أمل الكردفاني - هل تؤثر طبيعة اللغة على القدرة على التعلم؟

▪ ان قضية اللغة تشغلني جدا رغم انني لست متخصصا فيها ؛ لكن حتى دراسة القانون تطرح لنا اشكاليات عميقة في اللغة. وهي اشكاليات تتفوق على ما تطرحه فلسفة اللغة المحضة نفسها ؛ لأن القانون ليس فقط نصوص لغوية تستخدم كتعبير عن تطلعات طبقة او نخبة مثقفة بل هو ايقاع عملي تطبيقي على الحياة ، بحيث قد يترتب على العقدة اللغوية اعدام انسان او براءته ، او امتلاء ذمة انسان المالية او افتقارها واعسارها. إن القانوني ربما يواجه اشكاليات حقيقية في اللغة اكثر من اللغوي الذي يناقش اللغة بشكل تجريدي او نظري . وبالعودة الى التساؤلات العديدة التي تطرح نفسها في ذهني ؛ فالسؤال الذي سأحاول ان اناقشه هنا هو ما اذا كانت صعوبة او بساطة اللغة تؤثر في قدرة استيعاب الانسان للعلوم المختلفة انسانية أو طبيعية. فقد لاحظت مثلا ان هناك معاناة كبيرة لدى القانونيين عند كتابة المذكرات القانونية لغويا ؛ والاشكالية ليست فقط في فهم قواعد اللغة النحوية او الاملائية ، بل حتى في بناء الجملة لتشكل سياق قادر على التعبير عما يدور في خلد الكاتب. لماذا تبدو اللغة العربية شديدة التعقيد هكذا ، وهل لو كانت اقل تعقيدا مما هي عليه لكان بامكان هؤلاء الذين يعانون اليوم في التعبير عما في ادمغتهم من تجاوز هذه المحنة؟ لاحظت ان الكثير من الناس لديهم القدرة على الكتابة باللغة الدارجة ، وسائل التواصل الاجتماعي تضج بالمقالات المكتوبة بالدارجة ، حتى الويكيبيديا لم تسلم من شرح المواضيع بالتجاوز للغة الفصحى. هل تبدو الدارجة -التي تخلصت من التعقيدات اللغوية - اكثر تأثيرا على امكانية تلقي الفرد للمعلومة. فلنلاحظ ان الكثير من الناس لا يستوعبون البرامج التعليمية او الدينية الا ان كان الخطاب فيها باللغة الدارجة . تخيل ان يدخل استاذ الى طلبة في الصف الاول ويخاطبهم باللغة العربية الفصحى. لذلك فمسألة صعوبة اللغة في نظري تلعب دورا كبيرا في تشتيت انتباه المتعلم. ولكن اين تكمن صعوبة اللغة العربية؟ اللغة العربية من اصعب اللغات ، فهي لا تترك شاردة ولا واردة الا وتبنتها داخل قاعدة من قواعدها... فمخاطبة الانثى تختلف عن الذكر ومخاطبة الفرد تختلف عن المثنى والجماعة ، ..الخ . ربما نلاحظ أن اللغة الانجليزية على سبيل المثال تحللت من محاولات التصنيف والتمييز اللغوي ، واتذكر ان مجموعة من اللغويين الفرنسيين طالبوا بالغاء التمييز اللغوي على اساس الجنس. لكن هل هذا يعني أن على اللغويين العرب وعلى مجامع اللغة العربية ان تبدأ في عملية التخفف من اشتراطات اللغة المختلفة مكتفية بالفهم العام لسياقات الجمل. هل تؤدي تعقيدات اللغة الى قدرة اكبر على التعبير لمن يمتلكون ناصية اللغة؟ ومن ثم فعلينا ان نلقي وراء اظهرنا مسألة تخفيف اللغة من اثقالها. وكيف نوازن بين تماسك اللغة وبين طموحات التبشير بها عالميا . لقد التقيت بطلبة من انحاء العالم المختلفة ابان فترة الدراسات العليا ، وكانت اللغة العربية تمثل لهم هاجسا وجبلا صلدا لم يقدروا على هده. كان بعضهم يطلب مني مراجعة بحثه ، وكنت اجد جملا مفهومة من سياقها الا انها -وبحسب ما اعتدنا عليه- تعتبر ركيكة جدا- يمكنني أن افهم ما يقصده الكاتب ومع ذلك لا استطيع ان اخفي استهجاني من الركاكة. طبعا استهجان ركاكة اللغة هو مسألة ثقافية ولكنها نفسية اكثر من كونها ثقافية، انها شعور متوهم يقترب من فكرة القومية والوطنية والانتماء لفريق كرة قدم. هي هنا تمثل هوية ويمثل انتهاكها انتهاكا للهوية ؛ وبعد كل هذه السنوات ، اعتقد انني تراجعت عن فكرة الحفاظ على شرف وطهارة اللغة وجعل قواعدها وسياقاتها بكارة لا يجب ان تفض ابدا من قبل الآخرين. واذ كنت دائما ما اعمل على تصويب من يخطؤون الا انني اليوم لم اعد انظر الى اللغة الا من جانبها الاداتي باعتبار وظيفتها في تحقيق التواصل. واعتقد ايضا ان التخلص من تحول اللغة الى ايدولوجيا سيعيننا كثيرا على محاولة استقطاع الكثير من المحسنات التي لا فائدة منها الا على مستوى الأدب النخبوي. وهذا بالفعل هو ما حدث لجميع اللغات عبر العصور ، فلغة قصائد الشعر الجاهلي ليست مماثلة للغة العصر العباسي ، ولغتنا اليوم ليست هي نفسها لغة الامن ولغة شكسبير ليست لغة توني بلير اليوم... إن اللغة في الواقع تتخفف من ارديتها الشتوية غير المناسبة لفصول الانفتاح المعرفي عبر العولمة. لكن دعوتي هذه ليست محسومة بالنسبة لي كعقيدة بل هي مجرد عصف ذهني ، قد يقابله الليبراليون بترحاب وقد يرفع له حراس المعبد السيوف...وفي كل الاحوال ، فان اللغة وجدت من اجل الانسان ولم يوجد الانسان من اجل اللغة... وهذا ما يجب ان نضعه دائما في الحسبان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى