محمود اسماعيل - الرشدية نموذج تراثي عقلاني مستنير يمكن في هديه صياغة خطاب ثقافي نهضوي جديد

قد يري البعض ان عنوان هذه الدراسة ينطوي علي مفارقة، اذ كيف يمكن استحضار الماضي في صياغتنا خطابا ثقافيا مستقبليا، ولماذا اخترنا تراث ابن رشد بالذات للاسترشاد به دون غيره؟
قد يبدو هذا الاعتراض منطقيا وفي محله، لكن بامعان النظر نستنتج شكلانية الاعتراض. فالتعويل علي آلية الاحياء ليس بدعا بقدر ما هو حقيقة وفعلا تاريخيا. اذ نعلم ان اوروبا النهضة عملت علي احياء تراثها اليوناني الكلاسيكي ليس فقط لهدم التراث الكنسي ـ القرو ـ وسطوي، بل لاختطاط نهج جديد مؤسس علي التقاليد الليبرالية التي تقدس العقلانية وحرية الرأي واظهار قيمة الفردانية الانسانية علي انقاض الفكر الاقطاعي اللاهوتي الذي اختزل المعرفة في الفنون السبعة الحرة، وكلها تخدم اللاهوت شرحا ونشرا وتكريسا. وفي هذا الصدد كان استحضار ارسطو ـ دون غيره من فلاسفة اليونان ـ وتوظيف فلسفته في هدم الهدم واعادة البناء. ولا تأخذنا الدهشة اذا ما علمنا ان اوروبا عرفت ارسطو من خلال فيلسوفنا ابن رشد بشروحه الضافية المحققة. كما روج رواد الليبرالية الاوروبية للفلسفة الرشدية، فأسسوا الاكاديميات ومراكز البحث لفهم انجازات هذا الفيلسوف المسلم الكبير.
اما السؤال الثاني الخاص باستحضار ابن ارشد الآن، دون غيره من فلاسفة الاسلام، برغم مرور فلسفته كسحابة صيف عابرة في فضاء العالم الاسلامي، سواء في عصره او ما لحقه من عصور، وبرغم محنته واحراق الكثير من مؤلفاته، فذلك موضوع دراستنا.
لكننا سنستبق النتائج، فنقول في عجالة لأن ابن رشد آخر فلاسفة الاسلام واعظمهم نتيجة اطلاعه علي تراث السابقين من فلاسفة اليونان والمشائين المسلمين، هذا بالاضافة الي احاطته بالتراث الفقهي والكلامي وسائر العلوم النقلية والعقلية، فضلا عن تراث الفرق الاسلامية برمتها، استيعابا وفهما ونقدا. كذا تقديمه نصا فلسفيا عقلانيا متسقا ومتماسكا يميزه عن سابقيه. واخيرا تقديمه اعظم شروح لأعظم فيلسوف ـ ارسطو ـ حتي لقب الشارح الأعظم .
واذا ما شكك البعض في شهادتنا تلك، فعليهم الرجوع الي شهادات كبار الدارسين من العرب وغير العرب، ونكتفي في هذا المقام باثبات بعض الاحكام في تقريظ ابن رشد وفلسفته.
يقول أحد الدارسين ان شروح ابن رشد في حد ذاتها كانت ابداعا لا يعلي عليه، فحسبه تقديمه فلسفة ارسطو ـ لأول مرة ـ خالصة من شوائل شروح الافلاطونية المحدثة. ويري غيره انه فيلسوف الاسلام الاول دون مدافع، بل هو اكثرهم عقلانية ويستحق ان يوصف بأنه فيلسوف العقل ، وبأنه مؤسس منهج التحليل الاكسيومي و رائد حركة الاصلاح الديني ، المعبر عن اديولوجيا التنوير ، وأول فيلسوف مسلم نجح في تقديم نظرية مادية علمية عمقتها رؤية جدلية ازلية، و أول فيلسوف مسلم نجح في تقديم نظرية مادية علمية عمقتها رؤية جدلية اولية ، ونعت آخر مادتيه هذه بالمادية العقلانية .
ومن الغربيين، اعتبره جون جوليفيه ضمن عدد من كبار الفلاسفة العالميين الذين احتلوا مكانة مرموقة في تاريخ الفلسفة. ونعت هنري كوربان فلسفة ابن رشد باتساق منظومتها.
تلك شهادات تزكي اختيارنا ابن رشد، لكنها لا تغني عن برهنة التوجه في الصفحات التالية من الدراسة.
علي ان استحضار ابن رشد لا يعني البتة اجترار فكره وتكراره، كما قد يتصور البعض، بل الاسترشاد بهذا الفكر ـ الذي كان نتاج عصر حافل بالأزمات والمصادرات والاكراهات والتضييق علي الفكر الحر واضطهاد رموزه ـ واستلهامه كنموذج دال ومفيد ونحن نصيغ خطابنا الآني والمستقبلي الذي لا يختلف في جوهره عن عصر ابن رشد، وهو ما سنوضحه بعد قليل.
ومن الانصاف التنويه بأننا لسنا سباقين لهذا التوجه، بل طرحه ثلة من كبار الدارسين للفلسفة الاسلامية، وقفت علي اطروحات ثلاثة منهم، وهم محمد اركون ونايف بللوز وبركات محمد مراد، كما نوه آخرون بذات التوجه، منهم حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري. ومن المفيد تلخيص دعاويهم في هذا الصدد علي النحو التالي.
يري محمد اركون ان ابن رشد لخص وانتقد كل الخطابات الفلسفية السابقة عليه والمعاصرة له في منهج ثري يجمع بين البرهان والمحاجة الجدلية والمجادلة الخطابية والمقولات المنطقية. لذلك، ونظرا لأزمة الفكر العربي المعاصر، فمن الضروري اعادة تحيين فكر ابن رشد من جديد ليكون في مستوي التداول المعاصر.
يكشف محمد اركون عن بعض الاشكالات المعاصرة التي تتطلب توظيف الرشدية في مواجهتها، مثل الموقف الاصولي المتزمت، والخصومة المزعومة بين الدين والعلم، والتصور الخاطئ للغرب عن الاسلام، وحملة الغرب علي الثقافة العربية.
وبرغم احترامنا لأعمال صديقنا محمد اركون، إلا اننا نخالفه في تقويمه لمنهجية ابن رشد، كذا تنبيهاته الفطنة الي اشكاليات الفكر، دونما تقديم حلول لها. واخيرا اقتصاره علي اربع قضايا معاصرة فقط تتطلب العودة لابن رشد، ولسوف نضيف اليها المزيد، في موضعه من الدراسة.
اما عن اطروحة نايف بللوز، فتوسع مجال القضايا المعاصرة بصورة أعم وأشمل، حيث لخصها في مقولة فضفاضة هي اشكالية التخلف . هذا فضلا عن استلهام تجربة ابن رشد من خلال الصراع الفكري في عصره، كذا تجربة فلسفته والموقف منها في اوروبا العصور الوسطي وعصر النهضة، وتوظيف حصاد ذلك كله في معركتنا الراهنة مع الفكر المتزمت في الداخل، والفكر العدواني الغربي في الخارج.
ويتحفظ نايف بللوز علي مفهوم الاحياء فينبه الي انه لا يعني اقتباس الرشدية واعتمادها مفتاحا سحريا لحل مشكلات الواقع والفكر العربي المعاصر، بل يكتفي بعقد حوار معها يغني حاضرنا ويرشد عملية رسمنا لمبادئ العمل والمواجهة والتغيير والنهوض . ويؤكد من جانبه علي جدوي هذا التوظيف علي اساس ان عصر ابن رشد لا يزال ممتدا ـ باشكالياته الي الوقت الحاضر. ومن ثم يري ضرورة العودة الي خطابه الآن ومن اجل اصلاح ثقافي اجتماعي منشود.
واذا انتقدنا اركون في تضييق مجال الافادة من ابن رشد، نأخذ علي بللوز توسيع هذا المجال ليشمل كل قضايا التخلف تارة، وتضييقه تارة اخري ليقتصر علي الاصلاح الاجتماعي والثقافي. وبرغم عدم تحديده لأمهات هذه القضايا، نوافقه الرأي حول تشابه ـ ان لم يكن تماثل ـ الزمانيين الرشدي والمعاصر.
اما عن اطروحة الدكتور بركات محمد مراد، فعلي الرغم من تخصيصه كتابا كاملا يحمل عنوان ابن رشد فيلسوفا معاصرا ، الا ان اطروحته لم تتجاوز مقدمة الكتاب، مع تقديرنا لجهده الكبير في انجاز هذا العمل.
وحصاد اطروحته هو ان منهجية ابن رشد النقدية واخذه بالتأويل والعلية، تبرر ضرورة استحضاره لأي مشروع نهضوي في أي زمان وأي مكان. ويري ضرورة توظيف هذه المنهجية لمواجهة النماذج الاصولية المغايرة النصية منها والغيبية.
أما عن مجالات هذا التوظيف، فيعددها في اشكاليات تصادم الحضارات ، والتخلف في مجال التشريع، والحوار مع الآخر، والعلاقة بالفكر الغربي.
وبرغم اتفاقنا مع الباحث حول اهمية منهجية ابن رشد، الا انه قصرها علي بعض آليات المنهج ليس الا، بينما اغفل الكثير من اسهامات ابن رشد في هذا المجال. كما نراجعه في تحديده للقضايا المعاصرة التي تتطلب العودة للرشدية، ففضلا عن اغفاله الكثير منها، لم يحالفه التوفيق في تصنيفها. مثال ذلك ان قضايا تصادم الحضارات و الحوار مع الآخر و العلاقة بالفكر الغربي ما هي الا قضية واحدة، اضاف اليها قضية اخري فقط وهي قضية التشريع .
اشار بعض الدارسين ـ عرضا ـ في دراساتهم لابن رشد الي مغزي احياء فلسفته، دون دعوة صريحة للاحياء. فمنهم من اشار الي جدة واهمية مقاربة ابن رشد بخصوص مسألة العلاقة بين الدين والفلسفة ، باعتبارها مسألة قديمة حديثة في آن. ومنهم من اعتبر فكر ابن رشد بطابعه البرهاني، جديرا بأن يكون فكر نهضة .
ان دعوة هؤلاء المفكرين الكبار والدارسين والأكاديميين ـ وربما وجد غيرهم ممن لم نقف علي اعمالهم ـ لا تنطلق من فراغ، مما يزكي اعادة طرح الدعوة، خصوصا وان من نبهوا الي اهميتها جميعا لم يقدموا الحجج والمبررات التي تدعمها. وهو قصور سنعمل علي تداركه وتجاوزه.
ومن أهم هذه الحجج وتلك المبررات، ما يتعلق بما نراه تشابها ـ ان لم يكن تماثلا ـ بين زمان ابن رشد وزماننا الآني، علي الأقل فيما يتعلق بوحدة الأزمة ، وما تولد عنها من مشكلات لا تتعلق بالفكر وحسب، انما تمتد للواقع الذي افرز هذا الفكر. وتقضي برهنة هذا الحكم مقاربة تاريخ عصر ابن رشد ـ بايجاز شديد ـ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ومقارنته بواقعنا المعاصر في نفس المجالات.
وننبه الي ان التاريخ لا يعيد نفسه ، لكن تماثل الظروف الموضوعية في زمانين متباعدين وفي رقعة جغرافية واحدة، تفضي الي ذات الظواهر التاريخية والي الاشكاليات الناجمة عنها. ولعل مما يدعم هذا القول، ان العالم الاسلامي طوال تاريخه لم يشهد ثورة رأسمالية، الأمر الذي حكم علي المجتمعات العربية بالسكونية وعلي تاريخها بالتباطؤ و الحلزونية مجتمعات كهذه تظل حالمة لذات الاشكاليات دونما حلول. قد تشهد حركات اصلاح، لكنها محكوم عليها بالفشل. عندئذ تميل توجهاته نحو النكوص، ويصبح الماضي سيدا للحاضر ومعوقا للمستقبل. يتحول السلف الي سلف صالح وتكتسي السلفية بحكم التواتر والاستمرارية ـ لبوسا مقدسا.
قد يري البعض ان المجتمعات العربية المعاصرة اخذت طريقها الي الحداثة، لكنها حداثة في الظاهر ليس الا، في القشور دون اللباب. وهي حداثة منقولة و مستوردة ، لا لشيء الا لأن اساسها الاقتصادي ـ الاجتماعي لم ينبع من واقع هذه المجتمعات، بقدر ما فرض عليها وقسرا من لدن الرأسمالية الغربية. لذلك فالنمط السائد في العالم العربي المعاصر رأسمالوي وليس رأسماليا. في ظل هذا النمط تظل الثقافة السلفية كامنة في التفكير وفي الوجدان.

ابن رشد ـ بانوراما

تلك فذلكة نظرية، سنحاول برهنتها تاريخيا من خلال عرض بانورامي سريع لمعالم تاريخ عصر ابن رشد ومقارنته بعالمنا العربي المعاصر.
ولد ابن رشد باشبيلية بالاندلس عام 520هـ، وتوفي في عام 595هـ. أي عاش في القرن السادس الهجري متنقلا بين بلاد المغرب والاندلس في ظل دولة الموحدين. وهي اسرة حكمت المغرب بعد ثورة انبعثت من دعوة توفيقية وحدت بين مذاهب شتي متناقضة، كالأشعرية والاعتزال والظاهرية الحزمية والخارجية والتشيع، بهدف تحقيق مشروع سياسي وحدوي. وبعد نجاح الثورة ـ ضد المرابطين واسقاط دولتهم ـ في المغرب، جري ضم الاندلس عنوة.
اتسم العصر سياسيا بسيطرة اسرة حاكمة تصارع افرادها من اجل الحكم، وارتدوا عن مبادئ الدعوة لصالح فقهاء المذهب المالكي المحافظ. كما غص عصرهم بالانتزاء وتعاظم النزعات الانفصالية والثورات الاجتماعية. وافضي ذلك الي تهديد الاندلس من قبل القوي النصرانية الطامحة الي طرد المسلمين منها وشهد الشرق الاسلامي نفس الظواهر من حيث الصراع بين الكيانات السياسية، مما ادي الي تفاقم الخطر الصليبي في الشام.
ولسنا بحاجة لوصف الاوضاع السياسية في العالم العربي المعاصر اذ تسنمت السلطة حكومات عشائرية ثيوقراطية، او ملكيات وراثية مستبدة، او حكم جمهوري بالاسم ليس الا. ناهيك عن الصراعات العربية ـ العربية، الامر الذي اقضي الي تعاظم الخطر الصهيوني، وتدخل الولايات المتحدة الامريكية عسكريا واحتلالها العراق توطئة لتنفيذ مخطط كامل لاعادة رسم الخريطة السياسية في العالم العربي بعامة.
وعلي الصعيد الاقتصادي، شهد العالم الاسلامي خلال القرن السادس الهجري سيادة نمط الانتاج الاقطاعي المدجج بالقوي العسكرية، وما ترتب علي ذلك من تضعضع قوي الانتاج والتكالب علي حياة الترف والبذخ من قبل السلطة ومن دار في فلكها من قواد الجيش وفقهاء السلطان، بينما عمت الجوائح وتفشت المجاعات وانتشرت الطواعين والاوبئة لتحصد الطبقات الدنيا التي قنعت بحياة الكفاف.
ينطبق الحال ذاته علي معظم الدول العربية المعاصرة التي فرض عليها نظام الخصخصة فرضا من قبل الغرب، واصبح اقتصادها تابعا للمراكز الرأسمالية الغربية. وفشي نمط الاستهلاك الترفي بين العصب الحاكمة والارستقراطية البورجوازية الجديدة، بينما تعاني الشعوب الأمرين من شظف العيش وتكاليف الحياة.
وعلي الصعيد الاجتماعي، شهد عصر ابن رشد تفاقم اخطار النزعات العنصرية والعرقية والطائفية. واختفت الطبقة الوسطي بعد ان صعدت شرائح منها للارستقراطية الحاكمة بفعل وحدة المصالح، بينما هبطت معظم شرائحها الي طبقة العوام. وفشت الامراض الاجتماعية، كالبطالة، وتدهور وضع المرأة، وتعاظم تجارة الرقيق... الي غير ذلك مما تعرض له ابن رشد في مؤلفاته الفقهية.
وفي العالم العربي المعاصر استفحل خطر النزعات العرقية ـ الجزائر، والسودان ـ لبنان ـ المغرب ـ العراق علي سبيل المثال ـ وتخلخل البناء الاجتماعي، تحت تأثير النفط وظهور طبقة جديدة استمدت مكانتها من الاتجار في السلع غير المشروعة وعمالتها للشركات والمؤسسات التجارية والصناعية في الغـــرب. ناهيك عن تفشي الامراض الاجتماعية نتيجة البطالة ومحاكاة تقاليد النمط الغربي الاستهلاكي.
وفي مجال الفكر، شهد عصر ابن رشد انزواء العقلانية لحساب النصية والغيبية والتهويم الصوفي الطرقي بخرافاته وشعوذاته. وجري تحريم العلوم الطبيعية والرياضية والاشتغال بالفلسفة وجرم المشتغلون بها باعتبارهم ملاحدة زنادقة. ودخل الفكر الاسلامي في مجمله عصر الانحطاط علي حد تعبير ابن خلدون.
وفي العالم العربي المعاصر، تعاظم المد الاصولي علي حساب الفكر الليبرالي، وظهرت نخبة من المثقفين المبررين والمنظرين لسياسات الحكام، وفشت الامية والجهالة بين قطاع كبير من المتعلمين. وتدخلت قوي خارجية غربية في صياغة برامج الدراسة بهدف محو الهوية العربية الاسلامية وترويج الذوق الغربي في الاداب والفنون، وغدا المثقف الملتزم محاصرا، فلم يجد مناصا من الهجرة الي الخارج او موالاة الحكام، او الانزواء والانعزال.
تلك صورة مقتضبة عن زمن ابن رشد مقارنا بزمننا، عرضناها في عجالة بهدف تبيان جدوي استحضار الرشدية للاسترشاد بها في ترشيد الخطاب العربي المعاصر.
مقومات الرشدية

لنحاول الآن رصد مقومات الرشدية وانجازاتها، او بالاحري تبيان ما انطوي عليه المشروع الرشدي من حلول لمشكلات عصره، بهدف برهنة امكانية احيائها ومواجهة مشكلات عالمنا العربي المعاصر في هديها.
ولسنا في حالة تقديم منظومة ابن رشد الفلسفية لعدم جدواها في اعادة تمثلها آنيا، اذ تجاوزتها الفلسفة والعلم، واصبح الاهتمام بها قاصرا علي الاوساط الاكاديمية، وما يعنينا هو تبيان منهجية ابن رشد وطرائق تفكيره وموقفه من العلم ومن الدين، ومقومات فلسفته العملية ومدي الافادة من ذلك كله في صياغة خطاب ثقافي عربي جديد.
بخصوص المنهج كان هذا الموضوع شغله الشاغل الي درجة ان معظم مؤلفاته كانت مقالات في المنهج . وبرغم اختلاف الدارسين حول نهجه وعما اذا كان ماديا تاريخيا او تحليليا اكسيوميا او عقلانيا واقعيا او اصوليا نقديا .. الخ، فمن خلال مراجعة جل مؤلفاته نجزم بأنه عول علي مناهج متعددة ومتنوعة ووظف كلا منها في المجال المعرفي المناسب له. فقد استخدم الحس والتجريب والنظر العقلي التأملي، متأثرا في ذلك بأرسطو، كما وظف المناهج الاصولية ـ باعتباره فقهيا وعالما بأصول الفقه ـ في الاستدلال والنقد والتأويل. كما اعتمد النص والسماع بعد قياسه علي العقل والنظر، وصادر علي التقليد والحدس الصوفي. واناط العقل بتقويم المعارف الناجمة عن توظيف تلك المناهج المشار اليه. فكان المنطق معياره في قبولها او رفضها. لذلك حرص علي السببية في التعليل والتفسير والاستنباط في التخريج، واعتبر القياس العقلي اجل انواع القياس فهو الفيصل ـ في نظـره ـ بين الظن واليقين، حتي في المعارف الدينية. يقول في هذا الصدد: اذا تقرر ان الشرع قد اوجب النظر بالعقل في كل الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا اكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، فهذا هو القياس العقلي .
لذلك ندد بمناهج المتكلمين والصوفية والحشوية لانها لم تتخذ طريق البرهان العقلي واذ صدق الوحي، فلأنه ـ في نظره جاء متمما لعلوم العقل واذا ما بدي ثمة تعارض بين الوحي وبين العقل ـ وهو في نظره تعارض ظاهري ـ اناط العقل بآلية التأويل .
ولسنا بحاجة للتعليق علي منهجيته هذه، بل ما احرانا بالتأسي بها في عصر غص بالخرافة والشعوذة، والتحجر والجمود والفقر المنهجي حتي في الاوساط الاكاديمية ذاتها.
يقدم ابن رشد درسا اخر في المعارف التراثية التي اطلع علي مصادرها وتمثلها، وفرزها وتناولها بالنقد، وهو تصور يدعونا لاستيعابه لفض الاشتباك والتخليط الفكري واللجاج في تقويمنا للتراث.
عرض ابن رشد لفكر علماء الكلام، ونعي علي المذهب الاشعري ميوعة موقفه من النقل والعقل، واعتبر معارفه سوفسطائية جدالية فوضوية ومماحكة. وحمل علي الغزالي لذبذبة مواقفه بين الاشعرية والتصوف.
وبرغم انتقاده للمعتزلة الا انه اشاد بعقلانيتهم واخذ ببعض مقولاتهم في السببية والتنزيه والعدل.
كما حمل علي الحشوية لقولهم بالظاهر، برغم قوله هو بالظاهر ايضا، لكن بعد دعمه بالدليل . لذلك عاب عليهم تزمتهم في فهم النص الديني، فاكتفوا بالقشور دون سبر غور اللباب. واعتبرهم لذلك مقصرين عن مقصود الشرع .
اما عن موقفه من الباطينة، فبرغم مآخذه عليهم في التأثر بالافلاطونية المحدثة، الا انه تعاطف مع مذهبهم، دون افصاح واضح. وبرر تقاعسه عن ادانتهم بأن منهجهم ذوقي لا يمكن دحضه بالادلة.
اما عن الفلاسفة المسلمين السابقين عليه والمعاصرين له، فقد تناول الفارابي بنقد خفيف، لانه تأثر بعقلانية ارسطو لكنه اخطأ في فهمه. ومع ذلك تأثر ببعض افكاره في تأسيس نسقه الفلسفي. لكنه حمل حملة شعواء علي ابن سينا، لا لشيء الا لاخذه بالحدس احيانا، ولأخطائه في فهم عقلانية ارسطو احيانا اخري، وبرغم تأثيره بنهج ابن باجه في اعتماده العلم النظري، الا انه حمل علي توحده اي اعتزاله المجتمع وتكريس فلسفته للخلاص الفردي. ولنفس السبب، سكت عن تقويم ابن طفيل ـ الذي سلك مسلك ابن باجه في الانعزال ـ لكنه لم يذكره كثيرا في كتبه، ربما لكونه اعز اصدقائه.

ابن رشد والفكر السائد

كان انتقاد ابن رشد للفكر السائد في عصره، بجميع اتجاهاته وتياراته لازمة قبل ان يصوغ نسقه الفلسفي. ونكتفي ببعض الملاحظات عن هذا النسق لكونها وثيقة الصلة بموضوع الدراسة، وهي:
اولا: تأثره الشديد بأرسطو ـ بعد ان قضي زهرة شبابه في شرحه ـ لا لشيء الا لعقلانيته من ناحية، وتكريس فلسفته لمواجهة مشكلات الواقع من ناحية اخري.
ثانيا: بروز اتجاه مادي واضح في بناء نسقه الفلسفي، عبر عنه في جرأة ـ برغم محاذير عصره ـ وحسبه القول بقدم العالم وازليته.
ثالثا: تمجيده للعقل باعتبار اداة معرفة ناجحة في الوصول الي اليقين وقوله بوحدة العقول الثلاثة، وحكمه بعدم فناء العقل الهيولاني .
رابعا: افادته من معارفه في الطبيعيات ـ خصوصا في الطب والفلك ـ في صياغة منظومته الفلسفية.
خامسا: قوله بوحدة الوجود عن طريق البرهان النظري وليس بواسطة الحدس، كما هو حال المتصوفة.
سادسا: توفيقه في التوفيق بين الشريعة والحكمة او بين الدين والعلم، بما يعطي للعلم قداسته في زمن لفظ فيه العلم واضطهد العلماء.
تلك هي الدروس المستفادة من منظومة ابن رشد الفلسفية. وبرغم اهميتها الا ان الاهم الذي يمكن استحضاره آنيا هو فلسفته العملية، التي تحمل جوهر مشروعه التنويري الاصلاحي المتكامل والمنبثق من واقع معطيات عصره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
ولسوف نعرض لمجمل آرائه التي حاول من خلالها تقديم حلول ناجعة لمشكلات عصره. فالي اي مدي يمكن الافادة منها في مواجهة مشكلاتنا الآنية، ونصيغ في هديها خطابا ثقافيا جديدا؟
معلوم ان ابن رشد لم يفرد مؤلفات بعينها تحمل دعوة مباشرة للاصلاح الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما هو الحال بالنسبة لـ الفارابي . ولم نقف له عن شروح لكتاب السياسة لارسطو، ولم يشر لكتاب الجمهورية لأفلاطون برغم اهميته، وربما حالت المحاذير الدينية والسياسية دون الكتابة في هذا المجال. ومع ذلك نستطيع ان نقف في فلسفته العامة وفي مؤلفاته الفقهية وفي كتبه عن العقيدة علي مقومات مشروع متكامل في الاصلاح.

ابن رشد وعصره

لقد كابد ابن رشد مشكلات عصره واكتوي بنارها رغم قربه من السلطة، اذ ولي القضاء عدة مرات، وكان طبيب السلطان ابي يعقوب المنصور الخاص، ومع ذلك امتحن، وحوكم بتهمة الزندقة والالحاد وافتي الفقهاء بادانته. فما هي مقومات مشروعه الاصلاحي هذا؟ وما هي الحلول التي تضمنها المشروع لمواجهة مشكلات عصره؟
اعتمد مشروعه علي التنوير اساسا، بهدف ترسيخ العقلانية في التفكير، شأنه في ذلك شأن اخوان الصفا، مع الفرق. اذ عول الاخوان علي اصلاح الفرد كأساس لاصلاح المجتمع، بينما حرص ابن رشد علي اصلاح المجتمع اولا، سياسيا ودينيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، مع عدم اغفاله تربية الفرد بتحريره من ويلات الحكام والفقهاء. واعتبر الاخيرين مسؤولين عن تضبيب الوعي وترسيخ نمط التفكير النصي الغيبي، بله الخرافي. ومن هنا تسقط دعاوي البعض عن اهماله فردانية الانسان في مشروعه الاصلاحي.
اما عن آرائه في اصلاح الواقع السياسي، فلم يستطع ـ نتيجة المحاذير الدينية وسطوة السلطة الحاكمة ـ التعبير عنها مباشرة بقدر ما عمد الي الغمز واللمز، منحازا للمعارضة ضد السلطة. لذلك اخطأ من زعم بأنه كان يساند السلطة حين سكت عن تناول موضوع الامامة. فقد المح كثيرا لاهمية تحقيق العدالة الاجتماعية كأساس لما يجب ان تكون عليه سياسة الحكام، ونعي علي حكام عصره تقاعسهم عن تحقيقها. كما نجد الكثير من الاشارات في كتبه الي ضرورة ترشيد السلطة والرعية في آن كشرط لتأسيس مجتمع متكامل. اما عن صمته في الحديث عن الامامة، فتفسيره ـ فيما اري ـ كامن في اخذه بنظرية الشيعة في الحكم في الوقت الذي مالت فيه السلطة الحاكمة الي المذهب الاشعري.
وفي المجال العقيدي، حسم مسألة الصراع التقليدي بين الدين والعلم بأن جعل العلاقة بينهما علاقة تكامل لا تعارض. واستخدم البرهان وسيلة لتحقيق هذا الوئام، فاثبت بالنصوص الدينية حرص الاسلام علي العلم والتعلم، لان النظر والتأمل في المخلوقات يقودان الي معرفة الخالق. كما اثبت بالبرهان ضرورة فهم الدين عن طريق الحكمة، وانتهي الي ان الشريعة والحكمة توأمان، وان حقائق الدين لا تتعارض مع حقائق العلم، فكلاهما يفضيان الي اليقين . واكد ضرورة فهم الدين عن طريق القياس الشرعي وفهم الفلسفة عن طريق القياس العقلي وكلاهما في نظره توأمان ايضا، وبواسطتهما معا يمكن الوصول الي اليقين، الذي هو معرفة المقاصد.
وفي مجال الاقتصاد، انتقد ابن رشد نظام الاقطاع السائد في عصره، لانه يتيح للاقلية امتصاص دماء الاغلبية، كما مجد العمل وربطه بالدين والاخلاق. وحمل علي الفقهاء لاشتغالهم بالسياسة واقتناء الضياع واكتناز المال بطرق غير مشروعة.
وفي مجال الاجتماع، نعي علي ابن باجه و ابن طفيل انعزالهما عن المجتمع وتكريس فكريهما للخلاص الفردي. وحبذ الحياة في مجتمع مدني ـ متأثرا في ذلك بأرسطو ـ يناط افراده بتحقيق رسالة الانسان ـ كما حددها الدين ـ في الاعمال التي تنهض بشؤون العمران. وندد بالطائفية والعنصرية والاقليمية واعتبر الاقاليم التي انتزعها الثوار من الدولة واستقلوا بها مدنا منزلية سريعة البوار . ودعي الي تحرير المرأة لأن قدراتها لا تقل عن قدرات الرجل. كما ندد بتفشي ظاهرة الاسترقاق في عصره بما يتنافي مع تعاليم الشرع وموجبات الاخلاق.
وفي مجال الفكر، ندد بالفقهاء الذين صادروا علي حرية الفكر نتيجة التعصب. كما دعي الي التسامح وعدم الحظر علي الرأي، واعتمد سائر الاتجاهات الفكرية طالما عولت علي البرهان. يقول في هذا الصدد: ان طبائع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالاقاويل الجدلية، ومنهم من يصدق بالاقاويل الخطابية ، وكل ميسر لما خلق له. وقد سبق تبيان مدي تشبثه بالعقلانية واعتقاده في قدرة العقل علي ادراك سائر المعارف، وحملته الضارية علي التهويم الحدسي والتحجر النصي والسمعي. كما دعي الي التزود بالمعارف ايا كان مصدرها، يقول في هذا الصدد يجب علينا ان نستعين علي ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك سواء كان ذلك الغير مشاركا لنا او غير مشارك في الملة. فان الآلة التي تصبح بها التزكية كونها آلة المشارك لنا في الملة او غير مشارك، اذ كان فيها شروط الصحة . لذلك لم يبالغ من ذهبوا الي ان ابن رشد رائد في التنوير .
خلاصة القول، ان فلسفة ابن رشد تقدمية اصلاحية تنويرية، تجاوزت عصرها، ومن ثم لاقت معارضة وعزوفا في الاوساط العربية الاسلامية. بينما تلقفتها اوروبا لتؤسس عليها ـ ضمن مقومات اخري ـ اسباب نهضتها. لذلك يمكن احياؤها والاسترشاد بها في صياغة خطاب اصلاحي نهضوي لمواجهة المشكلات الداخلية المزمنة في العالم العربي المعاصر. كما يمكن الارتكاز عليها في مواجهة الاخر، باعتبارها انموذجا للفكر الاسلامي العقلاني المضبب في اذهان الغربيين. وننوه بأن فلسفة ابن رشد سبق وجري الاستناد اليها في حوار حضاري بين الاسلام والمسيحية واليهودية، اسفر ـ للأسف ـ عن اثراء الفكرين اليهودي والمسيحي، دون الفكر الاسلامي. اذ تعلم ان المفكر اليهودي موسي بن ميمون تشبث بفلسفة ابن رشد، منهجا ومضمونا، واتخذ خطابها التنويري العقلاني اساسا لاحداث ثورة فكرية حررت الفكر التوراتي من التعصب والتحجر والجمود.
كما تلقفنا توماس الاكويني لتحقيق نفس الغاية في هدم اللاهوت الكنسي الغربي الاسطوري وتأسيس فلسفة عقلانية مستنيرة علي انقاضه.
لذلك نري ان الرشدية انموذج تراثي عقلاني مستنير يمكن في هديها صياغة خطاب ثقافي نهضوي جديد، بدلا من التشبث بأنموذجي الغزالي و ابن تيمية اللذين كانا سببا من اسباب ما نعانيه الآن من تخلف وجمود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى