محمد بنيس - لقاءات مع جاك دريدا...

1

نعي الأصدقاء يصل عبر الطرق الألف. وكذلك كان وصول نعي جاك دريدا. في فرنكفورت. وسط ضجة عالم الكتب والمؤلفين في بداية جديد قرن. أكثر من يد تشدك لتبلغك الخبر. توفي جاك دريدا. وأنت تجيب "أعلم". كان النعي وصلني في الصباح الباكر. وجهه. صوته. حركات عينيه. محفظته المحمولة فوق الكتف. غليونه. جاك دريدا. في السنوات البعيدة التي لا تزال حاضرة في جسدي. والنعي غير المفاجئ كان، مع ذلك، صدمة. صباح لموت آخر. صديق ظل صديقا على الدوام. لا أستحضره لأنه لم يغادرني. لا أتذكره لأنه في ذاكرتي يقيم. وأنا أتلقى النعي من مغاربة وعرب وألمان.

مع النعي أصبح السؤال عن الموت والصداقة والثقافة يحفر في الصدر أعماقا أكاد لا أراها. أحسها تنزل إلى أسفل. مظلمة. باردة. أحس هذه الأعماق تتكاثر وأنا أبحث عن منفذ إليها. لست أدري ما الذي كنت أريده منها. أو ما الذي كنت أريد أن أفعله بها. وجه جاك دريدا. وجهه. حديثه المطول معي لسنوات. وأنا أتذكر بعضا منه، حرفا حرفا. قبل الحديث معه كانت لي القراءات. وهما معا ينطقان بهذه الصداقة وبحبي للتعلم من مفكر كان قريبا من الأسئلة التي تعنيني. في زمني. هل هذا هو معنى التاريخ الشخصي؟ هل هو معنى الحياة؟ لست متأكدا من جواب لإثبات ما. هناك الوجه والصوت واللحظات والأعمال والمواقف. أظن أنني أهذي وأنا أستيقظ في يوم من أيام وفاة صديق. لربما أصبح هذا اليوم هو القابل للتجدد أكثر من سواه. أصدقاء غابوا في السنوات الماضية وآخرون يغيبون. جاك دريدا ليس مجرد واحد من الأصدقاء. إنه المعلم.

قبل سنة، على إثر وفاة محمد القاسمي، تذكرت السهرة التي هيأناها، سنة 1988، في بيته بتمارة مع جاك دريدا. سهرة جمعت أصدقاء للفلسفة والشعر والرسم والأدب. سهرة أخرى تذكرتها مع جمال الدين العلوي في "مطعم العنبرة" بفاس. عندما قال جمال الدين إن الأعمال التي يؤلفها هي من قبيل الصناعة التقليدية أجاب دريدا بأنه هو الآخر صانع تقليدي ومؤلفاته تنتمي للصناعة التقليدية، لأن الفكر لا يمكن أن يكون منتوجا صناعيا ولا يمكن أن تنتجه معامل. سنوات. تلمع في ذاكرتي. لا أغيب عنها. في الزوايا الخفية أنفرد بها. وأمضي مع السؤال عن الموت، معنى الموت.

2

كان اللقاء أول مرة مع جاك دريدا عبر كتاب "الاسم العربي الجريح" لعبد الكبير الخطيبي. كنت شرعت في ترجمته سنة 1979 على إثر إجرائي جراحة. كنت أريد أن أبتعد عن عالم المستشفى والمرضى والليالي البيض. وجدت في طلب عبد الكبير الخطيبي أن أترجم كتابه ما يغريني. وهو بجانبي في المراجعة والتدقيق. كانت طريقة الخطيبي في الكتابة عن الجسم العربي تستلهم مجموعة من الكتاب الفرنسيين الذين بدأوا يطرحون خطابا جديدا يعتمد اللسانيات والسميائيات والأنتروبولوجيا والتحليل النفسي. ليفي ستروس، رولان بارط، جاك لاكان، إميل بنفنيست وجاك دريدا، إلى جانب أسماء كنت أعرفها، مثل ماركس ونيتشه وفرويد. في بداية السبعينات، كنت تعرفت إلى رولان بارط، في الوقت نفسه الذي كنت تعرفت إلى دو سوسير. لكن جاك دريدا لأول مرة كنت ألتقي به في كتاب الخطيبي. عنوان كتابه الذي كان يتردد في كتاب الخطيبي هو "عن الغراماتولوجيا" أو عن علم الأثر. كنت خارجا للتو من لوسيان غولدمان. والجدل حاد عن البنية والتاريخ. دريدا كان يتناول مسألة أحسستها قريبة من الثقافة العربية. إنها الصوت والخط، ثقافة الصوت وثقافة الخط، الأثر، في الفلسفة الغربية.

قراءتي لكتاب دريدا استغرق مني شهورا طويلة وأنا أحاول فك ألغاز فكر غريب عما حاولت أن اتعلمه بمجهودي الخاص. ثم في الرباط، وبفضل عبد الكبير الخطيبي، التقيت جاك دريدا أول مرة. ملتقى دراسي عن الزمن والهبة. حضرت مقاطع من هذا الملتقى الذي استغرق ثلاثة أيام. كلمات ودية، تلقائية، عن الشعر والفلسفة والتربية. وأثناء الحديث استجاب لطلب المشاركة في "الثقافة الجديدة". تلك رسالة واضحة. دريدا يدافع عن ثقافة قريبة مني ومن متخيلي عن المثقف، بعكس ما كنت أعيشه من عذاب يومي، في الوسط الثقافي المغربي. خطاب معرفي يهدم الحدود بين الفلسفة والأدب والفنون والتاريخ والسياسة والعلم. وفعل الفيلسوف هو الاشتغال على اللغة والأنساق. أسماء هيدجر ونيتشه وملارمي وأرتو وباتاي وجان جوني. وفي السنوات اللاحقة مؤلفات جعلت لقائي به متعددا، يعبر الفضاءات ويختار الصداقة.

بعد إنشاء "دار توبقال" مع أصدقاء، وضعت أمامي جاك دريدا. إنه مفكر المستقبل. تحتاج إليه الثقافة العربية. وبالتنسيق مع كاظم جهاد، صدرت سنة 1988 مختارات من دراساته تحت عنوان "الكتابة والاختلاف". استدعته "توبقال" بمناسبة صدور الكتاب فلبى الدعوة بفرح. اتفقنا على موضوعين للمحاضرات والأنشطة الموازية. في هذه المرة كان ما لا أنساه. في الرباط وفاس. جاك دريدا الفيلسوف الذي لا ينفصل لحظة عن جاك دريدا الإنسان، المغاربي، ابن الجزائر وثقافة المغرب والأندلس.

لربما كانت الشخصية الأوروبية الأولى التي التقيت بها هو رولان بارط. تم اللقاء في المغرب مرتين. الأولى في الرباط، حيث كان يدرس بكلية الآداب "والثانية في مراكش. وفي كلتيهما كان لي معه حوار مفتوح. لكن اللقاء مع جاك دريدا انتقل إلى مدى بعيد. في المصاحبة بين الأمكنة. في الجلسات. في الندوات. في الصمت والبوح. كنت لأول مرة في حياتي أشاهد في الرباط وفاس فيلسوفا من خارج المغرب يهز الجامعة والمعاهد العليا. جمهور من أساتذة وطلبة وكتاب ضاق عنه مدرج ابن خلدون. من بين الجمهور قادمون من مدن نائية قصد رؤية جاك دريدا والإنصات إلى محاضرته. أثناء إلقاء المحاضرة صمت فيه الانتباه وفيه المتعة. ثم مع طرح الأسئلة ظهر أشخاص في أحوال شطح وجنون. طلبة لا يحسنون لتحدث بالفرنسية وهم مع ذلك مصرون على الحديث. آخرون يحملون محافظ مملوءة بكتب وطوابع ومسودات. طالب يفتح المحفظة ويقدم خبزة إلى جاك دريدا طالبا أن يتقاسمها معه. وأنا أنظر إلى ما لا أصدق أو إلى ما لا أعرف. إلى مغرب مجهول. في عالم يسعى على الأرض ولا نراه. في مغرب يئن من العذاب. وفي زمن لا ندري إلى أين ينقلنا.

3

لقاء كان للبوح أيضا. قبل المحاضرة الأولى، التي كانت مقررة في مدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب، طلب مني جاك دريدا أن نذهب إلى مقهى، فاخترت "فندق فرح" المطل على نهر بورقراق. هناك لاحظت اضطرابه. سألته عن حالته النفسية حتى أطمئن فأجاب بأنه يكون قلقا قبل كل لقاء. القهوة مفيدة، قال لي. في المساء كان ميريمي، سفير فرنسا في الرباط، هيأ حفل استقبال على شرف دريدا. شخصيات من بين الفرنسيين والمغاربة. ديبلوماسيون. مثقفون. صحافيون. الأحاديث في الاتجاهات كلها. لدريدا قدرة على التحاور والمناقشة لساعات، لكن حفل الاستقبال طال. أشار إلي بالانصراف فانصرفنا. وفي السيارة طلب مني تشغيل شريط الموسيقى الأندلسية والطواف به مرتين على طريق شاطئ المحيط. كان حانقا وحزينا. عالم الديبلوماسيين أتعبه. مرة بعد مرة ينطق بجملة موجزة. بحكم. برأي. الدورتان تحولتا إلى دورات وأنا أحسه كما لو كان يتطهر بالموسيقى الأندلسية من الاختناق في الخندق الديبلوماسي الذي وجد نفسه فيه ضائعة.

بوح مستمر لجاك دريدا. هو الحديث عن الثقافة الفرنسية والكتاب الفرنسيين. مرة، ونحن نتكلم عن الوضع الثقافي في فرنسا وعن وضعيته الشخصية، ذكر لي أنه غريب وقد قضى زمنا طويلا من الغربة في فرنسا. كان يعيش ويدرس وينشر في فرنسا على أن الفرنسيين لا يعترفون به، لا يهتمون بما يكتب. أكثر من ذلك، كانوا يتجاهلونه. الأميركيون هم الذين اكتشفوه، وبعد الأميركيين الألمان. وهو عاد إلى فرنسا بعد أن أصبح معروفا في كل من أميركا وألمانيا. حركة شفتيه تمتزج بحركة عينيه. وفي كلامه نبرة مقاومة، هي نفسها التي لاحظتها في أحاديثه على مر السنوات. حديثه عن فيليب سوليرس كان تعبيرا عن خيبة لا يصدقها هو نفسه، إلى حد أنه كان مستعدا، في المرحلة الأولى من مجلة "تيل كيل" وكتابات فيليب سوليرس، لأن يلقي بيديه في النار قسما على أن سوليرس لن يحيد عن موقفه. وهو ما كذبه الزمن، فأصبح سوليرس أحد الكتاب الإعلاميين.

والبوح بالأحوال أيضا. في فاس شاهدت جاك دريدا في حالة شطح لا تنقطع، نهارا وليلا. في بهو المطار تلكأ أكثر من مرة. رغما عنه غادر المدينة. البيوت. العمارة. النقوش والزخارف. صوت الأذان. الأسواق القديمة. الطيوب. الأضواء والظلال. المتاهات. الأغاني. الحرفيون. وهو يكلمني عن طفولته في الجزائر. عن ثقافته اليهودية المنسجمة مع ثقافته العربية. وقف عند عتبة دكان خراز يصنع بلغة. وفي موطئ القدم يختم الخراز الجلد بختم. إنه إمضاؤه. علق دريدا. وكان سعيدا.

مشهد آخر ظل صامتا لسنوات قبل أن يظهر في كتابه الصادر في السنة الماضية 2003 بعنوان "الخبثاء"، إذ "الخبيث، هو الآخر دائما، المشار إليه بالإصبع من طرف البرجوازي المصيب في تفكيره، من طرف ممثل النظام الأخلاقي أو القانوني" كما يعرفه دريدا في الكتاب نفسه. ذلك المشهد الموالي كان في الفخارين. أمام خزاف. هذه المرة، ظل دريدا مشدودا بكامل جسده إلى الخزاف الذي يصنع آنية من طين. أكثر من عشر دقائق وهو ينظر بدقة إلى يدي الخزاف، إلى الطين، إلى الحامل الخشبي الذي يدور بحركة من قدم الخزاف. شكل الطين الذي يتغير برهة بعد برهة. والطين يلمع بين يدي الخزاف. ينحف. تجويف بارز للطين. ثم يستوي الطين إناء بين يدي الخزاف. هذه الصورة هي التي أعطاها دريدا عنوان "العجلة الحرة" في المقال الأول من فصل "منطق الأقوى". فصل بتمامه يلعب فيه دريدا بصورة دوران عجلة الخزاف. وفي لحظة من الكتابة، بين قوسين ملتبسين، يكتب عن العجلة والدوران والخزاف. خزاف يلعب بالآلة بكل جسده، بقدميه ويديه. "إنه نحات، مهندس معماري وهو. بدوره، مرة تلو مرة، شاعر أو موسيقي، متكلم بليغ أو خطيب سياسي، بل هو فيلسوف". مشهد كنت تابعته بصمت ولم أسأله عما فكر فيه ولا كيف ينظر إلى الخزاف. سنوات مرت على هذا المشهد في الفخارين، ثم في "الخبثاء" تظهر الصورة كما لو كانت وصية، من خلالها قرأت فكرا يؤلف بين ثقافات فيما هو يعثر في طفولته وفي صناعة تقليدية عريقة ما نعجز عن التعبير عنه، نحن الذين نتقاسم وإياه هذه الثقافة.

4

ذكريات تراكمت عبر سنوات من الحوار. بين الرباط وفاس وباريس. لحظات بمثابة آثار. اقتصر على وقائع محدودة. في مقهى شيرش - ميدي بباريس كان لي، سنة 1994، معه موعد. بعد تناول طعام الغذاء وقفنا لتناول قهوة سريعة. التفت فإذا بمحمد خير الدين يتقدم نحونا. سلم علي وعلى جاك دريدا ثم بادره باستفسار عما إذا كان يعرفه. أجابه دريدا للتو. أنا أعرفك جيدا وقرأت لك كتبا. من بينها "أغادير". انشرح صدر محمد خير الدين ولم يتوقف عن الكلام بصوت مرتفع كما هي عادته. لم ينزعج دريدا. وعندما حان وقت المغادرة حيا دريدا محمد خير الدين واتفق معه على موعد في المقهى نفسه. واقعة ثانية. كلمتني كوليت دوبلي عن لقاء يجمعني مع جاك دريدا في معهد العالم العربي عن أعمالها الفنية. كنت محرجا. عندها حدثتني عن رغبة دريدا في أن ألقي كلمتي إلى جانبه. وفي يوم اللقاء كنت مضطربا. وبدلا من أن يتركني، بادر بطمأنتي قائلا إنه هو الآخر مضطرب. وهي حالة لا يختلف فيها عني. عندها انتبهت إلى أنني مع مفكر لا تنفصل الرؤية الفلسفية لديه عن رؤية الصداقة. ثم لحظة ثالثة. بدعوة من صديقه عبد الكبير الخطيبي، عاد جاك دريدا إلى المغرب سنة 1997 للحوار مع باحثين ومفكرين مغاربيين في موضوع الثقافة العربية. بدلا من الاستبداد بالكلام، أوضح دريدا أنه سيكتفي بالتعليق على العروض التي سيلقيها المشاركون، انطلاقا من طريقته في قراءة النصوص. طيلة اللقاء كان دريدا ينصت، يسجل ملاحظات. وبعد انتهاء المتدخل يأخذ دريدا الكلمة لا من أجل الفصل والحكم، بل ليفتح سبل الحوار عن ثقافة لا يعرفها كما يعرف الثقافة الغربية.

5

وجه. نظرة. كتابات. صداقة لسنوات. وفي كل ما قرأته وعشته، كان دريدا الفيلسوف الذي يقترب من أصدقائه المغاربيين والعرب. صفاء فتحي من أقرب أصدقائه. ومعها أنجز شريطا وثائقيا عن طفولته وعن الذكريات والحنين واللحظة التي لا تعود والموت. على يديه قرأت فكرة مختلفة عن هيدجر وبول تسيلان وفرنسيس بونج والرسم والعولمة و 11 أيلول سبتمبر والضيافة والجزائر وفلسطين والجامعة والمقاومة. ودريدا، الذي كان قريبا مني، هو القريب الآن مني. من حيرتي. وفي السؤال عن الموت، معنى الموت، ينحفر أثر النشيد.



-----------------------------------
جريدة الحياة 22/10/2004
رقم العدد: 15183

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى