حسين علي محمد - عندما تكلم عبد الله الصامت!

قال عبد الله الصامت، المُغني الضرير، وزميلنا في قسم التاريخ، وهو واقف تحت ساعة جامعة القاهرة، التي أصبحت مختلة .. وعقاربها واقفة، وكنا في صباحٍ بارد من يناير الثامنة والستين:
ـ لماذا لا تنصت في مثل هذا الجو البديع يا عبد الصادق إلى أغنية نجاة التي تتهادى إلى آذاننا من شارع بين السرايات المجاور؟!.
أرهفنا آذاننا، أنا وعبد الصادق فلم نسمع شيئاً!
سألتُ الصامت:
ـ نحن لا نسمع شيئاً! .. فماذا تقول الأغنية؟
قال في غير مبالاة:
ـ تغني نجاة الآن قصيدة كامل الشناوي: «لا تكذبي»!
قلتُ وأنا يراودني الضحك، لكني لم أضحك حتى لا يغضب مني، فهو سريع الغضب:
ـ وما علاقة الأغنية بالأستاذ عبد الصادق؟! ..
رد في سرعة:
ـ أردتُ منه أن يسمعها، ويتدبّر معانيها!
...
كان عبد الصادق طالباً في السنة النهائية بقسم اللغة الفارسية، وحبيباً لجميع الطلاب، ويتدخّل لدى الإدارة لحل مشاكلهم، ولهذا انتخبه الطلاب رئيسا لاتحاد طلاب الكلية لدورتين متتاليتين، بينما كان الصامت مطرباً ـ بين أحبابه فقط ـ يُغني أغنيات المقاومة لأولاد الأرض، وأغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، التي تُلاقي هوى منا، نحن الشبان ـ دون العشرين ـ الذين ذبحتنا هزيمة يونيو، وأسالت دماءنا!
قلتُ لعبد الصادق:
ـ لماذا لا ترد .. أو تعلق على دعوته؟
صرخ عبد الصادق، وهو يضرب بقبضته الهواء:
ـ ماذا يهمكم أو يُغضبكمْ من قوله؟ دعوه يتكلم .. هذا المغني البائس .. الذي ليس له مستقبل.
ثم قال بصوت منخفض لا يكاد يسمعه أحد:
ـ «ليس على الأعمى حرج» .. صدق الله العظيم!
ووضع وجهه على الحائط، وأحاطه بذراعيه كمن يُحاول أن ينام، أو يُبعد صوت عبد الله الصامت عن أذنيه!
...
رأيته يُشعل سيجارة معلقةً في فمه، ودخانها يصنع حاجزاً سميكاً بيننا وبينه.
خلف الدخان رأيته يحدث نفسه بكلمات غير مفهومة، وعيناه تبرقان.
قال له زميلنا السمين خيري الجمل وهو من طلاب الانتساب في قسم التاريخ، ويكبرنا بحوالي سبعة أعوام:
ـ سيدنا الفاضل .. نمْ، ولا تُزعج نفسك بالردِّ على أقواله، فإني أراك تحتاجُ للنوم!
وأضاف في سخرية بادية:
ـ يبدو أنك لم تنم منذ عام!
لم يرد عبد الصادق، وكان فمه يمتلئ برغوة كالزبد! .. ونظر إلى عبد الله الصامت متوعداً، بينما السيجارة تسقط من يده المرتعشة.
ضحكتُ مخاطباً خيري الجمل:
ـ ما أجمل النومَ في هذا الطقس البارد! .. أنا أريد أن أنامَ أيضاً! .. ليتني أستطيع!..
قال الصامت:
ـ .. وأين المكان الذي نستطيع أن ننام فيه؟!
أدرتُ وجهي إلى الحائط ..
استغربتُ ما أبصرته من كلمات وجمل مبتورة ونابية، ورسومٍ لأسهمٍ وقلوب متقاطعة.
أدرتُ وجهي إلى زملائي، فأبصرتُ الصامتَ، وهو يبصق على الأرض، ويُغادرنا بصحبة مُرافقه الذي لا يتركه، قائلاً:
ـ إذا نام عبدُ الصادق الكذابُ .. فمن يكتب عنكم التقاريرَ إلى الجهات الأمنية؟


د. حسين علي محمد
الرياض 19/9/2006م


حسين علي محمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى