها في خدمتنا مع أنكم لستم موظفين عندنا فهذا جزءٌ من واجبكم تجاهنا ووعدناكم أننا بصددِ دراستها وها أنتم اليوم تواصلونَ اعتصامكم اللامشروع و تطالبونَ بإسقاطنا !أفيقوا أيها السادة فنحن الشعب..نذكّركم إنْ نسيتم أنكم أقسمتم على أنْ تكونوا خَدَماً لنا قبل تكليفكم بمهامكم هذهِ.. اعلموا أنَّ مطالبكم هذهِ باطلة ومخالفة صارخة لِما نصَّ عليهِ الدستور الذي كتبهُ الشعبُ ووقّعتم أنتم عليهِ وهو انتهاكٌ سافرٌ لمكتسباتهِ منذ انتهاء عهد دكتاتورية الحُكّام وابتداء عهد حرية الشعب والا بماذا تفسرون مثلا طلبكم حقَّ الانضمام إلى مجلسنا.. مجلس الشعب أو مشاركتنا القرار في سلطات الدولة أو المطالبة بزيادةِ حُرياتكم وغير ذلك، غير أنْ تكونَ وقاحة يُشمُّ منها بوادر ثورة حكومية سافرة أو عصيانٍ حكوميٍّ شامل) هتفَ الزعيمُ مُقاطعاً الرجل:النظام يريد إسقاط الشعب فتبِعهُ في ذلك جميعُ أعضاءِ الحكومةِ والوزراء كأنهم شمّوا من الشعبِ رائحة تسويفٍ شبِعوا منه طويلاً...فغضِبَ الشعبُ كلهُ وما هي إلا لحظاتٍ حتى اقتحموا المظاهرة وانهالوا عليهم بالضربِ والتنكيلِ وأغرقوهم في أنهارٍ من الدماء...حقيقة هالني ما رأيت.. كان الشعور بالظلم يُمزقُ فؤادي والدماءُ تغلي في عروقي..أشفقتُ عليهم وتعاطفتُ معهم وآمنتُ بقضيتهم حتى أنني دعوتُ لهم في سِري بالنصر على الظلم الذي يُذيقهُ لهم شعبهم.. لكنني حينما لم أجدْ من يُناصرهم إلا الله.. شمَّرتُ عن ساعديَّ وقلتُ بِئسَ البلادُ هذه! الشعبُ فيهِ ظالمٌ وحُكّامهُ مظلومون واللهِ لا أرضى بهذا الظلم أبداً.. لأنصرنهم على عدوهم حتى لو كلفني هذا الأمر حياتي... ولجتُ مُسرعاً وسط المظاهرة أردِدُ معهم ما يرددون فانتبهَ الشعبُ لي... ميّزوني من بينهم كمعزةٍ سوداءَ وسطَ قطيعِ شياهٍ بيض... دخلوا بسرعةٍ وأخرجوني سَحلاً وانهالوا عليَّ ضرباً وشتماً.. سالتْ دمائي من كلِّ مكان وصرختُ من الألم لكنني بقيتُ أهتف: النظام يريد إسقاط الشعب... فصحوتُ من نومي فزِعاً وفمي ما زال يُردِدُ ذلك الهتاف.. صحوتُ ولا أدري حتى الآن أين ومتى وكيف أخطأتُ الطريقَ نحو حُلمي الذي لقنتُهُ نفسي قبل النوم... ربما بالغتُ في تفاؤلي كثيراً.. لكنني لعنتُ الظلمَ وأهلهُ ولعنتُ شيطاناً وسوسَ لي بما صنعت وأقسمتُ ألا أعود لمثلها.. وقررتُ من تلكَ الساعةِ أن أبقى ما حييتُ على التلِّ مُتفرجاً وقلتُ... ظلمٌ أعرفهُ في يقظتي خيرٌ من عدلٍ كهذا لا أراهُ الاّ في الأحلام!
صحوتُ من حُلمي أخيراً ويا ليتني لم أصح أبداً!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى