أحمد خلف - عصر الشعر أم عصر الرواية؟

لعبت العبارة المعروفة في الأدبيات الكلاسيكية (الشعر ديوان العرب) دوراً ملموساً لتزكية الشعر العربي وتقبله على مستوى الذائقة وتربية الحس العفوي الذي يتوجه الى نوع من الغنائية والخطابية والإنشاد، هذا النوع من الشعر التلقائي، وجد لدى البعض من أصحاب النزعة العروبية صداه وترحابه. كما فعلت العبارة آنفة الذكر فعلها في نفوسهم رغم أنها قيلت قبل سنين طويلة، الا أن معظم المدافعين عن نمط محدد من الشعر، استمروا بالتفاخر بها أو يستندون اليها في حواراتهم أو محاججاتهم في الرأي مع الآخرين.
ويرون في بعدها التاريخي حجة دامغة على أن العرب، أمة تجيد قول الشعر وتتألق فيه، وبلغ الأمر لدى الغلاة من الشعراء والنقاد أصحاب النزعة الكلاسيكية، الاعتقاد أن الله خلق العرب ليقولوا الشعر ويتغنوا بأمجادهم التليدة من خلاله، ومن المعتقدات التي سادت بين أوساط هذهِ الفئة من المهتمين بالشعر، تصورهم؛ أن العرب ليسوا معنين بالابتكارات العلمية وان هذا الاهتمام والعناية بالاكتشافات العلمية، هو نزوع أوربي، فإذا كان العقل الغربي لديه العلم والعقل، فالعرب أصحاب عاطفة ووجدان، حتى صدقت الأجيال السابقة بأطروحات أحادية التفكير كهذهِ، وأن العقل العربي عقل تحليلي لا يجيد الابتكار، اما العقل الغربي فهو عقل تركيبي قادر على صناعة الظواهر والتأثير في الطبيعة، والحياة الإنسانية (وهو رأي بمجمله استشراقي شجع على ترسيخه في أذهان الناس، الكثير من المستشرقين وأصحاب الارساليات التبشيرية كالمستشرق الفرنسي رينان المعروف بموقفه الصريح من طروحات متباينة كهذهِ) وربط هؤلاء بين المنجز العلمي وبين حلاوة الشعر وابتكار الصور المدهشة، التي تصل حد الإعجاز ومن هذا ينبغي أن ينطلق الحوار بين الفرقاء وبالطبع، لا خلاف على أهمية الشعر القديم ودورهِ المؤثر في حياتنا اليومية / العامة، وخصوصاً، عشاقه الذين يولونه عناية فائقة، ولا ينكر أن العديد من الناس في بلادنا العربية قد تربى على قصائد المتنبي وأبي تمام ثم الجواهري وشوقي وابي ريشة وغيرهم كثيرون، ولما تطورت سياقات الحياة تطورت معها الذائقة الجمالية لدى الناس واستقبل القراء قصائد السياب والبياتي ونازك الملائكة وصلاح عبدالصبور وأدونيس وبلند الحيدري وسعدي يوسف، معظم قصائد هؤلاء وغيرهم عرفها القرّاء عبر المراحل الدراسية المختلفة ومع تطور أفق المناهج التربوية في هذا البلد العربي أو ذاك وبإشارة من د. جابر عصفور تخص موضوعة (انحسار) الشعر وتبوؤ الرواية مكانته، نجد من الضروري الوقوف عند قوله: ((.. أن تغييراً حدث في علاقات التراتب بين الأنواع الأدبية في موازاة ما حدث في استجابة هذهِ الأنواع للواقع، فقد بدأ الشعر يفارق مكانته التقليدية ويفسح السبيل لفن القصة والرواية بوجه خاص.)) ومن الضروري، هنا، أن ننقل ما دار بين شاعرين من جيلين مختلفين ويمثلان ذائقتين وقيمتين شعريتين متباينتين لكل واحد منهما خصائص وطرائق تعبير واضحة في الافتراق.. كان الأول شاعراً يؤمن بضرورة الأخذ بالأوزان والقوافي وعدم انفلات الشاعر أو رفضه الاستفادة من خزائن التراث القديم أو الحديث، أما شاعرنا الثاني، فيكفينا القول انه من دعاة قصيدة النثر التي يرى فيها ضرورة فنية وجمالية تفرضها طبيعة العصر وعالمه المنفلت، ولسنا هنا في مجال إصدار أحكام بحق أي صنف من الصنفين ولا مطلوب منا الإعلان عن ذائقتنا أو ترجيحنا نوعاً على آخر، ما يهمنا هو الاستنتاج الأخير الذي طرحهُ الشاعر الأول وكيفية صياغته لهذا الرأي.. لقد انتهى الحوار بينهما بقول الأول: دعوا الشعر بميزاته الجوهرية إذ بدونها لن يكون شعراً، وخذوا ما أتت بهِ أوربا العولمة وما بعد الحداثة لكم..
بالطبع، لم يوضح لنا شاعرنا ما علاقة قصيدة النثر بأطروحات العولمة وبين القصيدة العربية الكلاسيكية (إذا صحت التسمية) وبين أوربا ومنجزاتها وابتكاراتها العلمية؟ إذن، ماذا يقول صديقنا الشاعر الأول الذي يرفض أو يستغرب هذا التطور الحثيث في بنية القصيدة العربية، ماذا يقول عن الزحف الكبير الذي بدأته ظاهرة الرواية الحديثة، التي راحت تسجل تجاوزاً ملحوظاً على الأصعدة كافة، سواءً في الأشكال والأساليب أو من حيث سعة رقعة عملها والحجم المتميز لحضورها وتواجدها.. الروايات التي تكتب اليوم لا ضوابط ولا قياسات يعمل مؤلفوها على توفرها في النص، بل نراها لا تحتكم الى معايير وأسس صارمة، وعن هذا الجانب تقول مارت روبير في أصول الرواية: ((... الرواية الحديثة لا قواعد لها ولا وازع. مفتوحة على كل الممكنات)) والرواية قياساً الى رديفها الشعر قد تطورت حتى وصلنا الى مراحل متقدمة من الكشوفات على المستوى التقني والجمالي، وما عاشته القصيدة الشعرية على مر الحقب والسنين قد شهدته الرواية أيضاً، فمن البناء الروائي الكلاسيكي المحكم الذي يوفر للقارئ كل مستلزمات المتعة والاسترخاء حتى الوصول الى الرواية الحديثة التي تمردت على كل القواعد والثوابت في الفن، والرواية لأنها فن مديني أقر هذهِ الحقيقة العديد من النقاد الجادين لفن كتابة الرواية، حيث يرى النقد الحديث، أنها نتاج العقل المديني المتغير والمتطور التبدلات الجوهرية في البنى التحتية وكذلك التطور الحاصل على ماكنة التحديث والتصنيع، وقد بدأت الرواية زحفها الحثيث في الاستفادة من كل الفنون الأخرى، كالمسرح والسينما واللوحة التشكيلية بل وحتى الشعر بشقيه القديم والحديث، ولقد وجدنا ثمة من يكتب الرواية من الشعراء الذين حاولوا الاستفادة من تجاربهم الحياتية والشعرية في الروايات التي كتبوها في مراحل مختلفة، ولأغراض متعددة..
إن الرواية الحديثة، ليست بحاجة الى الإعلان عن أهميتها وضرورة الأخذ والاستفادة منها، فهي وقد أخذت مساراً عميقاً في حياتنا اليومية، وتمكنت من أن تنشئ خارطة مدهشة من القراء الذين، قد لا يجمعهم شيء مثل حب الرواية قراءة ومتابعة بل وكتابة، وامتد حضورها الفني والاجتماعي على امتداد مساحة الوطن العربي، وبدأت المطبوعات تمجدها وتكتب حولها وعنها واستطاع الكثير من مؤلفيها الدخول على موضوعات غير تقليدية، وتقحم عدد منهم تلك الموضوعات التي يطلق عليها بالمسكوت عنه أو المحرمات التابوية المعروفة، كالجنس والدين والسياسة وخاضت في ثنائيات صادمة للقارئ العادي، كثنائية المثقف والسلطة والمسموح بهِ والممنوع واخترقت جدار حماية الدولة، وهذا الإطراء الذي نمنحه للرواية لا يعني بأي حال من الأحوال أن يأتي على حساب الشعر وتراثه العريق أو نفياً لدوره الريادي في حياة الناس انما هو تذكير بالدور الجديد الذي راحت الرواية الحديثة تلعبه الى جانب القصيدة الحديثة التي يكتبها شعراء يعنيهم الفن الاجتماعي والمديني مثلما يهمهم تطور الأشكال والأساليب في الفنون كافة، لكي تتواءم وروح العصر الوثابة نحو الأمام.
ترى، بعد هذا كله، الا يجوز لنا القول إننا في عصر الرواية بقدر ما هو عصر الشعر ولا غنى لنا عن أحدهما على حساب الآخر، إذن، نحن نقف بعيداً عن الانحياز لنوع أدبي/ إبداعي دون آخر، كلا، نحن نرى أن الشعر الجميل والعميق يقدم للروائي مجالاً لاتساع رقعة عمله من خلال تطوير الذائقة العامة وان الرواية التي بدأت تتسع رقعتها الى جانب الفنون الأخرى تقدم للشعر قراءً يدركون قيمة الثقافة والمعــرفة والفن. انه عصرهما معاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى