رضا الحربي - نغمة الطبول

كانت الساعة الثالثة ظهراً ودقيقتين, تمشي عقارب الســـــاعة بانتظام , عقرب اثر عقرب, هكذا كان ينظر اليها السيد طـــه, وهو يتذكر سني عمره التي مرت كالأمواج المتلاطمة والمتلاحقة,المارة يسيرون أمام عينيه, وهو يطل من ذلك البلكون الخشبي لشقته التراثية لذلك المنزل القديم ذو الشناشيل والتي تشبه ضفائر حمدية الدلالة الجارة الكريمة والتي رآها ذات يوم صيفي وبالصدفة حين خلعت فوطتها لتغسل وجهها من الغبار بعد تعب يوم عصيب في الشورجة, وضع فنجان قهوته على الطاولة الخشبية الصغيرة التي تتوسط غرفته,بعد أن قطع شوطاً وهو يتكئ على أطراف السلم الخشبي هو الآخر , هابطاً برقة كسلحفاة صغيرة, وهو ذاهب لدكان أبو تحسين ليجلب كيساً من القهوة , كانت الأزقة متلاصقة الواحد تلو الآخر , ومنها أزقة مسدودة ليس لها منفذ كثيراً ما يتوهم المارة الغرباء عن المنطقة بأن لها منفذا , ولكنه ينظر اليهم وهم راجعون خلسة يرى علامات التذمر على وجوهم وهم يلعنون متذمرين لقطعهم مسافة تربو على 300متر , وكثيراً ما يلمحهم السيد طه , وهو يعدل لبس نظارته السميكة القديمة . رفع فنجان القهوة إلى فمه ليرتشف منه رشفتين متتاليتين , بينما أخذت قطرات الماء تتساقط من صنبور المياه الذي لا يقوى على اصلاحه , وان راتبه التقاعدي قرب بعد يومين لاستلامه من مصرف( الحيدرخانة), أخذ صوت مطرقة ذلك الحداد المجاور لهم يعلو كطنين ذبابة وفعلا كانت هش عليها منزعجاً ليمسكها ويفركها ويسكتها للأبد , ولكن ضربات المطرقة لم تهدأ , تناول غليونه الأسود المرصع بالفضة , وتذكر كيف اشتراه وممن ؟ قال اشتريته بأول راتب في تلك الخدمة التي لم يتبق لي منها غير الذكرى, وقليلاً من صحبي , وحزام عريض وبيرية سوداء علقتا بركن من أركان هذه الغرفة الحجرية, وحذاء خدمة أحمر مرمي تحت السلم الخشبي مع حاجيات أخرى, أيه زمان ,وتناول علبة الثقاب ليخرج عوداً منها ويشعل ذلك الغليون, تصاعدت حلقات الدخان وهي تعلو في في جو هذه الغرفة النتنة التي رائحتها تزكم الأنفاس , ولكنها تشربت في دمه , كما دخان الغليون الذي يطارده أينما ذهب كصديق يقدر الصداقة ويجلها , أنه غليون طه المسكين الذي تمسك به لآخر عيار ناري على الجبهة وتوقفت الحرب وسلبت الأرض حين كمموا أفواه المدافع هناك في البعيد , وصرخ انها الخيانة وذرفت الدموع , أنه غليون (ديستوفسكي) الذي مات من اجله وليس بسببه عندما قدم له سني عمره القادمة نقداً ,ودفعه واحدة كي ينتشي برشفة منه تطيل له السهر فقط للصباح تاركاً خلفه أوراقه عاتبة لم تكتمل بعد فيها كتاباته التي لم تفلح زوجه في منعه إياه أو تهدئة نوبات الصرع التي تلازمه,
كان يزعق بصوت لا يشبه أصوات البشر, ويأخذ بالتلوي ويخر على أرضية الغرفة متشنجاً ,ويبقى لساعات متلعثم , بوجه ملتو , وعينين جامدتين وكأنه مختل العقل , وتنتبه حمديه الدلالة وتسعفه , اخذ رشفة ثالثة من فنجانه, وهو يمسح على بطنه التي بدت شبه خاوية سوى من قطرات القهوة, لقد كنت من أصحاب الكروش الكبيرة .... نازلاً بيده ليرفع بنطاله الكاكي الذي اشتراه من سوق (الهرج) القريب, انه مولع بشرب زبيب الحاج ( زبالة) وجبنه اللذيذ ,ليدخل مقهى( حسن عجمي) ليلتقي أصدقاءه القدامى الذين اخذ الشيب يدب اليهم دبيب النمل
- أتعلمون أني لا اذهب جهة معسكر الرشيد؟
- ولم يا طــــــــــه
يعصرني الألم حين أرى ذلك المعسكر الجبار خرائب وأنقاضا
- تسرح وتروح به الكلاب
- وبعض نخيلات هنا وهناك
يشرب الشاي ويرحل
وتأخذه قدماه إلى صديقه الحميم في شارع المتنبي ( أبو ربيع ) ليستعير كتابا أو كتابين ليرد بهما وحشته دون مقابل, ايفاء لصداقة قديمة .
كل هذه الأصوات تزاحمت, سارعت لتقرع طبلة أذنيه مكونة نغمة الطبول التي كثيراً ما سمعها بذلك المعسكر أبان العرض العسكري حيث الجنود يسيرون مسيرهم الرائع على نغمات الطبول, وهو
رابط الجأش مع فصيلة.الذي كان هو أمره , كان ذاويا خاويا، جسده متعب, بانتظار ذلك الراتب اللعين ليسدد ما بذمته لأبو تحسين .
رن جرس الهاتف , فأيقن طه أن النغمة اكتملت مما ينقصها,هي مثلها التي كان يسمعها,وأخذ ينظف غليونه بمنديل ورقي بعدما نظف انفه به قائلا
- ربما كانت زوجة (ديستوفسكي) هي الآخرى مبتلاة بغليون زوجها .
رد على سماعه الهاتف , واقترب من مكتبته الفقيرة ,التي عمد إلى وضعها فوق رفوف خشبية وقد غلف الحائط بورق التجليد المشجر .
وقف منتصباً كما لو كان في موقف الاستعداد وهو ممسك احد كتبه
- أنا الملازم طه سيدي.
وعادت تمتزج أصوات المطرقة من جديد ,بأصوات ضربات أقدام الجنود صوب أرض معسكر الرشيد الذي هجمت عليه تلك الغربان وأصبح ركاما اسود , فيما قطرات المياه آخذة في التساقط من ذلك الصنبور في تلكم الغرفة ,شيئاً كان ما يخطر بباله لتكتمل نغمة تلك الطبول المدوية, وترافقها قهقهات (ضباط الجيوش الصديقة) أطل من الشرفة وهو ينفث دخان غليونه في الفضاء تشكلت دوائر واخذ يتابعها بعنين جاحظتين ماطرتين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى