أحمد محمود مبارك - موعد مع النور..

لمّا يئس الشقيقان من العثور على أخيهما المفقود .أخذا يرنوان إلى أشعة الشمس الشاحبة في أسى .وأحسّا بأن كربهما سيتضاعف . فلم يعد الأمر مقتصرا على أخ واحد فُقِدَ ولم يعد ثمة أملٌ في العثور عليه . بل إن أخا ثانيا قد سُحِر أو جُنّ
قال أحدهما للآخر وهو يعتصر جبينه المقطب بيده الغليظة:
- إنها تلك الجارية السوداء قد أصابت عقله بمسّ ..خرجنا ثلاثة نقطع الصحارى . نجوب التلال والهضاب .. تلفحنا أشعة الشمس المحرقة وتكوينا الرمضاء .. نتساقط فوق الرمال والصخور ظامئين . جائغين ومنهكين .على أمل أن نعود أربعة رجال ..أبعد كل هذا نعود اثنين ؟ ...تركْنا أبا ملتاعا لفقد ولد واحد وأُمّا هدّها كربٌ واحد كاد أن يقضي عليها لولا أملٌ في العثور عليه ..أنعود إليهما بكرب جديد ولوعةٍ أخرى ؟ ..أيتحمل المسكينان فقد ابن آخر ؟ وهل يصدقان أنه لم يقتل في الطريق أو يُخْطف أو يفترسه وحش ؟ هل سيصدقان أنه آثر ترك عشيرته في تهامة ..ليعيش في هذه الأرض الغريبة من أجل ساحرته السوداء
قال الآخر محنقا ملتهب النرات :
- عهدي به أنه غريب الأطوار حتى أنني إخال أنه لم يأتِ معنا ليبحث عن أخينا الذي فُقِد
رمقه الآخر متسائلا ..فاستطرد وعيناه ساهمتان
- ما كانت الحياةُ تطيب له في تهامة رغم الأمن والعشيرة وطيب العيش ..كان يبدو حائرا كباحث دؤوب عن غاية لا يجدها
ثم التفت بنظرات خبيثة وقد بدت ومضة واهنة على جبينه هامسا لأخيه رغم انفرادهما
- إذا كان الأمر هو تلك الجارية فلنمكر ونخطفها
بدا أخوه كما لو كان مقتنعا ثم أطرق واجما وكأنه يحدّث نفسه
- نخطفها ؟..هل هذا يسير ؟ ما الذي أغراه بها ؟ لا عجب إنه السحر
عندئذ أقبل ياسر وأدرك ما بأخويه من كدر ..انتحيا به وأعادا عليه ما سبق أن ذكراه له ..أيهون عليك أن تترك والديك يا ياسر ؟ألا تدري ما سيحدث لهما من جراء عنادك ومكوثك بهذه الأرض ؟ ألم يكف الأخ الذي فُقد ؟ أتعتقد انهما سيصدقان أنك لم تمت أو تُخطف أوتضع في البرية ؟
وياسر ثابت الجنان ينظر إليهما وعيناه تبدوان كما لو كانتا عائدتين من رحلة سنوات ومواقف ماضية ..ولسانه لا ينطق بغير هذه العبارة
- إني لن أغادر هذه البلدة ولكما أن تفعلا ما شئتما
يضطرم غيظهما فيصرخان
- أمِنْ أجل هذه الأمة السوداء تدع والديك وعشيرتك ..تدع الأمن والدّعة والعزّة إلى الجوع والذل زالغربة والخسف ؟ تبّا لك لن تجد الأمن والنصير وأنت بعيد عن آلك وعشيرتك ..ستعامل معاملة الرقيق ..صه ولا تُكابر ..إن كنت قد جننت بها إلى هذا الحد نستطيع أن نخطفها ونعود بها إلى تهامة ..تلك التي تفوقها أقبح قبيحات تهامة جمالا وفتنة
نظر إليهما منكرا غاضبا وهمس بنبرات ملؤها التأنيب والأسى
- أهذا جزاء من آوانا وأكرمنا ؟ أنقابل معروف - أبي حذيفة - بالنكران والخِسّة ؟ قلتُ إني لن أغادر هذه البلدة ولكما أن تفعلا ماشئتما
زفر كبيرُهم زفرة محرقة وضرب كفا بكف وهو يصيح ..
- لا فائدة ذهب عقله وارتضى الذل والخسف

---------------

تضاربت المشاعر في صدر ياسر بعد أن ودّع اخويه ..كانت أشعة الشمس قد انتشرت رويدا رويدا على جبال مكة وهضابها حينما عاد إلى دار أبي حذيفة ..اختلى بنفسه فور عودته وثمة شعور بلوعة الفراق بدأ يعتريه وبدأ يفكّر فيما سيفعله النبأ بوالديه ...لكنْ ثمة قوّة كامنة في أعماقه تغالب هذه المشاعر وتؤكد إصراره على البقاء بتلك البلدة الآمنة .زآخذ يسترجع حوار أخويه ..- أحقا أن سميّة سرُّ بقائه بتلك البلدة ؟فعلا هو يشعر بميل نحوها ..منذ أكرمهم أبو حذيفة وآواهم بداره وكلّفها بخدمته وأخويه ..راقه فيها حنانُها ونشاطها وخفة روحها ..وتلك السمرة العذبة والقسمات الطيّبة ..وتعاطف معها لأنها غريبة مثله ..لكن .هل هذا ما حال بينه وبين العودة وبين العودة مع أخويه ؟ .زإن ثمة أشياء بداخله تدفعه وتحرّكه ..يُحسُّها لكنه لا يدرك كنهها تماما
خطوات أبي حذيفة قطعت عليه استرساله في التفكير. نهض مبتسما ليواجه أبا حذيفة بابتسامة شكر وعرفان ..ربّت الرجل على كتفه ول صامتا رغم الأسئلة التي تومض بها عيناه ..يدرك ياسر ان الرجل يتساءل ..كيف يفضّل هذا الفتى الغربة على الأمن والدّعة بين العشيرة ؟ ويريد أن يقف على سر هذا الاختيار ..لكنه يبدو مترددا خشية أن يسىء ياسرُ فهم مقصده ...لذا بادره ياسر فقال : إنه آثرجوار البيت العتيق وأحس في الحرم أمنا كان يفتقده وهو بين أهله وعشيرته ..فأشرق وجه أبي حذيفة بنور الغبطة والزهو ..زهو المكِّيّ حين يسمع من الغرباء توقيرا للبيت العتيق .. بيد أنه كان يشعر بأن اقتناعه بما يقوله ياسر ليس كاملا ..شعر بأن هناك سِرّا تنطوي عليه نفسُ هذا الفتى الوديع الغريب الذي تومض عيناه ذكاءً وفطنة
- وكيف تتصوّر حياتك بمكة يا ياسر
- كل خير أيها السيد الكريم سأسعى للرزق كما يسعى إليه كلّ مجتهد نشيط
-ة إنك ذكي يا ياسر وإني قد أحببتُك ... رزقك ميسور ما بقيتَ جارا لي

= = = = =

شهدت أندية قريش أن أبا حذيفة بن المغيرة قد حالف ياسر بن عامر ذلك الفتى التهامي الذي استقر بمكة وفضّلها علي غيرها من البلاد ..ولمّا همّ أبو حذيفة ليصطحب ياسرا إلى الكعبة ليُشهد الآلهة على هذا الحلف الذي باركته قريش ..تردد ياسر متسائلا
- ما جدوى الذهاب إلى الآلهة وقد شهدت قريش ؟
فتعجب الرجل متفحصا وجه ياسر
- لا بد أن تشهد الآلهة ليكتسب هذا الحلف تقديسا وبركة
قال ياسر وعلى شفتيه ابتسامة مُنْكِرة
- أظننت أيها السيد الكريم أن الآلهة لم تسمعك وأنت تشهد الناس ..أم أنها لا تسمع إلا إذا اقتربتَ منها ؟ ..ينبغي أن تسمع الآلهة البعيد القصيّ مثلما تسمع القريب الداني ..بل نها تعلم ما في الصدور ..وما يدور في خلجات النفوس .وإلا فكيف تكون آلهة ؟ .....
هنا أطرق أبو حذيفة متفحصا وجه الفتى وشفتيه المبتسمتين وتمعن في قوله وهمس لذاته ..... غريب أمرك أيها التهامي المجادل ..لكنك تبدو شديد الذكاء واضح الحكمة ...قولك يتسلل إلى العقل فيقنعه ..ثم صاح
- ولكن يجب أن نطوف حول الكعبة علي الأقل حتى يغدو هذا الحلف مقدّسا

=====

طابت لياسر الحياة في مكة واجتهد في سبيل العيش وتيسرت له سبل الرزق ..وعُرِف بين الناس يذكائه وخلقه الحسن وخفة روحه فأصبح محبوبا من القرشيين .. وأعرب لأبي حذيفة عن أمر كان مترددا في الإفصاح عنه فنال قبول أبي حذيفة ورضاه واصبح ياسر زوجا لسمية ..وضاعف من سرور ياسر أن قال له السيد القرشي .إن أولادك منها أحرار ..وعاش الحبيبان في دار جديدة ينهلان من الحب والألفة والحنان ما يبددعنهما الشعور بالغربة والوحشة ..زتشعر سمية أن زوجها قد عوّضها عن أهلها الذين فقدتهم وحرمها الرق إياهم ..ويشعر ياسر أن أملا غامضا كان يراوده منذ كان صبيا مميزا يختلف عقله عن عقل أقرانه في تهامة - بدا الآن وشيكا قريبا من روحه ...كان برغم تفكُّهه ونشاطه وإقباله على الحياة يحس بأنهمحاط بإطار أسود كثيف الظلمة يصحبه أينما ذهب ..يريد أن يحطمه أو يفلت منه ولا قدرة له على ذلك ..ومنذ حلّ بأرض مكة مع أخويه ...زشعر بأن الكون هنا يتمخّض عن أشعة تتسلل بين كيانه واهنة ..واهنة .. ولكنها لم تبدد بعد الظلمة التي تحيط به ...ورغم ذلك فقد دفعت إليه شيئا من الأمن والبشر والسكينة ...وتطيب نفسه لمّا يدر ك أن سمية لا تبادله حبه فحسب بل تشاركه ما يدور بذهنه من فكر وما يملآ قلبه من شعور ..بل ربما تشعر هي الأخري بذلك الإطار المظلم وتشاركه الرغبة في الخلاص منه ..كان يسعد حينما يراها معه بفكرها وحواسها وقلبها حينما يخلو إليها ويقول -- يقول بعض القرشيين إنني لا أذهب إلى آلهتهم ولا أجلّها ..إني أتعجب من هؤلاء الذين يصنعون يصنعون الأشياء ثم يعبدونها ... كانت سمية تسمعه وتومئ له وكل خلجاتها تردد ما يقول وتسلّم به ..وكان يدرك ذلك فيشعر بأنه ليس غريبا منفردا وأنه ون كان حائرا فهو أفضل من هؤلاء الضالين الذين يعبدون تلك الأحجار الصماء التي يصنعونها ..يا لسخف عقولهم
---- وحين مرت الأيام على الزوجين المتحابين وزادت الأسرة الصغيرة فردا شعر ياسر بأن ثمة جلاءً وشيكا لتلك الحيرة التي لازمته منذ صباه ..شعور بالسعادة واللهفة والغبطة قد اعتراه ..لكنه امتزج أيضا بحرقة المتسرّع وكلل الباحث الذي طال بحثه .... لم تقتنع نفسه وهو يرى أن ابنه - عمّارا- وقد أصبح صبيا يانعا مطيعا شديد الذكاء ..لم تقتنع نفسه بأن غايته قد تحققت ..لكنه كان يحس أن ثمة صلة بين عمار وبين هذه الغاية المأمولة ..فمنذ ولِدَ عمار وهو بشعر بهذا الشعور ...وها هي الدنيا تتغير حوله .. يموت أبو حذيفة الطيب الكريم ...وتسري في مكة روح جديدة وأحداث لم تكن مألوفة فيتغير وجه الحديث الذي كان يدور في الأندية والطرقات والأسواق ...استبشرت نفوس وأشرقت وجوه بينما اربدت وجوه أخرى وملأ الغيظ والحقد قلوبا أخرى ..تفرقتْ بعض الأسر وثار بعض العبيد على أسيادهم ...ويدور بين ياسر وسمية حديث عن رؤيا رآها فتوميء إليه امرأته راضية مستبشرة وتشير إليه بأن يذهب إلى شيخ قريش علّه يسمع عنها خيرا
عاد ياسر إلى داره حانقا مكدود الفكر ..فقد ذهب إلى نادي بني مخزوم كي يقص رؤياه ..فقابله الجمع بفتور ثم ما لبث أن أدرك سر هذا الفتور حين هاجمه عمرو بن هشام ذاكرا أنه لم يشاهده قط يتقرب إلى آلهنهم ولم يسمعه قط يذكرها بخير ..ثم أنبأه النبأ الذي هزه هزّا عنيفا وجعل العرق الغزير يتفصد من جبينه ..مبديا أن عمارا قد صبأ وأصبح من أتباع محمد وأنه شوهِد يدخل دار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها محمد بأصحابه ...وما أن ولج ياسر باببيته مثقلا بالتأنيب والتهديد الذي صبه علي رأسه عمرو بن هشام والنحيطون به ...حتى أقبلت عليه زوجته متهللة صائحة بأسارير منبسطة كطفلة سعيدة بهدية جديدة
- أبشر يا أبا عمار .. قد جاءنا ولدنا بخبر كبير ...حدّثني عنه منذ قليل
أبعدها عن طريقه بعنف وجلس متهالكا ...تعجبت مما فعل ..نهضت وعادت إليه ثانية بحذر وقلق وقالت بصوت حانٍ
- ماذا بك يا ياسر ؟ قلت لك أبشر واسمع ما جاء به عمار .زإني أحس إني أحس إني ....ثم توقّقفتْ وابتسم وجهها بالنور والإشراق المندّى .. وتهدج صوتها ..فتقدم عمار إلى والده الذي كان ينر مكد ودا مشدوها
- إنها بشرى يا أبي وخير ما بعده خير
رمقه ياسر بحدة وقال بنبرة محتدة
- هل هو ما أخبرني به عمرو بن هشام من أنك اتّبعت محمدا وأصحابه ؟
- أجل يا أبي ..اتبعتُ محمدا صلى الله عليه وسلم الرسول الأمين وآمنت بالله الواحد الأحد الذي خلق السموات والأرض

=======

قال أبو جهل موجها موجها حديثه للوليد بم المغيرة زعتبة بم ربيعة وأبي سفيان وعيناه تقدحان شررا
- ألم أقل إني ما عهدته إلا مسفها لآلهتنا مجتنبها ..لقد صبأ هو وزوجته وابنه .. ولا شك أنه صبأ من قبلهما ثم تبعاه ...لأذيقن هذا التهامي الخائن وأمة أبي حذيفة وولدهما من العذاب ما لا يحتمله بشر حتى يرجعوا وليكونوا عبرة لغيرهم وعليكم أنتم أن تفعلوا بالصابئيم من عبيدكم وغيرهم مثل ما أفعل!

وشُغِل القومُ كل يوم في مكة بنبأ جديد عمن أسلم وآمن بالله الواد الأحد وبمحمد رسوله ..وأحرق الحقد قلوبا وعمر الإيمان قلوبا ..وأُعِدّت آلاتُ التعذيب وتنوّعت وسا ئله ...وأسرع أبة جهل مع بعض فتيانه ورقيقه وأتباعه يُخرجون ياسرا من محبسهم في داره ليذيقوهم ألوان العذاب ..ثم يعيدهم أبو جهل إلي محبسهم وإبمانهم لا يهتز ..فيستشيط غضبا ..يعود ليطرحهم على الرمضاء ويضع الصخور على صدورهم ..عسى أن يهتز إيمانهم ..أو يذكروا محمدا بسوء ..لكنهم أبدا لا يخمدون نار الحقد التي تتأجج في صدر أبي جهل وأتباعه ...يلهبهم بالسياط ..يحرقهم بالنار ..يدميهم بالرماح ..و هم صابرون صامدون ..مؤمنون ثابتون ...ويتعب أبو جهل وأتباعه .. ويدرك ياسر رغم العذاب أن حلمه قد تحقق ..عقله يؤوب وهو بين الأصفاد وتحت الصخور ومكاوى النار إلى حيث أيام الحيرة في تهامة والأخ المفقود والجوار مع أبي حذيفه وإلى الإطار الملم الذي كان يحيط به ولا وجود له الآن فتتفتح أمامه كلُّ الرؤى فيطيب نفسا ويدرك أنه ما غادر تهامة إلا لموعد ..إلا لكى يدرك النور ويهتدي به ..وكيف له أن يتألم بعد ذلك بطعنة رمح أو ثقل صخرة ؟ ..تتوالى ضروب التعذيب بلا نتيجة تشفي صدور المشركين ..يجنُّ أبو جهل .زيتعالى صراخه الهستيري ويتقد ..يمسك برمح ويضرب ..يضرب ..ويطعن بجنون فتشهق سمية ومن بعدها ياسر ..وتلتقي روحه بروحها في طريقهنا إلى الجنة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى