الحمام سيرة الورع والشهوة : خولة الفرشيشي - أسطورة حمّام الذهب : بين الماضي والحاضر

يرتبط فضاء الحمّام في الذاكرة الشعبية بكثير من الأساطير ومنها أسطورة حمّام الذهب بنهج الذهب بالمدينة العتيقة بتونس وتحديدا بمنطقة باب سويقة ويطلّ سطح الحمّام على فناء جامع سيدي محرز وهو ما يؤيد وظيفته التعبديّة الأولى الطهارة خاصة يوم الجمعة حين يؤدي المسلمين صلاة الجمعة بالجامع يكونوا قد قصدوا الحمّام للتطهر والنظافة .

تقول الأسطورة الشعبية والمنتشرة بكثرة في المدينة العتيقة بتونس أنّ الحمّام إبتلع ذات مرّة صبيّة بعد أن أنزلتها أمّها إلى قاع الحمّام عن طريق فتحة أرضية للبحث عن كنز وكانت الصبيّة تمدّ أمها بسبائك الذهب وتخبرها أنّ الحمّام سيطبق عليها وأنّ الجان الأحمر سيخطفها ويبقيها هناك أي تحت الأرض ولكنّ الوالدة كانت تتلهف إلى المزيد من الذهب ولم تكترث بما تقوله إبنتها إلى أن أطبق الحمّام على جسد الصبيّة ولم يترك منها سوى شعرها الذي ينبت كل يوم في الأسبوع الذي يصادف يوم إبتلاعها ..

منذ تلك الأسطورة أصبح حمّام الذهب مقتصرا على الرجال ولم يستقبل النساء منذ أكثر من 400 سنة في جولة بفضاء الحمّام إكتشفنا أنّ حمام الذهب لا يختلف كثيرا عن بقيّة الحمامات الشعبية الأخرى التي ورثت من الحمامات الرومانية الثلاث غرف : الغرفة الباردة والمتوسطة والساخنة إضافة إلى أنّه مازال يستعمل تقنية التسخين التقليدي ويقوم بهذا الفرانقي وهو عامل مختص في إحراق الخشب وفواضل الحيوانات لتسخين الحمّام كما أنّ الحمّام يعتمد تقينة الإضاءه الطبيعية عن طريق فتحات ضوء صغيرة أعلى سقف الحمّام وهي مغطاة بالبلور .

يطرح السائل لماذا لم تدخل النساء منذ تاريخ تلك الأسطورة إلى فضاء الحمّام رغم المعرفة كونها أسطورة خاصة بعد مضي مئات السنين عليها ، يذهب المختصين إلى إعتبار الأسطورة مقدّسة لأنّها تمتلك قوّة الإعتقاد الملزم للجماعة قبل طقوس الأديان وفي هذا الإطار يقول مرسيا إلياد : تجسد الأسطورة حدثا جرى في الزمن الأوّل أي زمن البدايات وتكمن وظيفتها في كشف النماذج المثلى لكلّ أنواع الطقوس وانشاطات البشرية ذات الدلالة والمغزى وهو السبب الذي يجعل بين الأسطورة والطقس صلة حميمية وثابتة إذ يأتي الطقس ليستعيد الأسطورة ويذكر بها بصفة دورية .

في هذا الإطار منع النساء من زيارة الحمّام أي حمّام الذهب لأنّ الأسطورة حرمت على النساء إرتياده لإرتباطه بالجان الأحمر الذي يبتلع الصبايا ومازالت النساء إلى اليوم تتمنع عن الذهاب إليه وعدم المجازفة بدخوله لما يرتبط في الذاكرة الشعبية من خطورة عليهن ويعتبر هذا محتوى ذهني خيالي وهي أشياء غير عقلانية في رحب حضارة عقلانية ورغم ذلك تجد لها مكانا ورواجا فالإنسان سليل الأسطورة حتى ولو عاش في القرن الواحد والعشرين الذي قطع كليّا مع الأسطورة وعوضها بالعلم والتطوّر التكنولوجي ولكنّ الإنسان الحديث مازال يتعايش مع الأسطورة بشكل أو باخر فوجود الأسطورة في الحياة الحديثة يخفف من الام الإنسان ومن إغترابه وإعادة إحياء الأسطورة في أشكال عدّة يخفف وطأة حدّة الواقع ويمنح الإنسان الشعور بالرضى والإرتياح في ظل وجود كائنات خارقة يتضرع لها أحيانا وتقيه من الشرور أو توقعه فيها إن خالف أوامرها ومن جهة أخرى تساعد الأسطورة في تشكيل الهوية فهي تنشط وتقوم بإستدعاء شخصيا ت قديمة وتعطيها زخما وحضورا في ذهن الجماعة التي تتمسك بها لأنّها تمثل الهوية الثقافية فالمجتمع المجمع لأساطيره لا خوف عليه لأنّه لم يفقد خصوصيته وشخصيته في عصر العولمة التي تحاول أن تجعل من الجميع نسخا متشابهة بلا ذوق ولا روح .

خولة الفرشيشي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى