سعدي عباس العبد - أبي في خرابة الأخير..

لم يكن أبي آخر " الحروب" التي نحتت جسدي بأزميل الفقر والصفعات والشتائم، فمسني الضر، من أول يوم رأيته فيه، بيد أني لا أتذكر، متى رأيته أول مرة؟ فقد كان بيني وبين ذاك اليوم الموغل في البعد مديات غامضة من ضباب كثيف! ولكني كنت أتذكر، الأماسي كلها التي اعقبت ذلك النهار الموحش.. فكان يجب عليً أن أمد يدي جسراً، لعبور أبي! أبي الذي ادركته الشيخوخة في وقت مبكر، رغم الخسائر التي تكبدتها طفولتي خلال حربه المديدة التي سوًدت أيامي، غير أني لما رأيته يتوكأ في خريفه الأخير على ظهره أو قوسه المصنوع من رماد السنين، صرت له عصا، وجداراً يتكئ اليه وجمالاً يسند اليه ذكرياته الأخيرة، وخطى يمشي بها.. لا أدري كيف نسيت كل ماحدث، كانت دمعة واحدة فقط تنفسح من عينيه كفيلة بإمحاء قارة من السوء!! السوء الذي أفعم ايامي برائحة من الأسى القوي.. فجعل نهارتي قاتمة تعرش في مفاصلها الفضائح التي نمت في أول الخراب، في شفاه نساء الجيران، اللواتي كن بلا حقنني بهمسهن المتشفي الفاتر الهاب مع الريح، وبعيونهن اللاذعة المشعة بالكراهية، فتأخذني سنة من العذاب تزيدني تماسكاً وأنا عند اعتاب "9" سنوات العمر الذي " طلق" فيه أبي امي المصنوعة من أجود عطور الامهات، كان الحنان يسيل غزيراً من ملمس يدها ويفيض قوياً من لمسة ثغرها، ينهمر كالشلال شديد الروعة، من شفتيها، الملمومتين على آلاف القبلات التي طبعتها بتعاقب الايام على خديَ.. كان ابي فظاً غليظاً، لم " يعش" حياة قاسية، ورث عن أبيه ثروة طائلة، بددها على موائد النساء اللاتي لحسن عقله بالسنتهن المعسولة، ظل متبرماً على الدوام، رغم الثراء الذي كان ينعم به.. فقد كان شحيحاً معي! حتى في الكلام، كأنه لايرغب ان يراني وارشا او كانه يراني ميتاً! او غير مرغوب فيه، انا من انبي لم أكترث ميتاً، او غير مرغوب فيه انا من جانبي لم اكترث لما يبديه من جفاء وصدود وقسوة، وكأني نسيت أي معنى لوجودي، ولكن ما كان يدهشني أن " الويل" لا لشيء.. سوى اني ابن ضرتها التي تزوجت في ظروف غامضة.. كأن هذا الأمر كان سبباً كافياً لأن تسود ايامي وتصطاد هفواتي البريئة في شبكة من المكر.. فلا أعرف ماذا أفعل ازاء هرها لي باستمرار، فأبي لايرغب أن يراني نداً او خصماً مشاكساً وهي لا تمسك عن التدفق بالكلام البذيء ولاتكف عن التهكم الموجع الذي الحق بي الضرر، فتقامت مكابداتي، وبت لا أملك سوى ان أبقى خائفاً وأزداد رعباً كلما اراها ترفل بثوبها الأحمر الطويل في الممشى المفضي الى صديقة المنزل، حيث كنت قابعاً، مشغولاً بما يحدث لي على يدها المكبلة بالاعر.. وافكر بأمي التي باتت جدا بعيدة وأبي الذي لم أعد اراه الا لماما، فلم يبق لدي، سوى ان التف بحبال طويلة من العزلة، أجتر الذكريات، الخيط، الوحيد الذي بقي يصلني بطيف امي، أو المنفذ الاثير الذي اطل عبره على مرافئ من الحنان الغارب، الذي تلاشى في مهب السنين، كنت أقضي اوقات مريرة في التقاط صور الماضي عبر ذاكرتي النابضة بطيف امي والتي لم يشغل حيزها سوى حنانها المدهش، المليء كل ماهو جميل بكل ما لن انساه، كانت خليطاً مذهلاً من أِواق ودموع وندم وخوف ومسرات شحيحة وأهواء ومشهقات وأنين، كم تقت اليها.. لتملأ بريتي المقفرة او عزلتي، بكلام المساءات المتكئ على بياض قلبها، ما زال صوتها ينمو في شهقة الليل الحزين وفي العشب المفروش تحت اغفاءاتي المضطربة، وفي الخراب الذي شاع عقب احتفائها، فأربك " حياتي " الحافلة بصور الماضي المتعاقبة.. الماضي الذي هو أمي في اساها القوي.. الشقراء كالقمح تخفق في الريح والتموجات التي تتدفق من صوتي المفعم برائحة الألم والغصات التي تؤول غالباً الى نحيب، يظل يسيل على شفتي نهاراً كاملاً، فاخالني كما لو أني خرجت الى الدنيا باكياً بقوة، فأمضي بشهيقتي وجهشاتي.. وأنا أرى الى يد أبي المتيبسة التي جفت رطوبتها من شدة القسوة تهوي ثقيلة على وجه امي الممصوص، الذي نشفت رياح الأسى نضارته، كنت أبحلق مندهشاً لليد المدربة التي بددت اجمل السنين وأثراها واينعها من عمر امي الذي نما في المكان الخطأ، فتراكم " الشيب" والقهر وراح يشاعل بضراوة في القلب الغض، ويتناسل مروعاً، كأنه كان ينمو في سائر الجهات القاتمة التي تلتفت على اعاقها، فلم يعد هناك أيما منفذ للانعتاق من عبودية دامت أحزان تترى! سوى نافذة " الانفصال" فأطلت عبرها بكامل انكساراتها ونهاؤاتها المعفرة باوحال الشتائم والصفعات، فخرجت ذات خريف، فائض عن الفصول!! منكسرة، شقية، تقودها قدماها الى قيامتها الجديدة ّ اذكر أني لبثت يوماً او بعض يوم، ميتاً ابحث عبر موتي، عن ملامح قيامتي او عن امرأة كانت أمي ذات سنين "9" وسنين اخرى عجاف قادمات في الطريق، يلوحن بأيام اشد سواداً او قحطاً.. لن تنبت فيها سنابل الحنان.. ولا أدري متى افقت من موتي!! على بوق تنفخ فيه أمرأة ولا أدري متى افقت من موتي؟ على بوق تنفخ فيه امرأة فتخرج ريح مهولة.. فأصحو مذعوراً وأنا اأجري في الحوش الذي خلته القيامة التي ضاقت بي! فوجدتني اقف مسمراً مرعوباً قبالة امرأة أبي التي خلتها في بادئ الامر او في اول موتي " ملك الموت" فسألتني عن سنواتي الـ "9" اين امضيتها؟ وعن عدد النساء اللواتي عاشرتهن، فأصابني الذهول، فأنا ما زلت طفلاً فشعرت لأول مرة بعمق المسافة المريعة التي تفصلني عنها فأيقنت بأنها سوف تؤثث " عمري " بالخيبات" وتتوجه بأحزان اكثر هولا.. تلتمع على طبق من الأخطاء المشعة بالوضوح! لم يمر وقت طويل على عذاباتي معها، حتى وجدتني التحف شتائي في غرفة رطبة، كانت مخزناً للأسمال، أغفو على وسادة من البرد وانتظر حالما، لعل أمي تطل علي ذات زمهرير، وأشكو اليها وأنا انعم بالدفء المشع من عينيها، كنت امضي ساعات طويلة لاذعة، تجمد البرد في العظام، فأجدني احلم بليالي الصيف، أذكر مرة لما بلغ البرد أشده وجعلت الريح تعصف بالنافذة، نهضت، ورحت انسل خلسة خارج الحجرة، ابحث عن اي دثار يقيني من البرد، قبل ان ادلف احدى الغرف، تسمرت في مكاني، وانا انصت لمجرى من فحيح قوي يخف في الريح الباردة فتملكني الاضطراب كان الهواء ما زال يهب من منافذ غامضة لما الصقت وجهي بحافة النافذة وجعلت اتطلع..
فاراعني ما رأيت كانت امرأة ابي كتلة لحمية نابضة بارتجاجات فاترة تتلوى وهي مفروشة تحت بدن ابي النحاسي، المكوم فوقها، بكامل صهلية وذراعيه الملتفتين حول رقبتها التي بدت عبر ال؟؟ التي اتاحها انزياح ذراع ابي شديدة اللمعان للغاية في الضوء المندلق من المصباح فأشتد خفقان قلبي، وأنا المح ذراعها الممتلئة تمتد عبر النور المنهمر بقوة وكثافة وعبر العري الملتحم، الضاغط، لتطوق رأس أبي المغمور بحزم مضيئة من شعرها الاثيث المنفسخ على الوسادة.. فأصابتني الدهشة وانكفئت مذعوراً للوراء..
ووجدتني اجري خائفاً في الريح الباردة، ابحث في الظلام المطبق على فضاء حجرتي عن معطفي الرث.
رغم مرور سنوات قوية حافلة بالمكابدات والنسيان والندم ما زلت أذكر تلك المرأة.. كما ما زلت أتذكر كيف أزاحت نفسها عن طريقة الوعر، المحفوف بالغموض.
فقد دعا ذات خريف ناء، ولم يجدها مفروشة فوق السرير، ولما سألني، ابديت دهشتي، لأني كنت في ذلك الحين الموغل في الشحوب والنسيان، اغط في عزلة مديدة ما زالت ملامحها مطبوعة في ذاكرتي، رغم مرور كل تلك السنوات الثرية بالألم، ولما رأيته يحشد كامل قواه ليصفعني، جريت في الحوش وانا اطلق صراخاً متصلاً متخماً بالفزع وكم كانت دهشتي لاتوصف، عندما فوجئت به يطلق " ضحكات" مخيفة، متصلة تتصاعد صاخبة في فضاء الحوش ومنذ ذلك اوقت لم أعد ارى ابا كما كان متلفعاً بثياب انيقة فقد ال الى خراب مريع.. وتبددت تلك القسوة المريعة وباتت محض ذكريات شاحبة تبرق في ذاكرتي في اوقات متباعدة ولكن ما كان يدهشني هو كيف فوجئت به ذات نهار، يمشي عارياً تماماً كنت في ذلك الوقت قد تسلقت جدار المراهقة عبر عزلة ضعبة اندهشت لما رأيته واقفاً عند باب الحوش الخارجي، عارياً تنضح من جسده المشع في ضو النهار رائحة رجولة ميتة تتلاشى في هواء الشارع الذي ازدحم بمئات العيون المتطلعة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى