قصي الخفاجي - الثعالب الصغيرة

حلّتا ضيفتين على اخته هاجر.. كانتا فتاتين تقيمان في القسم الداخلي لطالبات الجامعة.. حدث ذلك قبل الامتحان الأخير لدرس الكيمياء بيوم.. جناح البهو الخلفي للبيت فسيح ومؤثث بالأرائك المنجّدة بأفخر القماش، بينما الستائر الزرقاء تناسب الديكور، والطاولات والمنضدة المستطيلة تؤطران زوايا المكان.. كن يجلسن على الطاولة وينهمكن بالدرس..
طفقت هاجر تطفئ الأنوار وتشعل شموعاً صغيرة حول المائدة المفروشة بالشرشف الأبيض.. كان مناخ البصرة حاراً ورطباً جداً، وقد شرعن يتحلقن حول المائدة بشعور مسدلة على الأكتاف، شعور سود كثيفة.. لا أحد يدري كيف عمد إلى ترك نافذة الغرفة المطلة على البهو مفتوحة.. وفي الحديقة ظل يسمع أصواتاً لطيور ليلية مهاجرة، ثم تدفق نباح بعيد، رفيع أخذ يشتد ثم يصير عواءً خيطياً، حزيناً وعاصفاً.. لقد أثقلت روحه الرطوبة الخانقة وعاد يهرع إلى غرفته المظلمة، فرأى الشموع من خلال النافذة تذوي في نزعها الأخير.. وكانت هاجر قد خرجت عن طورها ولم تعد تطيق الحر.. خلعت ثوبها الخارجي وبقيت شبه عارية بالثوب الداخلي الشفيف.. استمرت الرطوبة بالاستفحال فشرعت الضيفتان تخلعان الأثواب أيضاً فيبدو بياض الأجساد بضاً هائلاً.. كانت الشعور المسدلة تخفي عري الأكتاف.. استمرت العواءات البعيدة تصدح، وتخرق الكيان.. هناك منظر مرئي أمام الساحة المتاخمة للبيت ووراء الساحة أجمة كثيفة تفضي إلى ساحة أخرى هائلة.. انسلّ يخطو بخفة: كانت الكلاب تطارد ثعالب حمراء، دخانية صغيرة.. وهي تقفز باندفاعات عالية وتتلاشى وراء منخفض مكتظ ٍ بالاشواك.. وثمة أحراش كثيفة تتسلق أسيجة البيوت.. أغلق عينيه ببطء وعاد ليغطس في بركة حلم حزين.. حين فتح عينيه كان البهو مظلماً، والظلال ترتسم على الستائر الخلفية الزرقاء.. ثمة أقواس رفيعة تنسدل ثم ترتفع وتتضخم/ وتشتبك الظلال محتدمة، إذ تنتشر الظلمة على طول الجدار المستطيل.. وكلما تفتحت الأقواس لتلتحم، يبزغ خيط خفي من البخار، يفحُّ ويرتسم مثل ذبالات الدخان.. لم ير شيئاً في الظلمة المحتدمة سوى عيون الثعالب الصغيرة تحدق بوجهه.. عندما قارب الفجر على البزوغ ارتمى على الفراش وهو يحدث نفسه: قبل أن أغطّ في النوع العميق، ستنهي غداً هاجر امتحانها الصعب بدرس الكيمياء وستركض الساعات لاهثة، فأين تلوذ الثعالب الصغيرة ذات العيون الفضية الناعسة.. أين؟



* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى