جمعة اللامي - السقاء الذي لا يزال في حلمه الأبيد

«السيرة العربية لمولانا جلال الدين الهاشمي»
«أنا مُوجِدُنِي فَي أزَلِيَّتي، وَتَوْحِيِدي» (من : «لوح المقالات» ـ شَمسُ ميسان الْبِشِني )
جمعة اللامي
وفدت على ميسان(1) عندما كنت في السابعة عشرة، فأخذت اختلف الى سوقها، لأبيع البطيخ. كانت الناس في حال مَحْلٍ حينها، فزهدت بحرفتي تلك، لأن " البطيخ لأهل البطيخ " ـ كما يقول شريكي شمس الدين، فلم اجد افضل من التحول الى سقاية الناس، بعدما استشرتُ غاوتاما غوبند ـ بينما رائحته للعامة، مثلما كانت السنة نسوة العامة اللاتي يرتدن السوق تردد هذه اللازمة. كما سمعتها من فم إيلياء العاقب شمس الدين، الذي يشاركني اهتمامات لا عدّ، كما لم اسمعها من غيره.
ثم ان الماء كثير ومبذول حول بلدتنا، وهذا من نِعَمِ الله علينا وأَلطافه، فآشتغلت بحمله الى الناس في ساحة البلدة، او اطّوف به على عدد من بيوت العوائل الموسرة. كنت اضع الماء بعد ان انضحه من " كُوْد السَّادة " القريب، في جردلٍ سويته من جلد سخلة جبلية، وأنادي على السابلة : " من يرغب في ماء من بلاد كلها ماء ؟"، فيستجيب اليَّ بعضهم، ويعرض آخرون، بينما كان نفر من االصعاليك والنفّاجة يسخرون من دعواتي، ويقولون للعامة وآل الشيصباني : " هذا رجل ما عنده عقل، فكيف يقوم ببيع الماء وهو غير مسموح به شرعاً ؟ ومن يضمن انه لن ينادي علينا لشراء الهواء، او النار، او الدِّهْلة، في ميسان او في غيرها غداً. وهذا غير مسموح به شرعاً ؟ ".
النوكى يبقون نوكى متحامقين، ولو جلسوا على كرسيّ الإمارة. وهكذا هُمُ كلماتهم، فالبشريُّ لسانه.أنا لا ابيع الماء، وإنما اسقي الخلق.
قال لي شريكي :
ـ " ستجد رزقك في كوخك، يا شمس ميسان".
لم اكترث لهؤلاء المهرجين والنفافجة والحمقى، (حسب سُلَّم الطبقات والفئات الذي وضعه أمير سيفستان هَفاف بن تولون الشيصباني، للمجتمع الميساني. وهذا سُلَّم متطور، ورثه هفاف عن كبير اجداده الممعروف بإسم " زَلْنَبور الأَعْوَر ")، ولكنني شعرت بحسرة عندما اطلقوا عليّ كنية جارحة ذات صباح.
قال كبيرهم الذي علمهم الهَرْج والمَرْج :
ـ " هذا هو طه بن عبدالله ابو البدع".
فسرى ذلك في البلدة، سريان النار في هشيم تذروه رياح شرقية ذات يوم صيفي. وأخذ الصبية، وحذا حذوهم صغار العقول، ينادون عليَّ : " طه، يا طه يا بُو البِدَعْ ".(( حاشية من الكاتب : " كبيرهم الذي علمهم الهَرْج والمَرْج، هو "إبن الخاركي"، الذي لا يَبزّهُ في نفاجته الاّ "محفوظ النقاش" الذي اورد حكاياته " الجاحظ" في كتاب "البخلاء". وعندما سخر مني ابن الخاركي بقوله "أُدعُ ربك ليأتي بالشمس من المغرب الى المشرق، إن كنت من الصادقين، لم اكترث لسخريته، وفساد قوله ))....
... ولم اكترث لهذه الكنية ايضا، لأني اخترت ان اجعل من الالم نقطة أعرج منها الى فهم وتجاوز، كثير من الحالات المؤلمة والصعبة. وهذا ما املاه عليّ شريكي، في وصية له بعد ان فقدت اي اثر له في اصقاع مدينتنا (2).
قال زارا غوبند شمس الدين ( وهو شمس ميسان، كما ارغب في مناداته)، عندما نادى عليّ للمجيء الى كوخه، عقب إثني عشر شهرا على وصولي الى هذه البلدة ( التي سميتها سيفستان ايضا) : " إسمع مني يا شمسنا. انت في هذه القرية، او في غيرها من القريات والأمصار، ستحيا غريب الروح والبدن، وسوف تتعرض الى سخرية الجمهور وتنفجاتهم، وهذا ما سيجلب لك الماً وحزنا وسعادةً، ويجعل حياتك مرجلاً في وادي" جوهانم" التي تحتها نهرك الذي من الكوثر(3)، فاذا ما اردت ان تعيش في غرفة (4) تتوسط حديقتنا، حوِّل آلامك الى سعادة وشوق الى الأمل ".
ـ "كيف ؟"
قال: " لا تغضب ".
ـ "وماذا غيره ؟"
قال شمس ميسان : " لا تغضب يا شمس شموسنا ".
ـ " وماذا بعده ؟".
قال شمس الدين : " لا تغضب، وآصبر ".
ـ " أصبر؟ ".
قال شمس الشموس " نعم، يا شمس العناصر الأربعة ".
ـ "علمني؟".
قال المعلم:
ـ" الصَّبْرُ صَبْران: صَبْرٌ عَلى نَفْسِكَ، وَصَبْرٌ عَلى مَنْ هُم خَارج نَفْسِكَ وَجَسَدكَ ".
ومع الايام، وتقلبها، وتداولها بين الأنام، جعلت جسدي حديقتي، وقلبي غرفتي، وكوخي كوني بحافاته غير الممنتهية.
وأَوصاني شمس الدين،.. قال : " اوصاني المعلم شمس ميسان، قال : " إلزمْ بيتك بُعيد مغيب الشمس، وراجع نفسك، بُعَيدَ كسرات خبز العشاء، عن كل كلمة نطق بها لسانك، وكل عمل قامت به جوارحك، وأي فكرة ابقيتها في سريرتك، ودوِّن ذلك تدوينا، إنَّ الخَطَّ كان مَحمودا ".
قلت : " معاً على السمع والطاعة".
ثم أخذت الوذ في كوخي عقب غلبة الخيط الأسود على اخيه الخيط الأبيض، بعد ان أجد اداماً وكسرات خبز من دخن في بطن جردلي، ثم ابدأ بتلاوة أورادي وأحزابي وأدعيتي وألواحي ومزاميري وآياتي، حتى أصل الى شاطيء الرضا، فتنقلني سفينة الرحمة الى عالمي اللاّمحدود.
وفي ذلك العالم، تعرفت اكثر فاكثر على هَفَاف بن تُولُون، بأسمائه التي لا يعرفها غيري، وبصفاته الخمس (5)، بينما كنت أشاهد جسدي خفيفا وشفيفا، وأرى ميلاد نجوم جديدة، وأشهد على موت الكواكب الهرمة، وفوران التنانير في عوالم بعيدة او مجهولة لدى عوالم الكائنات، حتى راقني هذا البرزخ، فداومت على تمرينات ومجاهدات، كان المعلم شمس الدين، يزقها في قلبي، كما تزق الحمامة الحب لفراخها.
قال المعلم شمس الدين :" سيرى الناس دمك ينساب في عروق جسدك".

ولقد وجدت نفسي تحصنت في ليلي الطويل الطويل، وانا احمل جردل الماء من الترعة الى بيوت البلدة، حتى حاول ذلك المخلوق الذي سوف اشير اليه بإسم:مَيطَرون... إقتحام صمت عزلتي، فطرق باب كوخي، وقال :
ـ " يا طه، يا من تسمي نفسك : العاقب شمس الدين : انا حَيْزَبُ الأجْدَعُ ".
قلت له : " انت تريد مناظرتي ؟".
ـ نعم
قلت له : " في اي مسألة ؟".
ـ ربك.
قلت : " الباب مفتوح ".
رايت حَيزَب يتوسط كوخنا، كأنه هبط علينا من علو شاهق، فتبسم المعلم شمس الدين، وقال " هو لك، يا روحي ".
سالت الاجدع :" قلت : نفسي ؟".
ـ " سمّهِ ما شئت، نعم. ولكن صفه ؟".
قلت : " حُبٌّ احَدٌ، أحَدٌ حُبٌ ".
ـ " وبعد ؟".
قلت : " حبٌ صَمَدٌ، حُبٌ لم يَلِدْ وَلَمْ يُوَلْد، حُبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدْ ".
انطلقت صرخة غاضبة من حَيْزَب الاجدع، فرايت سقف الكوخ يتطاير في الفضاء الشاسع، ثم قال :
ـ " وبعد، يا ابا البدع ؟".
قلت : " حُبُّ الرحمنُ، الرحيمُ،
حُبُّ ملكُ الزمن ويوم الدين،
حُبُّ الذي ليس كمثله شيء، بينما هو يُدركُ كلَّ شيء، ولا يُدركهُ ايّ شَيء،
حُبُّ الذي إحْتَجَبَ بذاتهِ عن مخلوقاتهِ، وتَجلَّى لهم بصفاتهِ
، حُبُّ الذي ارسلني الى هذه البلدة المارق اميرها لأسقيهم ماءً، وابارز رئيس مجلس علمائها الظالم لعباد الله ".
علا صراخ الأجدع، :
ـ " وهل رايت ربك ؟".
ـ يا اجدع، حبيبي تحت جبتي.
اطلق الزائر المهزوم صرخة عظيمة ترددت في الآفاق التي يراها البشريون، ثم إنفجر جسده في فضاء الكوخ، فقال شريكي :
ـ يا شمس ميسان، تجاوزت الإختبار.
قلت : " ايها المعلم.. وماذ بعد هذا؟".
ـ انظر الى عروق كفَّيك.
ورأيت دمي ينساب في عروق كفيَّ، فقلت :" زدني".
ـ أعلنِ حكايتك امام الناس، عند ميدان البلدة، عندما يؤذن المؤذن لصلاة الظهر.
ثم استدرك المعلم : " عليك ان تحمل زقّاً من خمر، وتنادي: "من يشاركني كأساً من خمرتي التي ليس كمثلها خمرة؟ ".
ـ ايها المعلم ؟.
قال شمس الدين :" هكذا يا طه، صدقك الناس اول الأمر بالإتباع والتقليد. امّا ما بعد يوم غد، فَسَتَشْخَل الناسَ، كما تمخض الزبدة من اللبن".

1 ـ يوم في عام الماموث/ مولد شمس الزمان
واقفاً في وسط الساحة، اطلقت نشيدي...
((... ورأَيتني أخرجُ من سمانة قدم امي اليمنى، كما يخرج النهار من الليل. كان عبدالله في طَرشَةٍ بعيدة عن بيت امي، وشاهدته يُقتل بين بيت ايلياء وبكَّة. قتله بدو وأعراب ارادوا سرقة راحلته ومتاعه : " كمن الأعراب خلف أجمة، قرب بئر. كانوا اربعة رجال من قبيلة شيصبان "، وعندما نصب خادمه خيمته الى جذع شجرة سدر قريبة من البئر، هجع عبدالله قبيل منتصف الليل، ثم إنخرط في رؤيا ـ رآني اسقط من سمانة ساق امي اليمنى، فنادى عليَّ : "اهلا بك يا طه، وشمس ميسان". وبعد ذلك رأيت واقعة الغدر به. كان عبدالله لا يزال في رؤياه، عندما هجم علبه الأعراب الأربعة، فجلس احدهم عند ساقيه، بينما امسك اثنان منهم بيديه. اما الرابع، الذي سيعرف ب " الشيصباني"، بعد قرون جنوبي بابل وشمالي مبسان، فقد شق صدره بخنجر مسموم، وإستأصل قلبه،وأخذ يلوكه بين اسنانه، ثم بصقه على الارض، بينما كان دم القلب يعفر صدر عبدالله، الذي بزغت منه شمس حمراء.
كان والدي يحدس ان شمساً جديدة ستشرق على بلاد بابل، فتبع الهاتف الذي كان يهمس في فؤاده : " هل تريد رؤية شمس الدين؟ ". وكان عبد الله لا يعرف الا قليلا عن حبيبي الفاتن الذي إدخرني له، بين مصرعه وطلق امي. قالت امي :" إلتجأْت الى نخلتي، فهبطتَ من سمّانة ساقي اليمنى كما يخرج النهار من الليل، وقلت لي : "يا زهراء، دعيني أواجه حبيبي في هذه الساعة "، فهبط الملاك ذو الأجنحة الإثنتي عشرة، وشق صدري، واخرج قلبي، وآنتزع علقة منه، ثم قال لي : " إقرأ يا شمس ميسان ". فقلت " كيف اقرأ وما انا بكاتب ؟ ". قال طاووس الأنوار : " يقول لك حبيبك : انت قاريء "، ثم خلاّني لأمي المرتبكة وهي تنادي عليَّ " ماذا اسميك ؟ ". قلت " هُوْ سَمّاني طه، والمعلم، وشمس الدين،........و "هُوْ".
ثم ارسلت صوتي الى الوجود.))...
... ورأيتني استمع الى صوتي، بينما كنت اقف عند الساق اليمنى من كُرسيِّ :
" إنني ثَمِلٌ اليوم، ثَمِلٌ بحيث لا استطيع ان أُميِّز بين النصر والفيروز".
"إن كل طريق بلزمه مرشد يقظ، وفي هذا الطريق لا دليل الاّ المجنون".
"فإذا كان ذلك المجنون حيّاًً قُل له : تعال اليَّ وتعلم منِّي الجُنونَ النّادرَ".
"وإذا اردتَ ان تُصبحَ مَجنوناً، فَطرِّز صُورةً تُشبهني عَلى ثَوبكَ".
كان زقّ الخمرة ملتصقاً بصدري، وأنا اتقدم نحو ساحة البلدة التي اعرفها، ويعرفني ناسها، معلنا امام السابلة :
ـ تعال ايها الحبيب : " ضع يدك على قلبي.. ولا تسل عن هَمِّ الحبيب، وآنظر في عينيَّ ولا تسل عن الخمرة والكأس ".
2 ـ يَومٌ في شَهر رَجَبِ المُرَجَّب
كنت قد غادرت كوخي، وحيدا الاّ من زق الخمرة، وكلما مررت على شجيرة او حائط او كوز ماء او كانون نار، كان يقول لي : "السلام عليك يا شمس ميسان"، والناس خلفي وبين يدي، وعن يميني وعن شمالي عزين.
كان ذلك في اليوم السابع من شهر رجب المُرَجَّب، حيث رأيت المشهد الذي اختصني به حبيبي، في رؤية صاحبي ايلياء يعرج الى السموات، منطلقا من صليب الخشب الذي جرى بناؤه على عجل في تلك الليلة التي سميت "ليلة الشيصباني".لكن ماجعلني اشعر بحلاوة السُّكْر، ليس الخمرة التي في الزق، وانما رؤيتي لشريكي غاوتاما غوبند يقف بجواري، وهو يقول لي : "يا شمس ميسان والدين، اني ابايعك أُمَّةً على كل الأُمم".
ـ مدّ يدك يا شمس الوجود.
صافحني شمس الوجود بكفه اليمنى، فرأيت وجهي في وجهه، وكفي اليمنى في كفه اليمنى،وجسدي كله في جسده كله. صرنا واحدا في واحد.
قال شريكي :
ـ" انت الجزيء الذي لا يتجزأ".
ـ وانت ؟
ـ انت.
ثم رأيتني اخاطب الناس :
" ايها الناس...
لا سُكْري يَضيقُ بِيْ.
ولا ضَجري،
يختارُ هجراني.
لا نُوري،
لا دَلالي،.. يفارقني.
وأكواني،
لا تَسْطيعُ نِسياني.
وحَدْي،
حيثُ لا أحدَ سواي،
في كلِّ أزماني،
أُهاجعُ مَللي،
لينساني.
فتعالَ إليَّ، يا خَمْرتي ومائي
نذوبُ
في الكأْسِ
كأْسِي الأرضُ،.
وها أنا، حيثُ لا أَحَدَ
قبلي، أو بعدي،
وردة فوق عرشي
يا عَرْشي ومائي
أحْلُمُ بِي،
كما يحلم
الخمرَ بالماءِ.."
...، ثم رايتني ارى إِيّاي في إِيّاي، والناس بين مفزوع وساخر وحائر ومصدق، وأنا لا ازال اكلم الناس بنواياهم، ويكلمني الرُّضَّعُ وهم في مهودهم، او عند صدور امهاتهم، فكان ذلك يزيد الناس خوفا وهلعا وحيرة وتصديقا.
وما زاد في هذه الحالة المربكة، ان سباعا لا قبل للناس بها، اخذت تظهر في الساحة، وطيورا من غير اجنحة حطت عند مركزها، ومطايا من حديد وخشب توقفت هناك، وكائنات على اشكال ثيران وجواميس وأسود وسباع بأجنحة، وزواحف ودواب بارجل كثيرة، اندفعت نحو الساحة من داخل الارض او هبطت من اعالي السموات، واخذت تتقدم نحوي، تتشمم قدميَّ، او تطلب بألسنة لا قبل للناس بها، تسألني رشفات من خمرتي.
سمعت بازا تتحدث الى ابناء عشيرتها :
ـ" من هذا المتكبر علينا. أَيْ وسري، لسوف أمتحنه في أمر نفسه.
فقلت مخاطبا تلك الباز :
ـ " إسمع يا ابا الأشعث.. يصفك الآدميون بأنك "من أشد الطيور تكبراً، وأضيقها خلقاً، وانت البازي، والباشق والشاهين، والبيدق، والحدأة، والصقر. حارة المزاج، لا تصبرين على عطش ".
بهتت الباز، وخاطبتني :
ـ" وما ادراك في شاني هذا، المصموت عنه ابدا لغيري ؟ ".
ـ وهل احدثك في شان احد احفادك، مع تلك البالة البحرية ؟
خَرَّت الباز ساجدة عند قدمي،، بينما تجمعت امم المخلوقات الطائرة والدابة والمركوبة، الناطقة والخرساء،لأنها استمعت الى كلماتي بلغة كل امة من اممها، حتى حدث هرج ومرج، وذهول وبكاء وعواء، فاقبل هفوف بن تولون، محاطاً بابناء قبيلته، الأحياء منهم والأموات، متبخترا في مشيته، مزهوا باسلحته، لكأن الارض تميل الى الشمال ساعة يضربها بقدمه اليسري، او تتجه الى اليمين عندما يتجه يمبنا.
ناديته " يا هفوف.. جئت تباهلني".
ـ نعم، يا طه.
قلت : " انظر الى جبل السَّرُوط خلفك ".
صار الجبل عهناً منفوشا، عندما تجليت لنوري. فخرّ ساجدا صاغرا، قلت: " وعزتي وجلالي، وإرتفاعي في مكاني، لأجعلنك عبرة لغيرك، ولسوف ترى من مخلوقي الذي يشبهني فيوحدني، فأزكيه ليكون كما انا. ثم تراك مهزوما مدحوراً، وانت تطلب مناظرته".
هرب هفوف، فأرسلت اليه كلماتي :
ـ " انك حيّ حتى يحين اليوم الموعود، حين يقتلك احد تجلياتي، فيعم السلام ارضوني وسماواتي، بعد ان يملأهما احفادك ظلما وجورا" .
3 ـ اليقظة السكرى
إنَّ سرَّ العقل يبدو في الجنون
انا حولتَ طيني الى جوهر
ومن غباري شيدت الأكوان.

اشرقتُ بنجمي عليَ
فصارت كل الشموس غباري في راحتي اليمنى
هذا هو ديني، يا شمس ميسان
فآنصت للناي يتلو حكايتي
والآن..
ليس في ملكي غيري
بعدما شاءت قدرتي
انا شمس ميسان،
المعلم،
وطه،
وأقنعتي التي عددها لامنتهاي.
***
***
اخذ السكان ينفضون من حولي، واحدا بعد الآخر، وكردوسا بعد كردوس، فلم يبق معي في ساحة البلدة، الا شمس الدين، وشمس ميسان، وطه السقاء، وانا.
ثم رأيتني اشبهني.


هوامش
1 ـ : ميسان فُصٌ من عقدعدد حباته اثنتي عشرة يحيط بأليشن. والراوي هو المواطن اليشني : "ع ـ التستري" كما يعرف القراء النابهون، وهوالذي تعرض الى عمليات قتل متعددة، ثم كان ينهض من رماده خلقاً جديداً، كما ينهض الخمر من العنب.
2 ـ : بعد سنتين على لقائنا انا وشريكي، كنا نجلس داخل كوخنا، نتناول كسرات من اقراص دخننا.
قال لي شمس الدين :" يا شمس ميسان وهُوْ : " لا يعرف القوم ما بين يَحْيى وعِيسَى. لقد إكتملت رسالتي اليوم، ورضيت بك".
قلت :" انت جنتي".
ثم نظر في عينيَّ فرأيتني اعرج الى السموات، متجاوزاً "رقيع"، ماراً ب " قيدوم " و " ماروم"، حتى إرتقيت دُرَّتي "العجماء"، بينما سمعت جلبة عند باب كوخنا، وصوت ينادي عليَّ " يا طه ابو البدع،أخرج لنا شريكك ؟ ".
خرجت اليهم، فرأيت مسوخا، فرزنت من بينهم صوت عزازيل الحارث، وخلفه رهطه المتناسلون، ومنهم الخمسة الكبار في مجلس المدينة، وصاحب الشرطة، ورئيس البريد.
قلت :
ـ" يا عزازيل الحارث، انت مرجوم الى يوم دينونتي. فآخرج من كوخنا ".
قال الحارث
ـ " يا شمس ميسان، يالواحد من غير عدد، أنظرني الى يومك، لأَنتقمنَّ من طه شمس الدين، وأَغويَّ صحبه ".
قلت :
ـ " أُخرُج فأنت من المُنظَرين".
ورآني المعلم من داخل حزام الوجود الذي سميته "عروساً"، متفرغاً لنا في ياقوتتنا الخضراء.
***
وعثرت على مجلد من قراطيس كثيرة مكتوب عليها نحو إثنتي عشرة الف ترنيمة، وعلى وجهه الاول هذه النصيحة :
" يا صاحيي ونور عيني : ضعني بين عينيك، وآفضحني عند السوق، حتى يراني الملك والجلاد والمفتي والفقير".
وكتب إليّ ورقة عنوانها (هذا موتي) ورد فيها :
".. في يوم موتي.. عندما يُشَيَّع تابوتي،
لا تظن اني اتألم من اجل هذه الحياة/
فلا تبكِ من اجلي.. ولا تقل : خسارة..خسارة،
فالحياة هي سقوطك في شراب الشيطان الحامض/
وعندما ترى جنازتي.. لا تقل : الفراق.. الفراق..
فالوصال واللقاء لي في ذلك الزمان/
وعندما اودع في قبري لا تقل : الوداع.. الوداع..
فان القبر حجاب على مجمع الجنات/
لقد رايت الغروب.. فآنظر الى الشروق،
فلماذا يكون غياب الشمس والقمر خسارة./
انه يبدو لك غروبا لكنه شروق،
واللحد يبدو سجنا لكنه خلاص الروح./
فايّ حبة غرست في الأرض ولم تنبت،
فلماذا ظنك هذا بحبة الانسان ؟!/
واي دلو أُُدلىَ ولم يخرج ممتلئا، في بئر يوسف،
فلماذا تفرح الروح؟!/
وما دمت قد أغلقت فمك، هنا إفتحه في الطرف الآخر،
فإن صيحات وجدك تكون في جو اللامكان "."
3 ـ وهو الكوثران، كما ورد في "لوح المقالات. نهر من الخمرة التي تجعل المخلوقات النورانية، تليق بالجوس حول كرسيي ". وكان في زق طه السقاء غرفات من خمرة هذا النهر. وهكذا رايت المخلوقات سكارى، رجالا ونساءً، شيوخا وشيباً وشبانا، في ذلك اليوم العظيم. وهو ما أوغر صدر الحارث ورهطه علىَّ وعلى شريكي.
4 ـ قبتنا، حيث الصمت، في ياقوتتنا العجماء".
5 ـ الأول في هؤلاء هو المدعو " أَبليسيوس "، وهو " عزازيل الحارث " عند العرب. ورهطه كثيرون. ومن ابرزهم :
ـ مقلاص : كاتب الإمارة لشؤون الخزانة.
ـ لوقيس : رأس الإمارة لقضايا المعرفة الحسية.
ـ مطراش : كاتب الإمارة للفتن.
ـ مرجوم : اسمه يدل على فعاله.
ـ نازغ : كاتب الإمارة لشؤون الحرب
ـ شيتون : الكاتب المختص بالعسِّ والدسِّ.

*ـــــــ*
لوح المقالات : مخطوط محجوب حتى يوم الناس.
( الكاتب)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى