جوتيار تمر - قراءة في لاوعي قصيدة "منذ آدم" للشاعرة ضحى بوترعة

النص: منذ آدم

منذ آدم والأرض تضيق
رويدا رويدا
بيت مغلق وشوارع تومض في الذاكرة
حين يعتريها طعم البكاء
منذ آدم لاشئ قد ينام بعد العشب
كما لو كان جدارا آخر لموعد العشاق
منذ آدم والأرض بيت مغلق
والعابر منذ قليل وسط الضوء
سوى شاعر أنهكته العبارة
منذ آدم والغريب يبحث
عن رصيف يليق به
منذ آدم........ وآدم يبكي............
ويوزع هزائمه على العابرين




القراءة : جوتيار تمر

منذ آدم، أيعقل ان تكون الشاعرة قد وظفت هنا : منذ" للاستدلال على المسافة الكونية كتحديد واعي للسيرورة الروحية الوجدانية ضمن اطار اجمالي وافي ومتيقن للبعد الاستكشافي للكم الزمني والهوة المفرغة بين آدم وبين الآن الحالي، تلك اذا احجية "منذ" في استقطابه للابعاد المتمكنة اولاً والمنغرسة ثانياً في صندوق اللاوعي، حيث جلب الفكرة ومزجها بالصورة المستحدثة لتمتزج وبالتالي تفرغ ايقونة مقدسة عند الذات الشاعرة من جهة، ومشهد ابداعي تراكمي في صيرورته يحتاج الى التأني والتأمل للتأويل من قبل المتلقي من جهة اخرى.

هكذا حفرت ضحى رؤاها لتخمد هيجان الثورة المؤملة من اللاوعي الاستحضاري المنتمية للصيرورة التاريخية للبشرية التي بدأت ب" آدم" واستمرت "منذ" لتسكن روح ضحى وتستفز الصور المتاخمة والمتعلقة في نفس الوقت بذاكرتها والتي بدورها تحرك رؤاها القائمة بذاتها، لتصبح في نهاية المطاف قصيدة بعنوان خرافي مستحيل من حيث البعد الزمني والادراكي والتجميعي، لكنه ممكن من حيث الرؤية الشعرية باعتبار ان الشعر هو خالق لكينونته ومساره الزمكاني.

منذ آدم والأرض تضيق
رويدا رويدا
بيت مغلق وشوارع تومض في الذاكرة
حين يعتريها طعم البكاء


لذا نرى ضحى ضمن تقديم اولي للنص تحاول ايقاظ اللاوعي البشري على اسس نابعة من التصوير المجازي والتحفيز الادراكي، فالابقاء على "منذ" بعد العنوان والحاق فعل ك" تضيق" بها بلاشك تجعل من عملية التلقي اشبه بمن يعيش حالة من الدهشة المعلوماتية، لكون الحقائق تثبت الرؤية بلا جدلية، لاسيما انها تواكب المعقول الواعي والادارك الحسي المستيقظ والمتيقن من حيث سير الارض نحو التضييق، لكن أيعقل ان تكون ضحى تجهل بأن مثل هذه المعلومة ممكنة ومتداولة فتأتي على ذكرها، اذاً اين التحديث الفعلي للتوظيف الدلالي،، قد يكون الامر برمته تحوير بلاغي لغاية اعمق،، ويظهر ذلك بشكل اقرب الى مسار التوظيف من خلال التوجس الذهني الذي يسفره التوظيف نفسه، حيث هذا التوجس نابع من قيمية تصويرية برؤية مثبتة مسبقاً في ذاكرة المتلقي والتي يمكن القول بانها تجتاح عقله الباطني اللاوعي، لكنها تتراكم بشكل تثقل كاهل النفس والروح والقلب والعقل معاً، ولاتجد عند ضحى غير الشعر كمنفذ اساسي وفعلي لتخرج وتمتزج بالحقائق التي هي رهان المتلقي في حالة استنفاره الذهني الادراكي من جهة،، وتراكميتها الباطنية من جهة اخرى، وهذا ما تبرهنه ضحى من خلال توظيف المعلومة في اطار تحفيزي واعي متعمد، ومستفز في الوقت نفسه للمعلقات الباطنية في اللاوعي، فعند التوقف عند " منذ،، الارض،، تضيق،،رويداً" نجدها تفرز بالجملة صميم الرؤيا التي سيأتي كل شيء بعدها ليكون امتداد وصفي مجازي لتلك الرؤيا التي اعتمدت التضييق كأساس لانطلاقتها، فالبيت المغلق، والذاكرة التي تومض ميها الشوارع، والبكاء كل ذلك نتيجة حتمية للتضييق الحاصلب مسبقاً والمستمر ازلياً.

منذ آدم لاشئ قد ينام بعد العشب
كما لو كان جدارا آخر لموعد العشاق


لااعلم لماذا اصرت ضحى على "منذ" وكأنها تريد صقل المسافاتية النابعة من رؤاها الخارقة للزمنية الممكنة في ذهن المتلقي كمحفز استداركي لوقائع باطنية معلقة على حافات الوعي ضمن حدود تمت بتراكميتها الى اللاوعي، فيأتي التكرار ليس من باب ضعف البنية النصية ولا نقص معجمي بلاغي، انما كتأكيد مدرك لصيرورة لاتنتهي، لكنها في نفس الوقت غير ممكنة وجودياً من حيث السيطرة على حراكها او ايقافها،، فالعشب حتى ان تأخرت مواسم المطر تبقى ارضيته ملائمة خصبة منتظرة لاستقبلال زخاته، ولهذا لاحدود لسطورة العشب، وضحى تدرك ذلك لهذا نراها تؤكد استحالة التغيير بعد ان استيقظ العشب " لاشيء قد ينام " ولن ينام بلاشك،، هذا الادراك آت من باب مزج المعلقات في اللاوعي بالموجودات الحسية، ولو كانت الامور على غير هذا المنوال لكانت النتيجة الحتمية اللاشيء في اللاممكن، وكلاهما حصيلة جبرية لتوقف مداد العشب، لكن ضحى لاتؤمن بتوقف المداد بل تؤثث لحركية العشب بعد الحراك الاول وتحيل " كان " والصورة المعلقة على تلك الجدران القديمة الى"منذ" كاستدلال استمراري.

منذ آدم والأرض بيت مغلق
والعابر منذ قليل وسط الضوء
سوى شاعر أنهكته العبارة
منذ آدم والغريب يبحث
عن رصيف يليق به
منذ آدم........ وآدم يبكي............
ويوزع هزائمه على العابرين


على هذا الاساس تأتي ضحى لتؤكد للمرة الثالثة والرابعة والخامسة بعد العنوان على "منذ" وضمن اطار تدويري بلاغي شبه عام، حيث تلازمية الارض والبيت المغلق تعيدنا الى الصيغة الاجمالية للرؤية التي افرزتها " تضيق" سابقاً فيكون اللاوعي هنا محرك ورافد اساس للصور المستقدمة والملتقطة ضمن جغرافية رسمتها ضحى لترصد المؤثر فيها، وتحيلها الى الباطن المعلق فتأتي "منذ" اشبه بسيل جارف يمتزج بالآني فيصبح المقارنة صعبة بين" منذ " و " العابر" وكذلك كل ما يجعل من الشيء معيناً على عدم اصفرار العشب، واستمرار نعومته،، وهذا بلاشك يستوجب استدراكات مسبقة والتقاطات حديثة ليصبح للمشهد الحي المنقول مباشرة قيمة فعلية عند ضحى، وهي لم تبخل في تحريك واستفزاز المستدركات الساكنة في اللاوعي، كما انها لم تقصر في ايضاح رؤاها ضمن الصور المحفزة لذاكرة المتلقي ايضاً، فكان العابر شيئاً على الرغم من خوار قواه وقسوة رحلته وغربته في العبارة المحملة بعبء البدء شيئاً محفزاً لأن لاينام العشب وتبقى الرحلة مستمرة، حيث البحث الازلي، حتى وان كان ذلك قد اوجب فطاماً جبرياً في احيان كثيرة الا انها لم تقتل الرغبة في ايجاد الملاذ على الرغم من الهزائم المستعرة، بل نجد ضحى تؤثث دائماً لخلق مساحة " رصيف" لدافع استكمالي لضمان البقاء ضمن دائرة "العابر" وعلى الرغم من كل تحفيزات الوعي والتقاطاته الآنية الحديثة، الا ان الاستدراكات الباطنية والمحفزات المتوغلة في اللاوعي تبقى في اعتقاد ضحى عاملاً اساسياً في تمكين الشيء بعد النوم بعد العشب، حتى وان كانت الارض تضيق، والبيوت تغلق، والذاكرة لاتومض الا بالشوارع ومحركات الارصفة وخفاياها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى