هنرى ميللر- دفاعاً عن حرية القراءة.. تقديم وترجمة:محمد عيد إبراهيم

يعدّ عام1957عاماً أسود بالنسبة للكاتب الأمريكيّ الأشهر (هنري ميللر)، حيث صودر فيه كتابه (سكسوس/ Sexus)، وهو جزء من ثلاثيته الفادحة "الصَلْب الوردي"، ويسرد ميللر في ذلك الكتاب ترجمة لمواقف من حياته، مواقف معراة من كلّ شيء، مع أنه يبثها من نفسه الكثير ومن محصوله المعرفيّ الذائب في النصّ الكثير، ولا يُعدّ الكتاب في النهاية غير مؤلّف باهر ودرس في الكتابة الإبداعية، مهما تخلّلها من مواقف فاضحة وكلمات فادحة، ففي سيرة كلّ منا المثيل من أمور وأحداث ومعتقدات ومرويات تخص أجزاء حميمة من حياته. وقد كتب الروائيّ رداً مبهراً بعث به إلى هيئة المحكمة التي صادرت الكتاب في أوسلو بالنرويج، يدافع فيه عن نفسه بصفته مصنّف الكتاب/ السيرة. كما يتضمّن ردّه الثقافيّ إهانة لكلّ ما يمثّل ديكتاتورية الأدب والحياة بشكل أوسع. فلنقرأ ما قال ميللر، درساً بليغاً كرّره التاريخ، وقد يتكرّر مرات ومرات:

في 10 مايو 1957، طلب المحامي العام في النرويج مصادرة كتاب (سكسوس) من ثلاثية "الصَلب الوردي" (The Rosy Crucifixion) لمؤلفه ذائع الصيت عالمياً، هنري ميللر، بدعوى أنه "أدب مكشوف".
فيما يزيد علي ثمانية أشهر كان الجزء الأول من الطبعة الدانماركية للكتاب متاحاً بالسوق النرويجية، وبيع منه عدد معقول بأغلب المكتبات ذات المكانة. ثم صودرت النسخ كلياً من تسع مكتبات، واتُّخذت الإجراءات ضد اثنين من أصحاب المكتبات اختيرا عشوائياً. أُدين صاحبا المكتبتين يوم 17 يونيو 1958، لعرضهما للبيع علناً أو سعيهما لنشر "أدب مكشوف". ثم استؤنف الحكم بالمحكمة العليا.
يمثل تصرفي هكذا بموقف الدفاع شيئاً من متعتي الخاصة وامتيازاً لشخصي. ومن ناتج اختلاطي الرسميّ بالقضية، حزتُ على قياس شخصيّ معين عبر وسائل التطبيق، مع ذلك المؤلف النابغة دافئ القلب والإنسان الأليف الذكي، هنري ميللر.
وضعت هذا الخطاب (المنتج بالأثر) بنفسي، ما يشكّل جاذبية الغيرة لهنري ميللر، موجهاً إياه إلى مجلس قضاء المحاكم النرويجية العليا، بقصد الدفاع عن برج قلعة الحرية والديمقراطية والإنسانية، دفاعاً عن حرية القراءة:

***

تراجيف هرشت
محامي المحكمة العليا
كاليفورنيا
27 فبراير 1959
السيد تراجيف هرشت،
أوسلو، النرويج.
عزيزي السيد هرشت:
رداً على خطابكم المؤرخ في 19 يناير، حين طلبت مني تصريحاً قد يُستخدم في المحكمة العليا التي ستنعقد خلال مارس أو إبريل هذا العام… وجدت من الصعب التصريح أكثر مما فعلتُ بخطابي السابق المؤرخ في 19 سبتمبر 1957، لدى نظر القضية ضدّ كتابي (سكسوس) بالمحاكم الابتدائية في أوسلو. مع ذلك، أجد بعض التفاعلات التي أثق بشكل كبير في أخذها اقتراحاً بالموضوع.

عند قراءتي قرار محكمة مدينة أوسلو الذي أرسلته منذ شهور، اختلطت مشاعري. اضطررت للضحك مكركراً (مرة للترجمة غير اللائقة، وأساساً لطبيعة وعدد الجزئيات المرصودة) فأنا واثق أن كتابي لن يَضِير أحداً. لقد كنتُ آخذ العالَم على سَجيّته، كما أنظر لمن يضعون القوانين وينفّذونها على ما هم عليه. وقد اعتبرتُ القرار عادلاً وشريفاً كأيّ نظرية للمدعو إقليدس.
ما لم أدركه ولا تشابهَ عليّ، هو ذلك الجهد المبذول من قِبل المحكمة لاستدعاء تفسير باطنيّ من خطاب القانون القاسيّ (وهي مَهَمّة مستحيلة)، لذلك أوضح "لأن القوانين موضوعة للبشر لا البشر هم الموضوعين للقوانين، أرى أن أفراداً بعينهم قد وضعوا القانون، ويمكنهم رؤية الأشياء فقط من خلال عينَيْ القانون".

وقد أعترف إني فشلت في التأثّر بذوي المكانة، المغرورين غالباً والمنافقين، بآراء وردت على ألسنة معلّمين أو متعلمي أدب أو أخصائيي نفسية وطلبة طب إلخ. لكن كيف تمثلت هويتي لدى هؤلاء محدودي البصيرة والخالصين غالباً من الفكاهة، فلمن أوجّه سِهامي مرارا؟
بعد قراءة هذا الأثر المطوّل اليوم، أعي سُخف هذه الإجراءات قاطبةً. (كم كنتُ محظوظا أنهم لم يتّهموني بأنني "شاذ" أو "مفسِد"، بل كمن يجعل الجنس بريئاً ببساطة ودافئ المتعة!) وعادة يسألون لماذا، هل لديه الكثير ليمنحه وهو يطرح هذه المشاعر المقلقة الخلافية المتعلقة بالجنس؟
كي نرد على هذا بالصورة الصحيحة، نرى وجوب عودة كل منا إلى الرحم (مع أو بدون) حلّ رشيد. كل واحد (كاهن، محلّل، محام، قاض) لديه إجابة ذاتية مستعدٌّ لها عادة. لكن لا أحد يتعمّق كفاية، لا أحد يدخل إلى الغور كفاية، لا أحد يحيط كفاية. والإجابة الطقوسية طبعاً: انزع ذرةَ الغبار من عينك أولا!
لو كنتُ في قفص الاتهام، لكانت ردودي مذنب! مذنب في 97 فقرة اتهام! فإلى المشنقة!" وباعتناق وجهة النظر هذه القاصرة، أدرك أني مذنب حتى قبل كتابة الكتاب. بمعنى آخر، فإنني مذنب لأني سلكتُ الطريق إلى ذاتي. وهو شيء كالأعجوبة أن أسير كرجلٍ حرّ. فلابدّ أنني مدان منذ خطوتُ خارجاً من رَحِم أمي.

وطبقاً لقلبي المتنازع عودتي إلى حِضن العائلة وهبت للجميع كتاب "العودة إلى بروكلين"، فقد استنتجت هذه الكلمات وكنت قاصدها، أقصد كل كلمة فيها:
"أنظر إلى الدنيا بجامعها وكأنها بيتي. سُكناي في الأرض، لا أُعَنون إلى بقعة من أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا… ولائي مدينٌ لجنس البشر لا لبلدٍ خاص، فصيلةٍ أو شعب. استجابتي للربّ لا لمؤسسةٍ رئاسية مهما كانت. هنا على الأرض أستخرج قدَري الخاصّ بي. قدَري المرتبط بكلّ مخلوقٍ حيٍّ آخر يقطن هذا الكوكب. ربما أولئك القاطنين كواكب أخرى أيضاً، من يدري؟ أرفض تعريضَ قدَري للخطر بدعوى أن الحياة تتخلّل هذه القوانين الوضعية الضيقة لكي تُطوّقها. أنشقّ عن النظر الشائع للأشياء، أومنُ بالعقل، أومنُ بالدين، أومنُ بالمجتمع، أومنُ بكينونتنا. أحاولُ الحياةَ وفقاً لأشياء سرمدية. أقول: السلام عليكم جميعاً، فإن لم تجدوا هذا السلام فذلك لأنكم لم تبحثوا عنه".

ومن باب الفضول لا التملّص أذكر نقطةً عن ردّ الفعل، فعندما كنتُ قيد قراءة هوميروس مؤخراً. بطلب من "جاليمار" لنشر طبعة جديدة من الأوديسة، كتبتُ مقدمةً صغيرة للعمل. لم أكن قد قرأت الأوديسة من قبل، فقط الإلياذة، وذلك من أشهر خلت. تمنيت أن أقول ذلك كثيراً، انتظرتُ سبعة وستين عاماً لأقرأ هذه الكلاسكيات المقدّرة عالمياً، وقد وجدت الكثير كي أنتقص منها.
عثرتُ في الإلياذة على ما أدعوه "سَكين القصّاب" أكثر مما في الأوديسة. لكني لم أطلب حجبها أو حرقها. وما خِفت منه عند انتهائي منها هو أن أنطّ خارجاً من البيت، فأسٌ في يدي وأقتل مَن أصادفه. قرأ ولدي في التاسعة من عمره الإلياذة (بإصدارٍ للنشء) وقد اعترف لي إنه من جرّاء ذلك "عشق القتل لفترة"، أخبرني إنه تشبّع من هوميروس، بكل ذلك التقتيل وهوس الهراء عن الأرباب.

لكني لم أخف يوماً أن ابني، وهو من صلبي وبالحادية عشرة من عمره الآن، لا يزال قارئاً نهماً لكوميدياتنا البشعة، كما أصبح متشيعاً لوالت ديزني (وهو ما لا يروقُني على الإطلاق)، مهووساً بعالم السينما بشكل ملتهب خاصة "الكاوبوي" التي لم ترعبني قطّ، بل أقول سوف ينضج عن أن يكون قاتلاً (حتى لو استدعوه للجيش!)، بينما كنتُ أُفضّل أن أرى عقله ينحصر باهتمامات أخرى وأبذل جهدي لأمدّه بها، لكنه مثلنا جميعاً: نتاج عصره.

كما أثق أنه لا حاجة بي لتوسيع مجال هذه الأخطار التي نواجهها جميعاً، خاصة شباب العصر. فالتهديد يتنوّع حسب السن ودرجة الأهمية. وإن كان سحراً، إعجاباً أعمى، جذاماً، سرطاناً، فصامَ شخصية، شيوعية، فاشية، أو ماذا، فلابدّ من تأدية المعركة. نادرا ما يُهزم العدو حقاً، فهو على أيّ هيئةٍ قادم. إننا نتحصّن في أحسن الأحوال، لكن لا نعرف أبداً ولا نستطيع وقف تقدّمه، فالخطر كامنٌ في الركن. ليس مُهماً أنك امرؤ عارف حكيم حصيف أو حذر، فلكلّ منا عُقبَ أخيل.
الأمان لا يقوّي الإنسان. العدة، اليقظة، والاستجابة: هي الدفاع الوحيد ضد خبطة المصير.
بوضعي التالي مع أفراد شرفاء ملقّنين مثلي في قاعة المحكمة، أبتسم لنفسي، لِجَرّ الثور من قَرنَيه. هل يسعد المحكمة على العموم أن تعرف أني عاديٌّ سليمٌ وعاقل؟ لا أعتبر نفسي "مدمنَ جنسٍ" مارقاً أو حتى عُصابياً. ولست كاتباً مستعداً لبيع روحه مقابل حفنةٍ من المال؟ اعتبروني زوجاً، جاراً، "شيئاً نافعاً" في المجتمع.

أبدو مثل ساخرٍ مُملّ، أليس كذلك؟! تتساءلون ألستُ ذلك الفظيع الذي سطّرَ كتبَ "المدارات"معدومة الذِكر، "الصَلْب الوردي"، "عالم الجنس"، و"أيام هادئة في كليتشي"؟ هل تشوّه أم وصل ببساطة إلى سنّ الخَرَف الآن؟
وكي أكون دقيقاً، ينبغي السؤال هكذا: هل أعمالُ المؤلفِ التي تثير التساؤلَ والرجلُ الحاملُ اسمَ هنري ميللر متوحّدان وهو نفسه الشخص، أهو هو؟ إجابتي بالموافقة. فأنا متوحّد مع أبطال الرواية على نمط "الرومانسيين أصحاب التراجم الذاتية". هل يجب عليّ إذن أن أنتفخ. لكن لماذا؟ لأن "لفظي غيرُ مُخزٍ" في الكشفِ عن مقولات حياتي.

ولأقل: لستُ أول من اقتربَ من الاعتراف أو كشفَ حياته عارياً، أو استخدم لغةً يُفتَرَض إنها لا تليق بآذان الطالبات. فهل كنت قديساً يتحسّب لحياةِ الخطيئة؟ قد تتعلّق هذه العبارات الجوفاء بعاداتي الجنسية التي استنارت بالكهنةِ وطلبة الطب. وقد تكون مفهومة من هذا السبيل.
لكني لستُ بقدّيس ولا يُحتَمل بأن أكونه. على رغم ما يتم لي وأنا أسطّر هذا الزعم، فأكثر من مرة استدعاني أفرادٌ لا تشكّ المحكمة البتة في قدرتهم على الإمساك بتلابيب هذا الرأي. لا، لستُ بقدّيس ولا داعية لأمر جديد، شكراً للرب!
ببساطة، أنا إنسان، إنسان ولد ليكتب، واتخذ لإنشائه قصة حياته. إنسان جعل هذا واضحاً في السرد، حكاية صالحة، حياة سعيدة، برغم الصعود والهبوط، برغم الحواجز والعقبات (معظمها من صنعه)، برغم المعوّقات (المفروضة بقوانين غبية) والتوافقات.

آمل في الواقع بوضوح، لأنه مهما كانت حياتي الخاصة وهي مجرد حياة، فأنا أراها وسيلة جيدة للكلام عن الحياة بذاتها. ومهما حاولتُ يائساً أحياناً جلاء الأمر إلا أنني أعتبر الحياة بذاتها كلاً واحداً، خيراً على أي وجهٍ كانت. كما أظنّ أننا وحدنا من نُحيلها إلى حياةٍ تُعاش، نحن فحسب، لا الأرباب، لا القَدَر، لا الظروف.

يذكّرني الكلام على هذا المنوال، بفقرات معينة من قرار المحكمة التي أثّرت على إخلاصي، كما أثّرت على قدرة التفكير الواضح عندي. هذه الفقرات التي تتضمن غموضي المتعمّد وادّعاءاتي في رحلاتي "السوريالية والميتافيزيقية".
كان وعيي تاماً بالرأي مختلفاً لدى هؤلاء والظاهر كذلك في عقول القراء، قرائي. لكن كيف يتسنّى لي الردّ على هذه الاتّهامات بينما أتلمّس كما يفعلون لُبّ الشيء القريب من كينونة أدبي؟ فهل لابد أن أقول "أنتَ لا تعرف ما تتكلّم عنه؟ أو ما ينبغي أن تحتشدله بأسماء لها تأثير "السُلطة" لموازنة هذه الأحكام؟" وهل أَبسُط القول مثلما قلتُ آنفاً"حضرتك مذنب! مذنب على كافّة هذه الفقرات!"

صَدّقني، ليس شيطاني، لا تسكّعي أو ضلالي الذي يؤدي بي إلى النطق حتى الضحك بهذه الكلمة "مذنب". إنني أعتقد مخلصاً بإمعان فيما أقول وأفعل، حتى عند الخطأ، هل يحين دوري للاعتراف بالذنب من محاولة الدفاع عن النفس ضدّمن يستخدمون هذه الكلمة في عفوية؟
فلنكن أمناء. هل من يحكمون عليّ ويدينونني (لا في أوسلو بالضرورة، بل عبر العالم كلّه) يظنّون أني متّهمٌ بحقٍ و"عدوٌ المجتمع"، كما يؤكدون على ذلك برقة؟ ماذا يزعجهم فيّ هكذا؟ هل الوجود، الذيوع، الخُلق غير الاجتماعي غير الأخلاقي والفاسق، وهو ما تتّسم به أعمالي، أم التعرّض لمثل هذا الخُلق في كتابٍ مطبوع؟ هل يتصرف الناس في يومنا وعصرنا حقاً بمثل هذا الخُلق الفاسد أم هي تصرفات من نتاجِ عقلٍ "مريض"؟ (هل ينبغي الإشارة نحو مؤلفين على شاكلة بترونيوس، رابيليه، دوساد، لأذكر نفراً منهم فقط كعقول "مريضة"؟)

لدى بعضكم بالتأكيد أصحابٌ أو جيران في مواقف شبيهة، بخُلقٍ منفلتٍ كالمُستَفهَم عنه أو أسوأ. إنني أعرف كإنسان على الأرض أن التزام عباءة الراهب، روب القاضي، أو زِيّ المعلم، لا يعطي حصانة ضد إغراءات البدن. كلنا إذن من الوعاء ذاته، كلّنا مذنبون، أو كلّنا أبرياء، سواءً اعتمدنا في هذا على رأي ضِفدع أو رأي آلهة الأوليمب.
بالمناسبة، سأكفّ عن التظاهر بالمنطق أو توزيع الذنوب، أقول إن المجرم أكثر أو أقلّ من مُداهن. ما من جريمة نملكها، لا حرب لدينا، لا ثورة، لا صليبية، لا محاكم تفتيش، لا اضطهاد، ولا تعصّب. بعضنا شرير، خبيث الروح، قاتل سريّ، هذه شروط ضغينة كل ما هو بشريّ، كلّنا صالحون، الجاهل منا والخبيث، ينقصنا التجمّل الحقيقيّ، معرفة الحقيقيّ، وفهم الطابع البشريّ.

أضع أمامكم بإحكام وبساطة قدر الإمكان، اتّجاهي الأساس نحو الحياة، صلاتي، أو بمعنىً آخر "دعونا نكفّ عن إعاقة بعضنا الآخر، عن الحُكم والإدانة، فلنكف عن جعل بعضنا ذبيحة للآخر". لا أتلمّس منكم رجاءً، كي تمتنعوا عن الحكم عليّ أو على عملي. فلستُ أنا أو عملي بذي أهمية. (واحد يأتي، وآخر يروح).
ما يعنيني هو الضرر الذي ستُحيقونه بأنفسكم لتخليد هذا الكلام عن الذنب والعقاب، عن الحجب والنفي، عن التمويه والمقاطعة، عن غمض عينيك عند اللزوم، عن شطب مسئولية الآخرين عند انسداد طريق الخروج. إني أسألكم عن قُرب، هل تُمكّنكم متابعةُ دوركم المحدودِ من الحصولِ على أقصى الحياة؟
وعند حذفكم كتبي، أقول، هل تستسيغون بعدها طعامكم ونبيذكم؟ هل ستنامون أعمق، تصبحون بشراً أكثر، أزواجاً أفضل، آباء أعدلَ عما قبل؟ مثل هذه الأشياء هي ما يهمّ: ما يحدُث لكم، لا ما تُلحِقونه بي.
أعرف أنه لا يُفترَض بأحد في قفص الاتّهام أن يسأل، لأنه هناك للردّ فقط على الأسئلة. لكنني لا أستطيع اعتبار نفسي مجرماً. أنا ببساطة من "الخارجين" على الأعراف، على رغم كوني في قلبها كما أوضحت. ولديّ رِتلٌ من أسلافي يجعل القائمة بذات تأثير. فهذه المحاكمة مستمرة منذ يوم برومثيوس، وقبل ذلك أيام الملاك ميخائيل (رئيس الملائكة).

لقد سُقي أحدهم فيما ليس هو بماضٍ بعيد، كأسَ الشيكران (السُمّ، المترجم)، بدعوى أنه "مفسد شباب". لكنه يُعتبر اليوم أرجحهم عقلاً، وأصفاهم روحاً. حين نُتّهم أمام القضبان فنحن لا نملك سوى اللّواذ بالطريقة السُقراطية في الاحتفال بالتهمة. وردّنا الوحيد هو العودة إلى السؤال.
توجد أسئلة عديدة يحقّ لي وضعها أمام المحكمة، أمام أيّ محكمة. فهل أتسلّم رداً؟ هل يمكن وضع محاكمة العالَم موضع السؤال؟ أخشى أن لا. فالجسم القضائي مقدّس إلى أبعد مدى، كما يُفترَض. وهذا لسوء الحظ كما أرى، لأن مقولة القبر تتضمن البعث، ومحاكمة الأثر الأخيرة تؤول في تمام رأيي إلى الجمهور. وعندما تصير العدالة إعداماً بالحرق، لا يمكن تغيير المسؤولية بانتخابٍ محدود دونما ظلم سينتج عنها. لا يمكن توظيف المحاكمة دون اقتفاء لأثر الماضي الحديديّ، المُحرّم (التابو) والتحيز.

وها إني أعود إلى الأثر المطول متمثلاً في قرار محكمة مدينة أوسلو بجزئيات من مدوّنات الأخلاق المتساجلة هناك. وهو اتهام بشيءٍ مرعب يُثبط الهمّة، أجد به مقولات تنتمي للقرون الوسطى. وليس هناك من بدّ نفعله مع العدالة. فالقانون أصلاً سُخرية. لو سُمح لي أن أقول ذلك، لأن محكمة أوسلو وقوانين ومدوّنات النرويج، تلك التي أُندّد بها، ليست غير بيان خَرِفٍ ومسرَحَةٍ عاطلة.
إن من يأنف الوقوفَ أمام محكمة، لا يُعيّر بذاته بل بأسلافه الغابرين. فالمدوّنات الأخلاقية، بالمطابقة مع القوانين الطبيعية واللاهوتية، ليست جواز المرور بمثواها الرثّ، بل هي على النقيض معرّضة بحدودها التي تضعُف كما أنها معدومة الأثر.
في النهاية، ثمة نقطة محورية بالموضوع. هل سيعيق القرار المعادي في هذه المحكمة أو أيّ محكمة أخرى بشكل مؤثر دورةَ هذا الكتاب الأبعد؟ لا يقوّى تاريخُ الحالاتِ المشابهة هذا الاحتمال. ولو كان مجرد حكمٍ غير خدوم، إلا أنه سوف يصبّ اللّهبَ على الزيت.

لأن إسقاط الحماية القانونية يؤدّي فقط إلى المقاومة، ثم تنتقل المعركة إلى ما تحت الأرض، تصبح أكثر إغواء مما يُصعّب التغلّب هنا على مُشكلها الناجم. فلو قرأ أحدٌ في النرويج الكتابَ وصدّق كاتبه فمنحه حق التعبير عن ذاته بحرية، إني لأكسب المعركة.

فلا يجوز لك أن تحدّ فكرةً بحظرها، مثل هذه الفكرة التي تشترطها هذه المقالة دفاعاً عن حرية قراءة ما تختار. بمعنىً آخر، الحرية في أن تقرأ رديءَ كاتبٍ مثلما تقرأ جيده أو حميده ببساطة. وإلا فكيف يتسنّى لنا أن نتحصّن ضدّ الشرّ، ما لم نفقه كنهَه باختصار؟
وعلى رغم ذلك فما يقدّمه كتاب (سكسوس) للقارئ النرويجيّ ليس شراً ولا سُمّاً. إنه جرعة من الحياة أدّيتها لنفسي أولاً، ثم أوجدتُها بعد ذلك كي تزدهر. وطبعاً أنا لا أوصي به الصغار، فهل يمكنلك أن تقدّم زجاجة كحول اسكندنافيّ إلى طفلٍ لتُسكِره؟ هل لي أن أضيف شيئاً واحداً وأخيراً (بصفاقة)، فأقارن كتابي بالقنبلة الذريّة: (كتابي مفعَمٌ بخِصالٍ تهبُ الحياة).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى