محيي الدين علي حميدي - التفكيكية بوصفها نظرية من نظريات الترجمة المعاصرة

تنويه :
توخيت في هذه الترجمة نقل معنى الأصل كما فهمته دون تدخل، وهكذا تبدو الترجمة متأثرة بمعنى الأصل الذي يرى التفكيكيون أنَّ لا وجود ثابتاً له. وهكذا يمكن للقارىء أن يدرك مدى صعوبة نقل نص تقول أفكاره بعدم وجود معنى ثابت فيه أصلاً. لقد نقلت الأسماء الأجنبية وعناوين الكتب والمقالات والبحوث التي أوردها النص كما هي و أردفتها بترجماتها في أول وقوع لها؛ واكتفيت بالعنوان أو الاسم الأجنبي لاحقاً. وترجمت مصطلح Différance الذي سكه دريدا اعتماداً على Differre اللاتينية (التي من معانيها: يؤجل، يؤخر زماناً، ويختلف... مكاناً) بكلمة "الاختليف" العربية التي لا تبدو عربية في صرفها ومع ذلك يدرك القارىء العربي أنها عربية دون أن يعرف كيف.

تعتمد كل نظريات الترجمة التي درسناها حتى الآن على شكل من أشكال التكافؤ: فهناك التجربة الجمالية نفسها( الفصل الثالث)، و التكافؤ الدينامي/البنيوي اللغوي (الفصل الثالث)، والوظيفة الأدبية المناظرة( الفصل الرابع)، أو ربط شكلي مماثل يحكمه القبول الاجتماعي في ثقافة اللغة الهدف (الفصل الخامس). ومع اختلاف المناهج، يوحد كل نظرية إطارٌ فكري يفترض وجود أصل وتمثيل له في المجتمع المتلقي. وحاول إيفن زوهار وتوري Even- Zohar و Toury التملص من القيد المعرفي الذي تفرضه قوة النص الأصل على الترجمة بمراجعة لمسألة الترجمة وفق مقتضيات النتاج الحقيقي بدلاً من مقتضيات نسخة "أمينة" مثلى، ولكن وجدا في النهاية أنه من الصعوبة بمكان التملص من القيود التي تفرضها عليهما جذورهما الشكلية، والمنهج العلمي، والتصورات المعرفية المزدوجة. ويبقى السؤال إن كان ممكناً التفكير بظواهر الترجمة خارج نطاق المقتضيات التقليدية. صاغت كل نظريات الترجمة حتى الآن فروقات صارمة بين النصوص الأصل وترجماتها، وتلك فروقات تقرر ادعاءات لاحقة عن طبيعة الترجمة. إلا أن التفكيكين يتبنون موقفاً مختلفاً تماماً حيال الأسئلة التي ترتكز عليها نظرية الترجمة. ومع أن بعض ممارسي الترجمة المحددين ينأون بأنفسهم عن استخدام مصطلح " التفكيكية" في صالح استخدام " الإنتاجية الإيجابية" ( فانس، Vance 1985: 135-6) إلا أنني سأستخدم مصطلح "التفكيكية" حفاظاً على الوضوح وخوفاً من الوقوع في اللبس.
تضم الأسئلة التي يطرحها التفكيكيون الآتي: ماذا لو عكس المرء نظرياً اتجاه التفكير وطرح فرضية مفادها أن النص الأصل يعتمد على الترجمة؟ وماذا لو اقترح المرء أن بقاء النص الأصل مرتبط بترجمته، وأن بقاء الأصل نفسه لا يعتمد على أي صفة بعينها يحتويها ولكن على تلك الصفات التي تحتويها الترجمة؟ وماذا لو أن تعريف معنى النص بعينه لا يقرره الأصل ولكن الترجمة؟ وماذا لو أن ليس للـ "الأصل" هوية ثابتة يمكن تحديدها علمياً أو جمالياً ولكن تتغير في كل مرة تخضع لعملية ترجمة؟ وماذا يوجد قبل الأصل؟ فكرة؟ شكل؟ شيء؟ لاشيء؟ هل يمكننا التفكير ضمن شروط قبل وجود الأصل، قبل الوجود ؟ لا يطرح التفكيكيون أسئلة تتحدى المفاهيم الأساسية المهيمنة في كل النظريات التي ناقشناها آنفا فحسب ولكن يطرحون أيضا أسئلة حيال الطبيعة الحقيقة لفعل مثل طرح تلك الأسئلة. ويشكك فوكوFoucault، كما سنرى لاحقاً، بمكانة السائل مقترحاً أن هذا العصر بعينه يتميز بدرجة أقل بأنه عصر يطرح فيه المرء الأسئلة، وبدرجة أكبر بأنه عصر الأسئلة فيه مصدرها شيء موروث في اللغة نفسها. ويذهب التفكيكيون إلى حد يقترحون فيه أنه ربما كان الحال في أن النص المترجم يكتبنا وليس نحن من يكتب النص المترجم.
تتحدى التفكيكية حدود اللغة، والكتابة، والقراءة من خلال توضيح كيف أن تعريفات الكلمات نفسها المستخدمة لمناقشة مفاهيمَ هي التي ترسم حدود النظريات المحددة التي تصفها. ومع أنها لا تقدم "نظرية ترجمة" محددة خاصة بها إلا أن التفكيكية "تستخدم" الترجمة غالباً في حالتين: (1)لطرح أسئلة تتعلق بطبيعة اللغة و " الوجود في اللغة"، إضافة لـ(2) اقتراح أنه في عملية ترجمة النصوص، يمكن للمرء أن يدنو قدر المستطاع من ذلك المفهوم المراوغ أو تجربة) difference الاختليف) بدلاً من "الاختلاف" الفصحى عربياً، المترجم) الذي يكمن تحت منهجهم. وهكذا يصبح مثل ذلك التفكير بطبيعة الترجمة وطبيعة اللغة مهماً لمنظرّي الترجمة، ليس لأنه يعرّف بالضرورة منهجاً أخرَ بل لأنه يعمق ويوسع الإطار الفكري الذي نعرف من خلاله الحقل نفسه. أرى أن التحول إلى موقف أكثر فلسفية يمكن من خلاله النظر بشكل أفضل إلى مشكلة الترجمة برمتها قد لا يفيد نظرية الترجمة فحسب، بل أنه بعد تلك المواجهة سيخضع الخطاب الذي حد من تطور نظرية الترجمة بدون أدنى شك إلى عملية تحول مما يسمح بظهور بصائر ومناهج بينية جديدة تمزق إن شئت شبكة متحجرة من المفاهيم والمصطلحات الجامدة.
لا يعتبر مترجمو الأدب أو اللغويون في الأوساط الأمريكية-الإنجليزية التفكيكية منهجاً يرتبط عادة بنظرية الترجمة؛ في حين لا يذكر وجودها في بلجيكا أو هولندا إلا قلة من الباحثين ناهيك عن اعتبارها مناسبة لنقاشاتهم. أرى أن مشروع التفكيكين برمته على علاقة معقدة مع أسئلة تمت بنظرية الترجمة، وأن تفكيرهم يحمل في طياته بذور أي فهم للمشاكل المتعلقة بعملية الترجمة. يقترح جاك داريداJacques Derrida ، على سبيل المثال، أن الترجمة والتفكيكية متشابكتان بشكل لا يمكن الفصل بينهما، ملمحاً إلى أنه في عملية الترجمة يمكن لذلك الوجود المستحيل المراوغ والذي يشير إليه بـ différance/الاختليف أن يكون مرئياً إلى أعلى درجات الوضوح حيث يقول: " تمارسُ الترجمةُ الفرق بين الدال والمدلول في الحدود التي يمكن فيها ذلك أو على الأقل يبدو ذلك ممكناً فيها " ( داريدا، 1981: 21).وكل كتابات دريدا، بغض النظر عن " موضوع البحث" أو النص قيد الدرس تدور باستمرار حول مشاكل تتعلق بإمكانية الترجمة أو استحالتها. ووفقاً لداريدا، كل الفلسفة تهتم أساساً بمفهوم الترجمة: " أصلُ الفلسفةِ الترجمةُ أو افتراض إمكانية الترجمة" ( داريدا، 1985ب: 120). يطالب القارىْ ( وخاصة المترجم) أن يفكر ويعيد التفكير في كل لحظة يُقترح فيها حل ترجمة، أو تسمى فيها مفردة، أو تُثبت فيها كينونة، أو تُكتب فيها جملة. يقترح داريدا مع كل حركة تسمية إدراج حاشية، ملاحظة في الهامش، أو مقدمة أيضاً للتعويض عن تلك المعاني الإضافية التي تعبر عن فروقات حساسة ومفاهيم دقيقة ضاعت أثناء عملية الكتابة. ومع إعادة توجيه محط الدراسات الفلسفية من التوحد إلى الاختلاف، ومن الوجود الكامل إلى الإضافة، ومن النص إلى المقدمة التوضيحية، تحتل الترجمة موقعاً أساسياً لا ثانوياً؛ لأنه هنا يخلق داريدا التوتر، ويلقي بظلال الشك، ويعرض البدائل. وتعرض عملية الترجمة، بقدر ما يمكن الدنو، طريقة للاختلاف/للتأجيل تدمر طرق التفكير الميتافيزيقية التقليدية التي هيمنت تاريخياً على تصورات عن الترجمة خاصة وعلى الفلسفة عامة.
وبالمقارنة مع كل النظريات التي نوقشت في هذه الدراسة، يقبع خلف تفكير داريدا الأساسي افتراض مفاده أن لا توجد هناك بنية تحتية أو أساسية أو شيء ثابت للمقارنة به، فلا يوجد شيء يمكننا أبداً تمييزه- ناهيك عن تمثيله، أو ترجمته أو تأسيس نظرية بناءً عليه. بل عوضاً عن ذلك "يؤسس" داريدا نظريته التفكيكية على عدم التماثل، وعلى عدم الوجود، وعلى عدم قدرة الشيء تمثيل الآخر تماماً. ما هو موجود وفقاً لداريدا سلاسل مختلفة من الدلالة_بما في ذلك "الأصل" وترجماته في علاقة تكافلية_ كل يدعم الآخر بشكل متبادل، تعرف وتعيد تعريف صورة وهمية عن التماثل لم توجد قط ولن توجد أبداً بوصفها شيئاً ثابتاً يمكن الإمساك به أو معروفاً أو مفهوماً. وهذه الصورة الوهمية الناتجة عن رغبة تبحث عن أساس من التماثل تكبت إمكانية تصور أن ما موجود، بغض النظر عن ماهيته، في حركة مستمرة، في تغير، و تدفق دائم، مستغلاً العملية نفسها التي تحاول تعريفه، أو التحدث عنه، أو تجعله موجوداً للهروب. انطوى موضوع نظرية الترجمة تقليدياً على مفهوم ما من معنى يمكن تحديده ونقله إلى نظام دلالة آخر. تشكك التفكيكية بمصداقية مثل ذلك التعريف وتستعين بممارسة الترجمة لإظهار عدم استقرار إطارها النظري. تقاوم التفكيكية أنظمة التصنيف التي تفصل "الأصل" عن "الهدف" أو "اللغة" عن " المعنى"، وتنكر وجود أشكال تحتية بمعزل عن اللغة، وتشكك بصدقية التصورات النظرية التي تفترض كينونات أصلية بغض النظر عن شكلها. ما هو مرئي في الترجمة لغةٌ لا تشير إلى أشياء بل إلى اللغة نفسها. وهكذا فإن سلسلة الدلالة سلسلة من الانكفاء اللامتناه_حيث يصبح النص المترجم ترجمة عن ترجمة سابقة وكلمات مترجمة، مع أن التفكيكين ينظرون إليها بوصفها دالات "ملموسة"، لا تمثل شيء سوى كلمات أخرى تمثل لا شيء، بل مجرد كلمات أخرى.
ظهر البديل التفكيكي أساساً في فرنسا مع نهاية ستينيات القرن العشرين خلال فترة من الاضطراب الاجتماعي والسياسي. وفي الوقت الذي كانت فيه أحداث أيار من عام 1968 تهدد بقلب نظام حكم ديغول، انضمت مجموعة من الشكليين إلى مجموعة من اليساريين وبدأوا سوية بنشر أعمالهم في المجلة الباريسية Tel Quel، وهو الاسم الذي ارتبط بالمجموعة ( راجع: سولرز و هيمن، Sollers&Hayman1981، و كريستيفا، Kreisteva 1983، وبان Bann 1984). كانت منشورات Tel Quel في نهاية ستينيات القرن العشرين مؤلفة من مقالات يكتبها عناصر أساسيون أمثال فيليب سولير، وجوليا كريستيفا، و مارسلين بلينت، وجان بيير فيي، و جاكلين ريسيت، وجان ريكاردو إضافة إلى عناصر مؤقتة أمثال رونالد بارث، وتزيفتان تودوروف، و بيير بولوز، وجان-لوييز هودبينن، وجي سكاربيتا، و داريدا. وكان كل من تودوروف الذي انضم للمجموعة من بلغاريا، وبارثس من أتباع الشكلية الأشداء، كما أن كرستيفا، من بلغاريا أيضاً، كانت متخصصة في الشكلية الروسية. ومن ناحية أخرى، مارس لويس ألثرز، مع أنه لم يعتبر عضواً في المجموعة، نوعاً من التفكيكية في الوقت الذي احتفظ فيه بمنهج ديالكتيكي (الجدلية الهيغلية، المترجم) ماركسي، ومنهجية علمية، وكان له تأثير واسع جداً. قرأ أعضاء Tel Quel كلاً من جاكبسن وماركس في ذات الوقت، ولم يرفضوا أفكار أي منهما ولكن لم يتبنونهما رافضين عمداً حل التناقض الناتج عن مثل ذلك الموقف كي يفتحوا آفاقاً جديدة من التفكير.
كان أكثر من مجرد صدفة أن يعكس تطور مجموعةTel Quel الاهتياج السياسي والاجتماعي الكبير في فرنسا في نهاية ستينيات القرن العشرين. ففي كتابه: "قراءات وكتابات: استراتيجيات رمزية مضادة: يقترح بيتر ولين Peter Wollen أن أحداث أيار من عام 1968 قد "جعلت مجموعة Tel Quelتقتفي أثرها" ( وولين، 1982: 210)، ولكن من الواضح أن الطريقة البديلة في التفكير التي كان يعتنقها الراديكاليون الشباب قد أدت إلى حدوث أحداث أيار من عام 1968 أيضاً. ففي عام 1965 نشر تزيفتان تودوروف "نظرية الأدب" وهي أول ترجمة لمجموعة من المقالات الشكلية الروسية تظهر في فرنسا، وكان تأثيرها هائلاً على المجموعة. وكانت جوليا كريستيفا التي انضمت إلى هيئة تحرير Tel Quel عام 1970 ضليعة في كل من لغويات تشومسكي ومدرسة براغ اللغوية. لقد أُعجبت لدرجة كبيرة بأعمال باختين؛ ولكنها ترى، على سبيل المثال، في مقالتها " دمار الشعرية" (1973)، مع أن عمله كان صائباً أساساً إلا أنه لم يصل إلى الحد المطلوب خاصة عندما بدأ بإدخال جوانب اجتماعية وإيديولوجية إلى الإطار البنيوي ( كريستيفا، 1973). ويعترف داريدا أيضاً بضرورة حصول المرحلة البنيوية لإعمال حركة التفكيكية. ويقترح "في النحوية" أن سوسور لم يصل بمشروعه إلى نتائجه النهائية بمعنى أن ما حاول "التخلص منه" بمحاولة تقييده واحتوائه قد عاد لـ" يتملك اللغة" ثانية (داريدا، 1974: 43-4).
يحلل التفكيكيون_ كما يفعل علماء دراسات الترجمة_ الاختلافات، وزلات اللسان، والتبدلات، وأشكال الحذف التي تشكل جزءاً من كل نص. وفي الحقيقة، إنه ضمن نطاق مثل ذلك المفهوم من المقارنة يمكن رؤية العوامل الاجتماعية والذاتية تعمل بوصفها قيوداً. وتماماً كما ساعدت الجذور الشكلية دراسات الترجمة لتركز على النصوص الحقيقية بدلا من نصوص مفترضة، فكذلك ارتبطت التفكيكية بالنص الذي تقرأه. ومع حركة كل من "الحقلين" نحو موقع يحاولان من خلاله تجنب مفاهيم مستقلة مفترضة سلفاً لتصنيف النصوص، وتأويلها وتقويمها، تصبح قيمة التفكيكية لصياغة نظرية ترجمة ما بعد بنيوية جلية تماماً الآن. ومع ذلك فإن الشكلية الروسية، كما هو حال لغويات سوسور، تعتمد على التفريق بين الشكل والمضمون، وبين الدال والمدلول، وتلك مفاهيم تمثل الأساس للفلسفة الميتافيزيقية التقليدية، ومازالت تقلق دراسات الترجمة. إن هذا التفكير الثنائي الذي يقسم الأشياء إلى صنفين فقط والهرميات التي تولدها مثل تلك التمييزات ( تفضيل الأدبي على غير الأدبي، والميتافيزيقي على المرجعي، أو الفكر النقي على البنية السطحية) هي التي تجدها التفكيكية مقيدةً وتعمل على نسفها. وضمن مقتضيات نظرية الترجمة، التي تفترض دائماً وجود معنى محدد ما ينبغي إعادة صياغته في لغة أخرى، يصبح فصل اللغة عن معنى محدد أو بنية تحتية نفسه هدف الأسئلة التفكيكية، وبالتالي مكاناً خصباً لبداية إعادة فحص نظرية الترجمة عامة. يشير داريدا مراراً وتكراراً إلى "شيء لا يتم الإفصاح عنه أبداً"_ شيء لا يُفكر به أو، كما أرى، اللغة تتحدث بنفسها، وذلك مفهوم يُعتبر تقليدياً خارج نطاق نظرية الترجمة. سأقترح في هذا الفصل أنه لم يعد بوسع نظرية الترجمة تجنب مثل هذه الأسئلة.

فوكو: هدم الأصل
في مقدمته لـ "اللغة، والذاكرة المضادة والممارسة"( 1977)، يستشهد ميشيل فوكو بـجورج لوس بورجيه Jorge Luis Borges على أنه يقول:" حقيقة، أن كل كاتب يخلق بنفسه مادته التي تصبح مادة لمن بعده؛ فعمله يغير من فهمنا للماضي؛ كما أنه سيغير من المستقبل" (فوكو، 1977 :5).إن القول بأن المترجم يخلق الأصل لقول استقدمه التفكيكيون وظيفته التقليل من قدر التأليف ومعه السلطة التي يعتمد عليها إجراء مقارنة بين النسخ التالية المترجمة للنص. يقول التفكيكيون أن النصوص الأصل تعاد كتابتها دائماً وأبداً في الحاضر، وأن كل قراءة/ترجمة تعيد بناء النص الأصل. وفي مقالته " ما هو المؤلف" في كتاب "اللغة، والذاكرة المضادة والممارسة" آنف الذكر يناقش فوكو هذه المشاكل، ملاحظاً أن المفاهيم التقليدية مثل التأليف الأصلي، والأعمال الإبداعية الأصلية، ووحدة النص الأصل، والتكافؤ أو التشابه في الترجمة، وأنظمة تثبيت القيم تمثل أساس فهمنا للأدب والترجمة. ويرى أنه بمنح الكتابة مكانة أساسية، نعيد توكيد قدسية النص الأصل ضمن شروط مبهمة.تمنح نظرية الترجمة التقليدية مكانة رفيعة لمفاهيم مثل المؤلف ومكانة النص الأصل الخاصة؛ وإن أي ترجمة لنص أصل إلى لغة ثانية لا بدّ وأن تنطوي على انتهاك للأصل، وبالتالي استحالة خلق تكافؤات "نقية". يحاول فوكو هدم المفهوم التقليدي للمؤلف، ويقترح عوضاً عن ذلك أن نفكر ضمن شروط "الكاتب-الوظيفة" (فوكو، 1977: 130-1). فبدلاً من كينونة أصلية موحدة، ينصح فوكو بالتركيز على علاقات النصوص بنصوص أخرى والنظر إلى خطاب نص محدد لنص بعينه ضمن حالته التاريخية. ووفقاً لفوكو، فعمل المؤلف ليس نتيجة وحي تلقائي، ولكنه مقيد بالأنظمة المؤسساتية لمكان وزمان لا يتحكم بها الكاتب أو يشعر بها إلا قليلاً. وهكذا فإن "فعل الإبداع" هو في الحقيقة سلسلة من عمليات معقدة يقوم مسمى "المؤلف" بمجرد تبسيطها. يفضل فوكو ألا يفكر بالمؤلف بوصفه فرداً حقيقياً، ولكن بوصفه سلسلة من المواقف الذاتية لا يقررها انسجام واحد من التأثيرات، ولكن سلسلة من الفجوات، وعدم الاستمرار، والانقطاعات؛ وسيظهر خطاب النص كيف تهدم هذه الانقطاعات مفهوم نص أصلي موحد تاريخي و فائق. وبمثل هذا المنهج التاريخي، يقول فوكو، سيتعلم النقاد كيف سيسخرون من "جلال" الحقيقة، ويركزون عوضاً عن ذلك على التفاعل بين القوى، والذاتيات [المذهب الذاتي: مذهب لاهوتي يقيم المعتقدات الدينية على أساس من الخبرة الذاتية، المترجم]، والمواقف والإمكانيات. الفجوات، والانعكاسات، والاختلافات، والمتناقضات وفترات الصمت كلها على قدر من الأهمية في تحديد "المعنى" كتلك المتلاحمة دلالياً، والموحدة، والمعبر عنها بوضوح.
يحتل تعريف ومفهوم ما يسميه فوكو " العصر الحديث" مقارنة " بالعصر الكلاسيكي" مكانة أساسية في مناقشته في " ما هو المؤلف؟" يمكن التفكير بنظرية الترجمة التقليدية، المعتمدة على مفاهيم من الانسجام، والنصوص الموحدة، وفكرة أساسية يمكن تصويرها تماماً في نص مماثل، على أنها متجذرة فيما يسميه فوكو بمفهوم " كلاسيكي" للتمثيل. وخلال القرن الثامن عشر، وفقاً لفوكو، وطدت اللغة علاقات مع الهوية_ فُهمت اللغة على أنها شكل من أشكال المعرفة، والمعرفة كانت خطاباً سلفاً. وكما بحث العلماء مثل لينوس Linnaeus العلوم الطبيعية أثناء هذه الحقبة، فكذلك يمكن النظر إلى "نظرية" العالم على أنها محاكة ضمن نظرية من الكلمات. حاول التاريخ الطبيعي، على سبيل المثال، دائماً الكشف عن الترتيب الصحيح، عن الأسس الصحيحة خلف مشهد الحياة اليومية، باستخدام مسميات لمنح الأشياء أسمائها الصحيحة. يقترح فوكو في فصل بعنوان: "التصنيف" من كتابه:" نظام الأشياء" (1973) أنه كي "تعرف" الطبيعة، في القرن الثامن عشر، كان يعني أن "تبنى" على أساس اللغة "لغةً" صحيحة، لغة تكشف الحالات التي تكون اللغة برمتها فيها ممكنة (فوكو، 1973: 161-2). وهكذا تم اكتشاف أنماط من الواقع، وبدأت التصنيفات، وعُرفت صفات مجردة، و وصفت الأساسيات؛ وأسست أنواع وأنظمة مازالت مستمرة حتى تاريخنا المعاصر بما في ذلك بعض نظريات الترجمة التي نوقشت في هذا الكتاب. ولنجاح مثل هذا المشروع، تطلبت اللغة تماثل الانطباعات، وهكذا ساد تصور مسبق في أنه ينبغي على ترتيب يعكس شكلاً من الواقع أن يتسق مع خطاب الفترة_ وذلك تصور افترض وجود عالميات الوجود، وأهمية الفرد العارف، وأهمية لغة قادرة على وصف هذه العالميات.
تمزقت هذه النظرة المنسجمة عن العالم مع نهاية القرن الثامن عشر. وفي فصل بعنوان : "العمل، والحياة واللغة" من كتابه (نظام الأشياء) ، يطور فوكو نقاشه مقترحاً أنه في القرن التاسع عشر أصبح الخطاب موضوع دراسة الخطاب. لم يعد الكاتب يستخدم اللغة بمعزل عنه، ولكن اُعتبرت اللغة أيضاً بوصفها "داخل" الفرد المبدع وتولد تأثيرها الخاص بها. بدأ همبولدت Humboldt، وبوب Bopp، وغرم Grimm، وآخرون دراساتهم ومقاراناتهم بين اللغات؛ وبدأ ظهور علم فقه اللغة، ووُصفت البنى القواعدية. يقترح فوكو أن انفصاماً مزدوجاً حدث خلال هذه الفترة: (1) قطعت اللغات روابطها مع الشيء الذي تمثله، و(2) قطعت روابطها مع الاستمرارية العامة للنظام الطبيعي، وبالتالي حققت حياتها المستقلة الخاصة بها. وكما أن "عدم استمرارية" الأنظمة الفرعية كشفت وجود البنى "العضوية" في كل أشكال تنوعها، فكذلك انفصلت اللغات عن نظام واسع موحد، وبدأ ظهور عدم تناسق الأنظمة القواعدية المتنوعة ( فوكو، 1973: 292-3). ووفقاً لفوكو، فمع أن اللغة انفصلت عن الشيء الذي تمثله، بقيت الوسيلة الوحيدة التي يمكن للشيء أن يُعرف من خلالها. وهكذا ارتقت مكانة اللغة وهبطت متزامنة في هذه الفترة، واُعتبرت البنى القواعدية بأنها أشياء بديهية لا بد منها لما يمكن التعبير عنه. ووقعت الحقائق الفلسفية في شرك الخطاب، وعلى التحليل أن يعمل بشكل عكسي حيث يبدأ بالآراء، والحقائق وحتى العلوم وصولاً إلى الكلمات التي جعلت وجودها أمراً ممكناً. ولم يعد ينظر إلى إنتاج أي شيء _ من إنتاج السلع إلى النصوص الأدبية_ على أنه يُبنى حول وعي فردي، ولكن حول العصر أو، وفقاً لفوكو، وفقاً لخطاب العصر الذي يكوّن عادة الفرد. وهكذا تتخذ اللغة، وخاصة اللغة "الأدبية" طريقة جديدة من الوجود؛ إذ تتوقف عن لعب دور الوسيط/المظهر الميتافيزيقي للحقائق الفلسفية، وتصبح دالة على ذاتها أكثر فأكثر؛ إنها مجرد إظهار عن وجودها المندفع. ويرى فوكو أنها تنفصل عن التعريف الكامل للأنواع وتصبح مجرد إظهار للغة "لا قانون لها سوى التوكيد" (فوكو، 1973:300). تتوقف خلال هذه الفترة أشكال السلطة عن فرض القوانين؛ ولم يعد يُنظر إلى الأنواع الأدبية والأشكال بوصفها أبدية؛ وتتحطم أي بنية لمفهوم الأصلية.
و أصبحت اللغة في "العصر الحديث" سلطة بحد ذاتها. حتى أن الكاتب أصبح "وظيفة" للخطاب، بحيث يذوب نفسه في النص الذي يكتب نفسه. ويستشهد فوكو في " من هو المؤلف" بسامويل بيكت Samuel Beckett على أنه يطرح سؤال نيتشه " المهم من يتحدث؟" لقد اختفى الإنسان كما الإله في تطور اللغة الكاتبة لنفسها. ولم يعد السؤال الأساسي في العصر الحديث، وفقاً لفوكو، كيف يمكن للمرء اكتساب مزيد من المعرفة ليصبح مصدراً مهماً لها ويصدر أحكاماً على العالم، بل السؤال المهم الآن هو كيف يمكننا التفكير بما ليس بوسعنا التفكير به. وفي " Man and his Doubles " (الإنسان وصوره المزدوجه) من كتابه "نظام الأشياء" يرى أن الذي لم يُفكر به، أي: الشيء الذي نجا بنفسه أثناء كتابة اللغة لنفسها، ولكنه مع ذلك يشكلنا،ويشكل كلامنا، وأنماط التفكير أصبح موضوع بحث التفكيكي:

لم يعد السؤال أبداً كيف يمكن لتجربة الطبيعة أن تؤدي إلى ظهور الأحكام الضرورية؟ ولكن عوضاً عن ذلك كيف يمكن للمرء أن يفكر بما لم يفكر به، وكأنه يقطن من خلال صنعة صامتة شيئاً يراوغه دائماً، و ينفخ الحياة بنوع من حركة جامدة بتلك الصورة التي تمثله والتي تأخذ شكلاً خارجياً عنيداً؟ وكيف يمكن للمرء أن يكون تلك الحياة التي تتجاوز دائماً شبكتها، ونبضاتها، وطاقتها الدفينة التجربةَ التي يتلقاها منها؟ (فوكو، 1973: 323).

ومع أن فوكو لم يتنبأ بأي تنبؤات عن الأجوبة التي قد تكون لأسئلته، إلا أنه يشير علينا بالسير في اتجاه: اتجاه نحو تأمل عميق بذلك الشيء الصامت، إضاءة لذلك الشيء المظلم، وإعادة ذلك الشيء الصامت إلى أحضان اللغة.إن هذا "الآخر"لم تتم إضاءته ولن يتم ذلك بمعنى المعرفة الإيجابية، ولكن على هيئة بقعة مبهمة أو منطقة مظلمة تصاحب الفكر الواعي. إنه يتصور "الآخر" وكأنه شبح المرء لأنه "كالشبح" صاحب المرء" بشكل صامت ومستمر" منذ القرن التاسع عشر (فوكو، 1973: 326-7). وهكذا تحوّل التفكيكية طبيعة الأسئلة المطروحة حول العمل الأدبي ومعناه من المسموع إلى الصامت. قُلص دور الكاتب المبدع وطرحت أسئلة جديدة عن المصدر الذي جاء منه خطاب أي نص بعينه، إن لم يكن المؤلف. وتم التشكيك بأصلية النص الأول، وظهرت عوامل محددة أخرى تتعلق بما يمكن ولا يمكن التفكير به ضمن خطاب بعينه. والأهم هو أن "معنى" النص تمت مراجعته، وأعيدت العناصر الصامتة المرئية في المتناقضات، والفجوات، وأشكال الحذف إلى لغة النص؛ إضافة إلى ذلك أُعيدت المعاني المحتملة/غير المحتملة إلى الكلمات، وهي المعاني التي رافقتها دائماً ولكن طمستها طبيعة تطور الخطاب في الحضارة الغربية عامة، وخاصة في القرن الثامن عشر. وهكذا، ينزع التفكيكيون في الممارسة إلى إظهار قدر كبير من عدم الاكتراث بالمؤلفين والمعاني الواضحة، وعوضاً عن ذلك يجدون ضالتهم باللغة التي تتكلم عن نفسها، ويصغون إلى غير المسموع، غير المفهوم_ ذلك الموجود هناك ومع ذلك غير موجود_ ذلك الذي ضاع في الحيز بين الدال والمدلول.
انجذب التفكيكيون إلى النصوص المترجمة، التي يدّعون أنه يمكن رؤية فيها التفاعل الإيجابي في الكلمات وفيما بينها، ويمكن للمعاني المكبوتة أن تعود، وفي الحقيقة تعود، غالباً ضمنياً، إلى الحاضر. وبممارستهم للكتابة_حتى في نصوصهم الأكثر "فلسفية"، وبكل حواشيهم، ومقدماتهم، ومعلوماتهم الإضافية، و الأقوال التي يحتمل تأويلها وجهين، وملاحظاتهم في الهوامش التي يمكن اعتبارها ترجمة_ يطالب التفكيكيون نظرية الترجمة التقليدية بتوسيع حدودها، ويشجعونها على إعادة النظر بقصورها، وعلم النفس، وقيودها غير الواعية، واستتباعات خطابها. في الترجمة، يمكن مواجهة إمكانية أنه لا يوجد أي شيء خلف اللغة سوى أنماطها المتراجعة اللامتناهية، ويمكن الكشف عن أنه لا يوجد أي شيء سوى تفاعل اللغة مع نفسها. إن هذا الانفتاح على العدم المطلق، على الموت و النهاية المطلقة سمة تميز فكر مارتن هيدغر Martin Heideggerالذي فكك نظريات الترجمة الميتافيزيقية وفتح الطريق للتفكير بالشيء الذي تنكره اللغة.


مارتن هيدغر: قصور التسمية
تمثل Sein und Zeit (1927) التي نشرت بعنوان: " الوجود والزمن" عام (1962) إحدى أولى المحاولات لكسر القوة المميتة للمناهج الفكرية الميتافيزيقية في الترجمة، حيث يمكن للمرء تحديد بدايات ممارسة التفكيكية. ومن الصدف، أنه لم تكن هناك أي إشارة إلى أي حقائق فلسفية مكنت هيدغر من الإفلات من القصور الميتافيزيقي، ولكن كتابات حول أسئلة عن اللغة، والشعر، والترجمة هي التي فتحت له آفاقاً جديدة من التفكير. وفي عودة إلى أس الأسئلة الذي تعتمد عليه الفلسفة الغربية برمتها، يمتنع هيدغر عن مناقشة "معنى"Being الوجود ويسأل عوضاً عن ذلك عن الشروط الأساسية التي تجعل التفكير الوجودي ممكناً. وهكذا، فإن " الوجود والزمن" بحث فيما قبل الوجود أكثر منه وصفاً فلسفياً. واللغة التي تؤطر مثل تلك الأسئلة هي نفسها تنطوي على مفارقة لأن الوجود ( الشيء) المراد بحثه يُعرف من خلال تلك الشروط نفسها التي ألقيت في غياهب الشك. ومع ذلك، وبسبب طبيعة نص هيدغر المؤقتة _ لم يكن يحاول الإجابة عن السؤال بل مجرد "إثارته"، لإيجاد مكان وسياق لحدوثه_ تجنب هيدغر المفاهيم الفكرية التقليدية، وهكذا كان قادراً مؤقتاً على الالتفاف على المفارقة. لا يعرض النص دليلاً، ولا يوضح مناقشة، أو يصل إلى نتيجة، ولكنه يطور عملية نزع للمركزية، والبدء مراراً وتكراراً، وطرح أسئلة عن الموجود ( Seiende) الذي يسأل السؤال المتعلق بالوجود (Sein). إن عملية التفكير بالسؤال حقاً، وتجربة السؤال وجودياً( وليس بالهروب إلى مفاهيم مؤطرة مسبقاً أو تعريفات تاريخية للوجود خارج المرء) تفكك تاريخ علم الوجود وكيف تم تفسير الوجود تقليدياً.
يقترح هيدغر في " الوجود والزمن" أن الوجود لا يوجد خارج أي شيء، وبالتأكيد لا يوجد خارج المكان حيث يطرح السؤال فيه. يقع السؤال فقط في السؤال، و يحدث فقط عندما تتشكل علاقات في اللغة، والشعر، والفكر. الوجود ليس جواباً لأي شيء، لأنه ليس كينونة، ولا شيء، ولا فكرة، ولا مفهوم يمكن استيعابه، ولكنه يميل لأن يكون شكاً، مفتقراً للوجود، قلقاً يشير إلى العدم المطلق، يقع دائماً خارج نطاق الإدراك. يتجنب هيدغر حقائق فلسفية تقوم فقط بطمس هذه التجربة قبل-الوجودية محاولاً التفكير في غياب الأفكار المسبقة، في غياب الحقائق السرمدية. وهكذا يتجه فكره رويداً رويداً نحو اللغة بتطور بحثه، ويطرح دائماً السؤال المتعلق بالوجود، ليكتشف فقط أن أي شبه إجابة تختفي متزامنة مع زيادة اقترابه من صياغة السؤال بشكل أكثر تماسكاً. ويصبح الاثنان متصلين بطريقة معقدة ويقصي كل الآخر بطريقة مذهلة عندما يحاول هيدغر التفكير بالخطاب الذي يؤطر سؤاله، ويصبح السؤال الذي لا إجابة له السؤال الذي يسترشد به تفكيره اللاحق أساساً.
ومن خلال محاولاته صياغة سؤال حيث يمكن للمرء البدء بتحسس موقع الإجابة، كان بمقدور هيدغر رؤية أن قيود اللغة/الفكر قد حدت من تفكيره، ولذلك بدأ بهدم أو تفكيك هذه القيود. انطوى أسلوبه على مزيد ومزيد من اللعب باللغة، حيث سمح لها أن تتكلم مع ذاتها من خلال تنويعاتها وحبائلها. وبعملية تشبه إلى حد كبير الترجمة_ أصبحت المنهجية الأساسية عند أتباع التفكيكية_ كان بمقدور هيدغر التلميح إلى طريقة يمكن من خلالها التغلب على التفكير الميتافيزيقي ألا وهي السماح للغة من التكلم عن نفسها، والاضطلاع بطاقتها وصداها الاشتقاقي. هناك إحساس في كتابة هيدغر أنه بمجرد تفكيك الحطام الفلسفي، تصبح العودة إلى لحظة ما قبل الوجود ممكنة، ويمكن تجريب الفكر ما قبل الوجودي. وبالحركة المزدوجة للتفكيكية_ بوصفها تنظيفاً للبنى المكتظة البالية، و مدخلاً أصبح ممكناً بالقفز على أجيال من الفكر التقليدي_ تدخل الترجمةُ النظريةَ ( راجع بيرناسكوني، Bernasconi 1985: 15-17، وكريل1986 Krell : 80-94). أصبحت الترجمة تُفهم وفق مقتضيات العودة إلى ما قبل الأصل، السماح للتجربة اللغوية العذراء من الحدوث. فلكي تتكلم كلاماً أصلياً، أو تفكر بـ" الآخر" وفق مقتضيات فوكو_ أي: الفكر قبل الميتافيزيقي_ على المرء القيام بالترجمة. اُعتبرت الترجمة فعلاً، عملية فكرية، ترجمة أنفسنا إلى فكر لغة أخرى، وليس نقلاً لغوياً علمياً من شيء إلى الحاضر.
وهكذا أصبحت حركة هيدغر الفكرية في " الوجود والزمن" مهمة للترجمة. كان هيدغر يناقش في "الوجود والزمن" أسئلة مهمة للميتافيزيقيا الغربية، متعاملاً مع فكرة أن الإنسان هو الموجود الذي طرح السؤال المتعلق بالوجود. وبعدما أبعد نفسه عن فكرته المتعلقة بأهمية الفرد كونه كائناً عارفاً، سرعان ما تحول فكر هيدغر إلى أهمية اللغة بوصفها القوة التي تفكك الفرد، وهكذا وفقاً لمصطلحات فوكو، أصبح الفرد موضوع بحث اللغة. يختفي الوجود في اللغة عندما بدأ هيدغر التفكير به أولاً: يشير خطاب " الوجود والزمن" إلى طريقة تنتهك حدود النص الأدبي نفسه.واقترب هيدغر من النقطة التي يقترح فوكو أنها تمثل سمة فكر محدد في القرن العشرين: فبدلاً من تصور أن أي شخص يتكلم،فإن اللغة تتكلم بنفسها، والشخص يصغي فقط. وإن كان مثل ذلك الإصغاء ممكناً، فما الذي يسمعه الشخص؟ يرى هيدغر أننا لا نسمع كل شيء، لأنه يوجد هناك شيء جوهري يتعلق بطبيعة اللغة لا يمكن سماعه أو قراءته. هناك شيء يُمنع من الظهور عندما تتكلم اللغة. لا تكشف الكلمات عما هو موجود هناك فقط_ " اللغة بيت الوجود"_ ولكنها تحجز/تحبس أيضاً. لو سمحنا للغة التكلم بنفسها، فإن ما ينكشف شيء يتعلق بطبيعة اللغة: لا تُظهر الكلمات ما هو موجود فحسب، ولكنها تُظهر أيضاً ما هو موجود وغير موجود في الوقت ذاته ( wa es gibt und gleichwohl nicht ist) (هيدغر، 1971أ: 88).
وفي "The Anaximander Fragment" (قطعة أنيكسماندر) من كتاب: " Early Greek Thinking"، (تفكير الأغريق المبكر) يعطينا هيدغر لمحة عن نظريته للترجمة اعتماداً على ترجماته نفسه لـ "" The Anaximander Fragment، وهي أقدم قطعة من التفكير الغربي، حيث أصبح تفسيرها حاسماً لادعاءات هيدغر الفلسفية. أعاد هيدغر قراءة فكر الإغريق المبكر أساساً بحثاً عن طريقة بديلة للنظر إلى العالم، ليميط اللثام عن طرائق من الخطاب قبل أفلاطونية وقبل أرسطوية. وقام هيدغر بدراسة صغيرة إذ قام بداية بمراجعة لترجمتين محددتين في الألمانية_ واحدة قام بها نيتشه Nietzsche في عام 1873 وأخرى قام بها هيرمان ديلس Herman Diels في عام 1903_ وبعد ذلك يقدم ترجمته ( هيدغر، 1975: 13-14). ومع أن المقاصد والأساليب مختلفة لدى كل من المترجمين، يلاحظ هيدغر أوجه التشابه بين الترجمتين، ليس فقط وفق شروط " أمانتهما" الحرفية، ولكن أيضاً بما يتعلق بـ" بمفهوم" أنيكسمياندر الكامن خلف الترجمتين. إن معيار الحكم على الفلسفة قبل الأفلاطونية أو قبل الأرسطوية هو نفسه تقريباً، ومأخوذ من الفلاسفة أنفسهم الذين وضعوا المعيار. ويقول هيدغر أن وجهة النظر هذه تجذرت تماماً في الفلسفة الغربية ( وعلم اللاهوت المسيحي) بوصفها "اعتقاداً عالمياً" (هيدغر، 1975 :14).
يتسآل هيدغر إن كان بوسع هذه القطعة الفلسفية أن تتحدث إلينا بعد كل هذه السنين. هل يستطيع المترجم التغلب ولو مراواغة على ثقل التاريخ، وسيطرة التفسير التاريخي؟ لا يقدم فقه اللغة الكلاسيكي، ولا التفسير التاريخي، ولا علم النفس المساعدة المطلوبة للمترجم لإماطة اللثام عن معنى The Fragment؛ بل عوضاً عن ذلك، تتطور من خلال التوليف الدقيق مع اللغة "عروة أوسع وأقوى، ولكنها أقل ظهوراً"، ويمكن ضمن هذا " الحوار عميق التفكير" ترجمة The Fragment( هيدغر، 1975: 19). وبعد ذلك يقدم هيدغر ترجمته، سامحاً، كما يقول، لظهور جوهر الوجود في انسحابه. وبإبعاد نفسه عن إيحاءات حرفية وتداعي أفكار مؤطرة سلفاً، يفتح عقله على معانٍ محتملة أخرى. فعلى سبيل المثال لا يترجم adikia حرفياً بمعنى " ظلم/جور "، ولكنه يسمع a-dikia، مقترحاً أن dikia غائبة، أي:أن الأشياء ليست على ما يرام، وأن شيئاً ما ليس متصلاً بالشكل الصحيح، وبالتالي يقترح ترجمتها بكلمة "فصل/انفصال" بوصفها احتمالية أخرى. من الواضح أن هيدغر يستخدم اللغة لإنجاز كتابة مزدوجة: أولاً، لإزاحة وخلخلة مفاهيم مستقرة يستحضرها القراء الغربيون إلى اللغة لجعل حدوث شيء آخر أمراً ممكناً؛ وثانياً، لطرح مرة أخرى السؤال المتعلق بالوجود كما في " الوجود والزمن". وسواء قبلنا ترجمته أم لم نقبلها فإن ذلك لا يمثل هدف المقالة الرئيسي؛ المهم هو استعادة الصدى الصامت للقول. وإذا ما حدث ذلك النشاط، تثمر اللغة والفكر معنى آخر، ليس على هيئة وجود محدد خارج اللغة، بل على هيئة شيء يسكن البنى المهيمنة للغة، ومع ذلك تطمس معالمه.
ومع الاختلافات الظاهرة، فإن نظرية الترجمة عند هيدغر ليست على خلاف مطلق مع نظريات الترجمة المبكرة. يفترض أن الترجمات تحكمها الأصناف الفكرية المهيمنة في أي حقبة على الرغم من محاولات التغلب عليها. ويعتقد أيضاً أنه بالدراسة وإعادة السياق التاريخي، يمكن للمرء الوصول لبعض النتائج بما يتعلق وقصد المؤلف، وبالتالي إماطة اللثام عن طبقات من التعتيم للوصول إلى نوع ما من أشكال القصد الأصلي قبل تشويهه. ومن ثم يختار كلمات غرضها نزع الألفة، تؤدي وظيفة مختلفة في مجتمع اليوم، في محاولة منه لتحقيق الأثر نفسه أو الاستجابة نفسها التي أثارتها النسخة الأولى، في العملية التي ترمي إلى تفكيك الأصناف الفكرية عند قارئه. في المقالة الآنفة، يفترض بوضوح أصلاً سليماً طمس معالمه الأغريق؛ ويستطيع الشاعر/ المترجم ترجمة/نقل نفسه إلى تلك الثقافة الأصلية واستعادة تلك التسمية الأصلية التي طمست معالمها التسمية اللغوية. إن درجة انطباق مغالطة القصد على ترجمات هيدغر للأعمال الإغريقية المبكرة ليست بأقل من درجة انطباقها على أي نظرية وظيفية التوجه الخالص.
ومع أن بعض التحفظات حول بقايا الوجود الأصلي مازالت قائمة إلا أن نظرية الترجمة عند هيدغر ترسم تحولاً هاماً، لأنه لا يبحث عن القصد الأصلي عند الكاتب، ولكنه يستعيد صفة من صفات اللغة نفسها. يتفق هيدغر مع ذلك الشيء الذي تنكره اللغة والذي لم تقترب منه أي نظرية تناولها هذا الكتاب ولو من بعيد. ما تكشف لهيدغر بالسماح للغة التكلم لنفسها هو أن "الكلمة تنطوي على العلاقة بين الـ"الموجود" الذي غير موجود، والعمل الذي هو في حالة عدم الوجود موجود" (هيدغر، 1971أ. 59). يشير هيدغر إلى نوع جديد من التفكير_ ليس التفكير بما هو هناك، الشيء المسمى، ولكن التفكير بما هو هناك وفي ذات الوقت مازال بدون اسم، ولا يمكن أبداً تسميته لأنه ليس موجوداً. يمكن للمرء ربط غير الوجود الصامت هذا الذي تحمله اللغة بما يسميه فوكو "الآخر"، توأم الإنسان، الذي يحمله الإنسان دائماً والذي حدث وأن عرّف أسلوب الوجود للإنسان الحديث (وما بعد الحديث؟).إن التفكير بما لا يمكن تسميته أبداً لأمر صعب_ يطلق عليه هيدغر مسمى " حالة بسيطة لا يمكن استيعابها"_ولكن مع كل صعوبته، أصبح نظرياً " أمراً مناسباً للتفكير به" ( هيدغر، 1971أ: 88) وقد يجبر أي نظرية معاصرة للترجمة على إعادة التفكير به. لم تتم الإجابة عن السؤال المتعلق بكيفية اختفاء المرء بوصفه فرداً متكلماً، وكيف يمكن للمرء إضاءة ذلك الشيء الصامت في اللغة، ولكن استخدمه داريدا، كما سأحاول أن أوضح في القسم اللاحق، لتفكيك محاولات سابقة هدفها الوصول إلى نظرية للترجمة.

داريدا: الترجمة والـDifférance (الاختليف)

يبدأ تفكير داريدا بالترجمة بـ "مفهوم" هيدغر في إظهار ذلك الشيء الموجود ومع ذلك "غير موجود". وفي مقالته بعنوان: "Différance" (الاختليف) من كتابه: Margins of Philosophy (هوامش الفلسفة) (1982أ) يسك داريدا المصطلح الجديد "différance" "الاختليف" للإشارة ليس لما هو موجود (اللغة)، ولكن لما ليس موجوداً، وبالتالي يبدي ارتيابه حيال أي منهج وجودي يحاول تحديد مفهوم الوجود بناءاً على الحضور. ومصطلح"différance" الاختليف" مشتق من الفعل اللاتيني differre _يعني كلاً من: (1) يؤخر، يؤجل( متضمناً أفقاً زمنياً)، و(2) يختلف ( متضمناً أفقاً مكانياً)_ وباختلاف مميز واحد: يغير داريدا عمداً حرفاً مرتكباً بذلك خطأً مع أنه غير مسموع: فبدلاً من كتابة différence الصيغة الاسمية المشتقة من الفعل وفقاً لقوانين القواعد_ يكتب différance التي تُسمع كـ différence نفسها، ومع ذلك تجبر بشكلها المكتوب القاريء على التفكير وفق الشيء غير المسموع_ وبالتالي تغزو وعي القارىء الباطني بصوت غير موجود. ومع ذلك فإن داريدا يقوم بأكثر من مجرد تغيير حرف واحد لتحقيق مجرد تأثير شكلي محول. يستحضر المصطلح أيضاً المصدر المذيّل المشتق من اسم الفاعل/المفعول différant غير الموجود في الفرنسية الحديثة. وهكذا فإنه يعين كلمة غير موجودة بين فعلٍ واسم غير موجود، مقترحاً بذلك فعلاً/اسماً بين فاعل ومفعول به، شيئاً قد فُقد (أو تم كبته) في عملية تطور اللغة. يشّبه داريدا الكلمة بشيء كالصوت الواقع في المنتصف، أي عملية ليست إيجابية ولا سلبية، وليست زمانية ولا مكانية (داريدا، 1982أ: 9؛ راجع أيضاً هيدغر، 1962: 51؛ وسكوت Scott، 1987: 67)؛ صوت لأسباب كثيرة ضاع في الخطاب الميتافيزيقي الغربي.
وباستحضار تعريف فوكو لـ "الآخر" بوصفه توأم المرء الصامت، لا تستخدم استراتيجية داريدا البلاغية في مقالة " différance" مصطلحاً يشير بوضوح إلى الانشقاق والانقسام فحسب، ولكن أيضاً، بانتهاكها لقوانين الكتابة بالخطأ غير المسموع، تستخدم مفارقة "صامتة" لخلق خطاب فوضوي كتابياً ونظرياً تحت الاتساق البلاغي السطحي المسموع. بصراحة، إن مترجميه للإنجليزية لم ينجحوا بالتعامل مع المصطلح الجديد؛ فبتركه في الفرنسية، بقى مختلفاً بوضوح تام، وضاعت المفارقة الصامتة والإشارات الخفية كلها. يعمل أسلوب داريدا على تأجيل مفاهيم المرجعية التقليدية، ويؤخر تصنيفها ضمن الخطاب الذي وقعت فيه_إذ لا يسمح بإهمالها، وتصنيفها، وفهمها وبالتالي إخراسها. ومنهج داريدا ليس ببعيد عن بعض النظريات الشكلية في الترجمة، إلا أن استراتيجيته تختلف قليلاً. ففي الوقت الذي تتقيد فيه المناهج الشكلية بقوانين القواعد، وتُحسب كي تحقق دقة شكلية ومرجعية دقيقة، فإن أسلوب داريدا أكثر ما يكون تجوالاً تجريبياً، لا تقيده مسؤولية فلسفية، ولا تقليد، ولا تطور اللغة أو أنظمة فكرية، بل يؤسس عوضاً عن ذلك حركة أمامية وفق مقتضيات بنى اللغة المكتوبة السطحية، ويلعب بدون حساب، ويتجول دونما هدف أو نهاية.
وكما يتحدث هيدغر عن جانب من اللغة يشد إلى الخلف، ويحبس، فكذلك يقترح داريدا تفكيراً ضمن مقتضيات الـ différence،أي التأخير/والاختلاف،و حركة غير محددة بدون نهاية، وبدون إشارة، أو وظيفة محددة. افترض داريدا أيضاً أن مثل ذلك التفكير مستحيل في هذا الوقت والزمان، ولكنه يقترح أنه ربما بدأنا التفكير عند حواف التفكير الميتافيزيقي المصنف تماماً، وبدأنا نتبع بتأمل الممرات الفرعية للغة بدلاً من إتباع الطريق الأساسي المتفق عليه. ووفق شروط الترجمة، يقترح عدم النظر إلى الرسالة الأصلية، ولا إلى تصنيفها أو تشفيرها اللغوي، ولكن إلى الأشكال المتعددة ونقاط التشابك التي ينبغي أن تمر من خلالها كي تتكلم أو أن تشير البتة. وهكذا يتخيل داريدا، "متصوراً حركة بين الأشكال دون أي محتوى محدد ثابت، ومتصوراً أيضاً في ممارسة هذا الحركة حماية للاختلافات والاحتفاظ بها، زماناً ومكاناً، أي: لعبُ الأثار" (داريدا، 1982أ: 15). و بالتعميم، يمكن للمرء رسم ملامح نظرية ترجمة تهدف إلى حماية الاختلافات، وتنشيط اللغة بتطعيمها بالصدى الاشتقاقي الضائع، وبالتالي فتح آفاق جديدة من التفكير.
بالطبع، هذه هي بدقة الـ"حالة غير المفهومة" التي أشار إليها هيدغر على أنها أقدم من الكتابة، وأقدم حتى من الأسئلة المتعلقة بعلم ما قبل الوجود التي طرحها، وبالتأكيد أقدم من " حقيقة" الوجود كما تتبعتها الدراسات الفلسفية في العالم الإغريقي-الغربي. إن مثل هذا المنهج غريب على الخطاب الحديث الذي يحكم تفكيرنا، ويجبرنا على الإشارة إلى الأشياء، ويضيق المعنى، ويغلق الباب أمام احتمالات بديلة. إن مشروع داريدا مشروع يحاول الكشف عن حركة غرضها التعمية على أثار موجودة في الوعي التحتي، بدون الرجوع أو الإشارة إلى شكل من أشكال المعنى التحتي. والمشكلة، وفقاً لداريدا، أن الأثر( أثر ذلك الشيء غير الذي هو) لا يمكن عرضه أو تقديمه على شكل ظاهرة. إنه دائماً مختلف ومؤجل، إذ أنه يمحو نفسه في عملية الكشف عن نفسه. ومع صعوبة التفكير بهذا الفكر "غير المسموع"، إلا أن داريدا يوضح لنا بعض الخطوط الإرشادية القيّمة تتعلق بكيفية إمكانية الدنو من" مفهوم" فهم الفكر غير المسموع:

ربما كان علينا محاولة التفكير بهذا الفكر الذي لم يُسمع به قط، بآلية هذا الأثر الصامت: بمعنى أن تاريخ الوجود(Being)، الذي يشغل تفكيره جوهر العقل كما يتبين في النطق بالكلمات في التراث الإغريقي-الغربي كما تم إنتاجه من خلال الاختلاف الوجودي، ما هو إلى حقبة من diapherein...وبما أنه لم يكن هناك معنى للوجود(Being) قط، بمعنى أنه لم يتم الحديث أو التفكير به على هذه الشاكلة، باستثناء إخفاء نفسه بالموجودات، فلذلك فإن الـdifférance ، بشكل محدد وغريب، "أقدم" من الفرق الوجودي أو حقيقة الوجود (Being).فعندما يحظى بمثل ذلك العمر، يمكن تسميته بلعب الأثر. ولعب الأثر هذا الذي لم يعد ينتمي إلى أفق الوجود (Being)، ولكن تقوم حركته بنقل معنى الوجود(Being) واحتوائه: لعب الأثر، أو الـdifféranceالذي لا معنى له ولا وجود، والذي لا ينتمي إلى أي وجود. لا يوجد هناك أي حفظ ولا عمق للوحة الشطرنج هذه التي لا قرار لها، والتي وجدت كي يتحرك الوجود(Being) عليها ( داريدا، 1982أ: 22)

ومثل هيدغر قبله، يقترح داريدا أن "التاريخ" الكامل للفكر الإغريقي- الغربي_حيثما أمكن للميتافيزيقيا أن تصبح "طبيعية" ضمن الخطاب الغربي"_ يمكن تصوره بأنه مجرد حقبة واحدة أنتجها الـ diapherein تُفسر على أنها فرق وجودي.
يشك داريدا أيضاً بكيفية ترجمة النصوص الإغريقية، ويعرض تفسيراً آخر. وبالإشارة إلى مسرحية هيراقل بعنوان: hen diapheron heautoi على أنها مسرحية تختلف عن نفسها، على السطح،الآن وفي هذه اللحظة كما هي موجودة، يقترح داريدا أن الإطار المرجعي لمصطلح "يختلف" قد ضاع عندما احتل تعريف الفرق الوجودي موقع المقدمة. (داريدا، 1982أ: 22). إن داريدا مهتم في كل من الصدى الحرفي والمجازي للتعبير الهرقلي: يعتمد الفعل diapherein على الجذر diaphero الذي يعني "النقل من مكان إلى آخر، العبور بشيء من مكان إلى آخر، يحمل، ينقل". إضافة لذلك استخدم الإغريق المصطلح مجازياً ليعنى: " تحريك اللسان، يتكلم"، ويربط داريدا العبارة باللغة، وخاصة اللغة المحكية ( وغير المسموعة). إضافة لذلك، استخدم هيرقل المصطلح بمعنى: " يقذف، معطل/ممزق"؛ في حين استخدمه أرسطو بمعنى: " يمزق، يشق، يفصل"؛ واستخدمه بلتارك بمعنى " يصرف عن الانتباه، يلهي" ( ليدل & سكوت، 1925: 417). ولم يستقر المصطلح على معناه الحرفي الحالي بمعنى " يختلف/ مختلف " إلا في مرحلة لاحقة. يحاول داريدا إعادة معنى من الاستخدام الإغريقي القديم للمصطلح، نافخاً الحياة في الكلمة لتعني حركة ما على طول السطح، في ذات الوقت الذي تحمل معنى، وتقلصه، وتشوهه وتؤجله. وهكذا فإن حركة الأثر" تنقل" و"تغلق"، تكشف وتطمس دائماً. إن داريدا يصغي إلى الصيغة الوسطى للفعل_معيداً الحياة في شيء ما انفصل أو تشوه من الداخل_ في اللغة نفسها_ مقارنة بشيء تم عزله وهو مميز عن الآخرين عندما يُنظر إليه من الخارج_ من مسافة موضوعية_ محاولاً إعادة تلك الصيغة أو طريقة الخطاب المفقودة ضمن طريقة الخطاب الحالية.
وضمن مقتضيات إخبار نظرية الترجمة، لا ينتمي "تحرك الأثر" لترجمة تحمل معنى محدداً تتجاوز به حدوداً، ولكن إلى حركة على طول طريق غائب، طريق تلاشى أو تبخر، إلى صوت يخبر ولكن لا يمكن الإمساك به، إلى صدى يختفي عند سماعه. إنه على صلة بالموضوع من خلال "مفهوم من الحركة" يتم توضيحه بشكل أكبر بحركة النثر عند هيدغر وابتكارات داريدا البلاغية بدلاً من ذلك الشيء الذي يحاولان التعبير عنه حرفياً. ومع ذلك، ومع أن الأسلوبين يتصلان ببعضهما إلا أنهما ليسا متطابقين.لأن هناك عند هيدغر، خاصة، في ترجماته، دائماً معنى بأنه يبحث عن شكل من أشكال الحضور قبل الوجودي، الذي، إن كان بوسعنا تحطيم إطارنا الفكري المغلق، سنفهمه بأن له معنى أكبر مما نتصور مقارنة بالمعنى المتفق عليه ثقافياً. وبالمقارنة، يبدو أن داريدا يقترح أن حركة الأثر لا يمكن أبداً الإمساك بها، لأنه، كما يوحي اسمها، عندما يحاول المرء إيقاف حركتها واستيعابها، تنتشر، وتنفصل، وتستمر في الحركة، منتقلة إلى مكان آخر.
يمكن إعادة تعريف الترجمة بشكل مشابه أيضاً. فعوضاً عن مجرد تعريفها على أنها عبور لفهم شيء ما، يمكن للترجمة أيضاً أن توفر مكاناً أو منبراً لممارسة ذلك العبور الذي يذوب ويهرب. فبدلاً من أن تثبت الترجمات المعنى نفسه، يمكن للترجمات أيضاً أن توفر مكاناً للحركة، وتوسع الحدود، وتفتح آفاقاً جديدة لمزيد من الاختلاف. يمكن تصور الترجمة كفعل أصبحت فيه الحركة على طول سطح اللغة مرئية، وأصبح اللعب بدون حساب واضحاً. يتحول مركز مثل إعادة التعريف هذا عن "معنى" النص، لأنه وفقاً لداريدا، لا معنى للعب. لا يوجد هناك Différance ثابت_ إنه يُفهم مجازاً بوصفه" رقعة الشطرنج هذه التي لا قرار لها والتي وضع الوجود(Being) كي يتحرك عليها.
يوضح جواب داريدا عن سؤال طرحه رودولف غاستشيهRodolphe Gasché في حوار طاولة مستديرة عن الترجمة تم نشره تحت عنوان The Ear of The Other" " (أذن الآخر) (1985ب) " الفروق بين وجهات نظر هيدغر وداريدا بخصوص الترجمة بشكل ممتاز. يسأل غاستشيه أين يضع داريدا نفسه من هيدغر خاصة بما يتعلق بتسليم هيدغر بوجود نقص جوهري في كل لغة أم ( في هذه الحالة، اللغة الإغريقية، وبالقياس كل لغة غربية بما في ذلك الفرنسية). يجيب داريدا مقترحاً أن الفرق بين نظريته في الترجمة ونظرية هيدغر أن الأخير يفترض صورة ما من " العذرية الأصلية الرئيسية"، "أساس" سليم/عذري، الذي مع أنه طُمس، ونُسيَ، وأساء الأغريق ترجمته، مازال يُتصور وجوده مع ذلك (داريدا، 1985: 114). يشير جواب داريدا عن سؤال غاستشيه، وعلى حق، إلى الصبغة شبه الدينية التي تفترضها كتابات هيدغر، وتلك صبغة ينبغي على داريدا أن ينأى بنفسه عنها إن كان على المشروع التفكيكي أن يواجه الفلسفة التقليدية. ومع ذلك فإن موقفه المواجه لموقف هيدغر ليس بعيداً كما يبدو للوهلة الأولى. في الحقيقة، يضع داريدا خطاب هيدغر في سياقه التاريخي ضمن النموذج الإغريقي الغربي الذي تمنى دائماً_ وافترض نظرياً_ وجوداً أصلياً عذرياً، سواء كان أم لم يكن موجوداً. وسواء أكان ذلك " اللب" الموحد خيالاً أم حقيقة، يعترف داريدا أن الرغبة بمثل تلك الكينونة حقيقية جداً، وهي بدقة ما يتأسس عليها كل قول، وكل مناشدة_ بما في ذلك الأدب والفلسفة (داريدا، 1985ب: 116).
وبالشك بما تأسست عليه اللغة، يخطو داريدا خطوة أبعد من هيدغر. يشك داريدا بأي تعريف للترجمة كأداة نقل، أو إعادة إنتاج، أو تمثيل أو توصيل لـ "معنى" الأصل. بل عوضاً عن ذلك يقترح أنه ربما كان من الأفضل النظر إلى الترجمة على أنها مثال يمكن النظر إلى اللغة من خلاله على أنها دائماً في عملية تحوير للنص الأصل، تأجيل وإزاحة لأية احتمالية للفهم يرغب النص الأصل في تسميتها. في الحقيقة، يُنظر إلى الترجمة من وجهة النظر التفكيكية على أنها نشاط يخفي دائماً الحضور ويحرف دائماً كل أنواع الرغبة. وما يدعم موقف داريدا، بشكل غريب، هو أن حرف الرغبة نفسه شرط لا غنى عنه للرغبة نفسها كي تتكشف، التوأم الصامت دائماً المصاحب للعاطفة كما نعرفها، وبالتالي الحضور المستحيل الذي يخفي/يظهر نفسه بغرابة ضمن مناقشة داريدا. وبطريقة مشابهة، يمكن النظر إلى الترجمة على أنها مُشغل نشط لـ différance ، بوصفها عملية ضرورية تشوه معنى الأصل في ذات الوقت الذي تكشف فيه شبكة من النصوص تساعد على التواصل بين اللغات وتعيقه.
يتبنى داريدا معتمداً على إعادة التعريف هذا للترجمة في مقالته بعنوان: "Des Tours de Babel"، (أبراج بابل) مفهوم وولتر بنجامين überleben بمعنى "بقاء" اللغة، ليشرح كيف تُحور اللغة الأصل أو تكمله. يوضح عنوان المقالة مرة أخرى القوة الصورية لكتابة داريدا، الصدى الغريب، الغموض الغائر في قصده، والشحن الدلالي المفرط الذي يرى داريدا وجوده في كل كلمة. بالنسبة إليه، تعيد " Des" صدى "بعض"، و" من"، و" من الـ" و "عن/حول" (راجع ملاحظة المترجم، داريدا، 1985أ: 206). والأهم من ذلك، إنها تحمل إيحاءات" على " بمعنى "يعيش على" أو " البقاء" (داريدا، 1979: 79)؛ في حين تستحضر " "Tours أفكاراً تتعلق بالأبراج، والفتل، والحيل، والأدوار.وتشكل " Des" مع "Tour" كلمة " "detour" التي تستدعي الإيحاءات المتعلقة بالتأخير/ التأجيل الهامة للمصطلح المسكوك حديثاً différance، إضافة إلى الكتابة المكملة والتي تقع عند الأطراف والتي يراها داريدا متضمنة جزئياً في أي مجموعة أو نص ساكن. والأمر أكثر تعقيداً في كلمة "بابل" إذ تحتوى على الإشارة إلى "أب" (با، في اللغات الشرقية"، و" الإله" (بيل، في اللغات نفسها"، "أب" في بابل في هذه الحالة. ويقترح داريدا أن حتى أسماء العلم تردد صدى متعدد المعاني دائماً، لأن اسم العلم هذا يحمل معه سلفاً مفاهيم "الفوضى" كما في " بابل غير المتماسكة" أو "اختلاط الألسن"، وكما في " حالة عقلية مشوشة"عندما يتم قطع سلسلة منسجمة متواصلة من الحالة العقلية. (داريدا، 1985أ: 166-7).الإله بالنسبة لداريدا قوة مدمرة/ مفككة لأنه تدخل ومنع بناء برج بابل (داريدا: 1985ب: 102). وفي فعله هذا فإن الإله يقطع نفسه وبالتالي ينتج " disschemination" "التشتيت" والتي يخبرنا المترجم جوزيف غراهام بملاحظة له بأنها تشير إلى "الإنتشار"، و "الفوضى"، و تمزيق قبيلة سام، والانحراف عن chemin بمعنى (الطريق). يرى داريدا أن الإله يقول مخاطباً قبيلة سام: " لن تفرضوا معناكم أو لغتكم، وأنا الإله سأجبركم على الخضوع إلى تعدد اللغات التي لن تتخلصوا منها أبداً" (داريدا، 1985ب: 103).
وهكذا نجد أنه بمجرد التفكير بأربع كلمات من عنوان المقالة، نرى كيف أن كتابة داريد تقوم بأكثر من مجرد تحويل أو إبعاد، إنها تتدخل بفاعلية في القوالب الميتافيزيقية والفكرية الدينية، وتعرض بديلاً. ويرى داريدا أن "مهمة" المترجم، متبنياً مقولة بنجامين ليست أقل من توكيد بقاء اللغة، وبالقياس، بقاء الحياة. ويرى داريدا أن مقدمة بنجامين لـ "مهمة المترجم" هي مقدمة لترجمات بنجامين لبودلير Tableaux parisiens (لوحات باريسية) (1923)، وهي عن نفخ الروح، وتحويل النص الأصل، وهكذا "يستمر في بقائه، وبالتالي "يعيش لفترة أطول وأفضل"، ويعيش" بمعزل عن المؤلف"، (داريدا، 1985أ: 178-9). يستشهد داريدا ويشرح ضمن أقواس قراءته لبنجامين كما يلي:

وكما أن مظاهر الحياة تتصل بشكل وثيق بالعيش، دون أن تشير إلى أي شيء يخصها، فالترجمة تتقدم من الأصل. وفي الواقع، تتقدم من مقدرتها على البقاء überleben أكثر من تقدمها من حياتها. ولأن الترجمة تأتي بعد الأصل، ولأن معظم الأعمال الهامة لا تجد مترجمها المقدر عليه ترجمتها ساعة ولادتها، فإنها تصف مرحلة بقائها [ Fortleben، وهذا البقاء هو استمرار للحياة أكثر من كونه حياة بعد موت]. (داريدا، 1985: 178).

وهكذا نجد أنه بالنسبة لداريدا و بنجامين أن "الأصل" يحتوي دائماً على بنية أو شكل آخر_ "مرحلة" لبقاء مستقبلي_حتى ولو لم يترجم النص أبداً. تلك البنية ليست مرئية، ليست شيئاً تاماً وموحداً؛ إنها تتعلق بشكل أكبر بحالة وجودية غير مكتملة بالنسبة لاحتمالات المستقبل، إنها حالة مفتوحة لا تتغير بفعل أي نسخة جامدة أو محددة. نفسياً، يمكن التعبير عن هذه الكينونة غير المكتملة أنها رغبة النص التي لا تنتهي في بحثها عن حياة وترجمة. يتحدث داريدا عن مثل تلك البنية نصف المكتملة، التي لا يمكن للمرء تصور صورتها المكتملة إلا تخميناً، عندما يتم ربطها بـ" القانون" الذي يحكم الترجمة، والذي يراه بنجامين أيضاً "ديّناً" Aufgabe لا غنى عنه في "مهمة" المترجم الأساسية. يسلم الأصل نفسه ( (aufgeben في عملية تحويل نفسه نفسها، ويعيش بذلك التغير الإحيائي، بتحويله. وبشكله الجديد، يتحور الأصل أيضاً_ إنه ينمو، وينضج. يستجيب النمو بالترجمة إلى الأصل، بحيث يسد تلك البنية المفتوحة في النص الأصل (داريدا، 1985أ : 188).
في مثل تلك العملية، لا يتم تجديد النصوص فحسب بل واللغات أيضاً. الترجمة، بالنسبة لداريدا و بنجامين، تسم أو "تعيد وسم" بمعنى "تعبر" عن صلة نص باللغات الأخرى. واللغات، بالنسبة لداريدا، ليست غير متقاربة أو مستخلصة واحدة من الأخرى، ولكنها متداخلة دائماً ويمكن اشتقاق الواحدة من الأخرى تبادلياً. تضع الترجمة الكاتب في تماس مباشر مع مفهوم بنجامين "اللغة النقية" (reine Sprache). وبتجاوز حدود اللغة الهدف، وبتحويل النصوص الأصل في اللغة الأصل، يوسع المترجم، ويكبر أو يجعل اللغة تنمو. والتكبير هذا ليس خطياً ولا منتظماً، ولكنه تكبير متشظٍ لا يحدث إلا في " نقاط صغيرة غير متناهية"، و يشبه مفهوم باوند Poundعن شظايا اللغة، أو النحت، و له " تفاصيل مضيئة". والاستعارة التي استخدمها بنجامين واستشهد بها داريدا هي ذلك التكبير بالوصل على طول خطوط متكسرة لشظية. يستشهد داريدا ببنجامين على النحو التالي:

لأنه تماماً كما ينبغي على شظايا الأمفورة[ قارورة ضيقة العنق ذات عروتين كان الأغريق والرومان يضعون فيها الخمر أو الزيت الخ.، المترجم]، إن كان بوسع المرء إعادة بناء الكل، أن تكون خطوط الكسر متشابهة فيها في أدق التفاصيل، ولكنها ليست متطابقة مع بعضها البعض، فكذلك فعوضاً عن نقل نفسها بشكل مشابه لمعنى الأصل، ينبغي على الترجمة عوضاً عن ذلك، بحركة ودودة وبتفاصيل كاملة، أن تمرر إلى لغتها أسلوب قصد الأصل: وهكذا، فكما يتم التعرف تماماً على الحطام بوصفه شظايا الأمفورة نفسها، يصبح التعرف على الأصل والترجمات بوصفهما شظايا لغة أكبر. (وولتر بنجامين، 1955؛ مستشهد به في داريدا، 1985أ: 189-90)

لا توجد هناك، بالنسبة لداريدا، أشكال أفلاطونية تكمن خلف مفاهيمنا الفكرية. لا نملك شكلاً من أشكال معرفة أور[ مدينة أور التاريخية في الحضارة السومرية الواقعة على ضفاف الفرات في جنوب العراق حالياً، ووقعت فيها أحداث ملحمة جلجامش، المترجم] عن ماهية "الحياة" أو "الأسر". لا يوجد هناك أي شيء، فلا معنى نقياً خلف الكلمات، ولا خلف اللغة. بل عوضاً عن ذلك، بالنسبة لداريدا، الحياة_ أو "العيش" (Überleben)_ موجود أساساً في مصطلح "ترجمة" (Übersetzen)، ويصبح بالنسبة إليه نقطة البداية التي يبدأ منها فهم ما تعنيه الحياة والعائلة. لم تخل كتابات دارايدا قط من معنى حب للحياة، حب للغة، ولعب باللغة. وفي معنى مؤكد للحياة، فكتابات داريدا شبه دينية، وهذا ما يفسر انجذابه لبنجامين وهيدغر. فُهمت التفكيكية على أنها قوة إيجابية لا توسع جسم اللغة بمعنى رمزي فقط، ولكن بمعنى فيزيائي أيضاً. وبعملية تمس فيزيائياً ومادياً وتفتح بدلاً من عملية تفهم بشكل مجرد وتغلق، تسمح التفكيكية، من خلال إعادة البناء دون التمثيل، بالأخذ والعطاء، وبالحب والنمو. والترجمة، أكثر من أي أسلوب أو شكل آخر، تكمل و تعيد تأكيد، وتمثل البقاء من خلال الولادة، وعملية إعادة الولادة؛ ومن هنا تأتي أهمية الترجمة في المشروع التفكيكي للأشياء. يكتب بنجامين أن الأصل يكبر بالترجمة؛ ويضيف داريدا أن الترجمة تتصرف كـ "طفلٍ" الذي ليس هو مجرد "نتاج" خاضع لقوانين "إعادة الإنتاج"، ولكنه يمتلك إضافة لذلك "قدرة التكلم بنفسه" بطريقة جديدة ومختلفة، مضيفاً للغة، مردداً صدى " النغمة البابلية" (داريدا، 1985أ: 191) التي تؤدي إلى نمو اللغة. تضمن عملية الترجمة إعادة ولادة، إعادة توليد، ظهور، "النمو المقدس" للغات عامة، وبالنسبة لداريدا، الوسائل التي نفهم بها أنفسنا.
وهكذا تضعنا الترجمة، كما تم تصورها، في تماس ليس مع شكل ما من أشكال المعنى الأصلي، ولكن مع تعددية اللغات والمعاني. ووفقاً لداريدا، لا يكتب المرء قط في لغة واحدة فقط، ولكنه يكتب سلفاً ودائماً في عدة لغات، حيث يكّون معان جديدة في الوقت الذي ينهي فيه أخرى. وحتى الترجمات "الصحيحة" تخفي، وحتى النسخ المتطابقة تحمل معان مختلفة. تذوب الأصلية عندما يبدأ المترجم بتحوير الأصل والزيادة عليه؛ وتبدأ المناطق الرمادية بين اللغات_ التخوم_ بالظهور. وتعود الآثار، علامات المعنى المشتت، للظهور ثانية_ليست بعذريتها ولا تم تبديلها تماماً، ولكن مازالت تعيش بشكل ما، أي باقية على قيد الحياة.
و "نظرية" الترجمة عند داريدا ليست نظرية بالمعنى التقليدي_فهي ليست معيارية ولا تقترح نموذجاً أفضل للنقل؛ بل عوضاً عن ذلك، تقترح أن المرء قليلاً ما يفكر وفق شروط النسخ أو إعادة الإنتاج ولكنه يفكر بشكل أكبر بكيفية ارتباط اللغات ببعضها البعض. إن العلامات، والآثار، وأشكال الاتصال باللغات الأخرى موجودة متزامنة مع تقديم ما يهدف النص إليه بغض النظر عن ماهيته. لأنه في الترجمة تتلامس اللغات، بغض النظر عن رقة ونعومة الطريقة، قبل أن تنفصل ثانية؛ وتقدم الاحتمالات نفسها قبل أن يقوم فعل التسمية والتحديد بإيقاف اللعب المتفاعل. ربما كان بوسع المترجم أثناء عملية الترجمة تحسس اللحظات الهاربة التي يشير إليها هيدغر بالحالة غير المفهومة. يقع اهتمام داريدا في الترجمة في العملية قبل حدوث التسمية، في الوقت الذي مازال "الشيء" فيه ليس هو. وهكذا، تفكك عملية الترجمة النصوص وتعود إلى نقطة قبل أن يُسمى الشيء؛ وبالتالي توضح ممراً يمكن من خلاله حرف المعنى أو تجعله يسلك ممراً مختلفاً.
يبدو أن نقطة داريدا النظرية الأساسية أنه لا يوجد هناك معنى صاف، لا شيء يمكن عرضه خارج اللغة، لا شيء( بالمعنى المطلق) لكي يتم عرضه. تكمن هنا جذرية المشروع التفكيكي. وبشكل مشابه للموقف الشكلي، ما يوجد فعلاً، وفقاً للتفكيكين، سلسلة مستمرة من الدلالة مؤلفة من لغات في حالة دائمة من التفاعل، تزود الواحدة الأخرى بشكل متبادل. وبالإضافة لمثل تلك السلسلة المستمرة، يميل الشكليون لإيجاد أعمال أدبية موحدة بوصفها هدفاً ضمن النظام، وذلك تصور ضعيف للغاية بالنسبة لداريدا. وأكثر من ذلك، يعزو الشكليون وجود شكل ما من أشكال البنية التحتية للنظام اللغوي، وشكل من أشكال النظام لتطور اللغة، في حين يتصور داريدا رقعة شطرنج لا قرار لها، وتطور عشوائي مستمر يحدث مصادفة بدون أي إمكانية للتكهن بنتيجته. وهكذا يهدم داريدا أسطورة الأشكال التي تقبع خلف النظرية الشكلية.
وفقاً لذلك، يتوقف النظر إلى الترجمة بوصفها مجرد عملية نقل بين لغتين منفصلتين، بل عوضاً عن ذلك، يُنظر إليها بوصفها عملية دائمة في أي لغة بمفردها أيضاً. وتختفي الحدود بين اللغات. هناك في كل نظام لغوي عدة لغات تعمل دائماً على قدم وساق_ تحتوي كل اللغات على عناصر من لغات أخرى، إضافة إلى قدر من عدم الاستقرار، والغموض ضمن كلماتها نفسها. تفترض نظريات الترجمة تاريخياً_ قبل ياكبسن وبعده_أنظمة مختلفة وجلية. وفقاً لداريدا، تبدي العناصر غير النقية نفسها للعيان في الترجمة، وتقع الحوادث، وتصبح الفوضى مرئية تماماً. هناك أوجه موازاة بين "يترجم" و " يختلف/ يؤجل" يدركها كل من داريدا والمترجمين الممارسين أيضاً. اشتقاقياً، " يترجم" مشتقة من الكلمة اللاتينية translatus بمعنى " "حُمل". وtranslatus هي صيغة اسم الفاعل/المفعول من transferre. ولو قُسمت إلى trans و ferre، يمكننا رؤية مدى قربها من كلمة dia وpherein. تعني الكلمة اللاتينية ferre "يحمل" أو " ينقل" كما في حمل الدرع، وغالباً ما استخدمت لتعني: "ليحمل" أو " ينقل" مع فكرة الحركة (هومر)، كما في حالة السفن التي تحملها قوة الرياح. وعنت أيضاً "يتحمل، يعاني" كما في يتحمل عبئاً عقلياً، وبقيت حتى الآن في عبارات مثل: " إنك لا تحقق نجاحاً طيباً". وما هو على قدر من الأهمية بالنسبة للتفكيكين، تشير الترجمة إلى معنى الطرق أو الممرات التي تؤدي إلى مكان، كما في "باب يؤدي إلى حديقة، أو إلى طريق يؤدي إلى مدينة"، بحيث تحمل معنى توسع أو تمدد باتجاه ( ليدل و سكوت، 1925: 1922-3؛ كلين، 1966: 157). وبالتجريب بخيارات الكلمات المحتملة، ما يصبح باد للعيان هي الفروقات الدقيقة بين الكلمات المتشابهة جداً، وتلك ممارسة تظهر للعيان قصور/حدود اللغات. إن ذلك الكشف للقصور والاستحالة يعطي الفرصة لولادة بدائل جديدة في منطقة ضبابية تماماً لا تنتمي إلى أي من اللغتين، بل إلى مكان مختلف صامت لا يمكن لأي من اللغتين تحديده. إن ما يحدث خلال الترجمة الفعلية، ومن خلال اختيار إمكانية واحدة، هو أن ذلك الفكر الصامت الذي بدا ممكناً بين اللغات يتم تأجيله، وتأخيره وطمسه بواسطة أطر الكلمة التي تم اختيارها.
يقترح عمل داريدا أنه يمكن لنظرية الترجمة أن تصبح "حقل الدراسة" الأفضل إذا ما بدأت بالبحث بهذه الآثار غير المسموع بها، وهذه الاحتمالات التي يتم طمسها عندما نبدأ الحديث. ونظرية الترجمة مجهزة، كما وضح بوبوفيش Popovič، لمتابعة اللعب "القذر" لكل أنواع الأخطاء، والمشاكل، والحوادث، والعجز، والتشعب، والاختلاف. ومع أن ذلك لا يصل إلى ما يعنيه داريدا بمصطلحه _ différance الذي لا يمكن صيانته أو فهمه_ إلا أن مثل ذلك التحليل قد يكون أقرب ما يكون إلى ما يمكن للمرء الوصول إليه في الكشف عن تلك الصفة الصامتة للغة. أما تجاهل مثل هذه الاحتمالات، كما فعلت نظرية الترجمة تاريخياً، فلا يعني سوى العمل على استدامة أوجه عجزها. يفضل داريدا استخدام عبارة " التحويل المنظم" على "الترجمة"، لأنه يقول لن يكون بوسعنا قط نقل المدلولات النقية من لغة إلى أخرى:

الاختلاف ليس نقياً قط، والترجمة ليست أقل من ذلك؛ أما بالنسبة لمفهوم الترجمة فعلينا استبداله بـمفهوم "التحويل": تحويل منظم من لغة إلى أخرى، ولنص إلى آخر. لن يكون بوسعنا أبداً، ولم يكن ذلك بمقدورنا قط، العمل بشكل ما على "نقل" المدلولات النقية من لغة إلى أخرى؛ أو ضمن اللغة الواحدة ونفسها، بحيث تبقيها وسيلة التدليل عذراء أو غير مخدوشة (داريدا، 1981: 20).

سيميل مثل هذا المنهج بالتأكيد إلى تحطيم قوة المدلول الخارقة، ويحرر الحقل من تقويم الترجمات وفق مقتضيات قربها من تكافؤ نقي. وربما حرر أيضاً الأدباء من قيود التسمية كي يصغوا ويفكروا_ ليس وفق مقتضيات لغة واحدة أو أخرى، ولكن وفق مقتضيات المنطقة الضبابية/الرمادية التي مازالت حدودها غير مرّسمة، والتي بالكاد يمكن رؤيتها، والتي لا اسم لها وليست كذلك.

مناقشات الترجمة ما بعد داريدا

إن موجات البديل التفكيكي الارتدادية للمناهج التقليدية في الترجمة واسعة الانتشار وتتراكم، ما يجعلها صعبة التوصيف. سأتناول باقتضاب في هذه الفقرة أربع مناطق تمت المناقشات فيها وهي أولاً: ضمن مجموعة Tel Quel؛ وثانياً، في دراسات الترجمة؛ وثالثاً، في نظرية الأدب الإنجليزية- الأمريكية؛ ورابعاً، في فلسفة اللغة.
يتمحور كثير من النقاش حول التفكيكية، والترجمة، وطبيعة اللغة في الدوائر الفرنسية حول كتابات جيمس جويس، والاستراتيجيات التي يفضلها مترجموه. وربما كان أفضل مثال عن ممارسة " الإنتاجية المؤكدة" كما يفضل أن يسميها التفكيكيون أنفسهم هو ترجمة جويس نفسه لمقطعين من Finnegans Wake. وذلك آخر شيء قام به قبل موته؛ يوضح ذلك كيف أن الترجمة تنير الأصل وتطوره، وتعطي الأدباء معنى أفضل لطبيعة الأصل المؤقتة. وتقترح جاكلين ريزيه Jacqueline Risset، وهي أول من نشر ترجمات جويس في Tel Quel، أن مثل ذلك النص يوضح تصور داريدا في أن الترجمة تحول الأصل أثناء وضعه في اللغة الثانية. وترى أنه لا يمكن تسمية النص الإيطالي Finnegans Wake بترجمة أبداً، ولكنها تتحدث وفق مقتضيات أن النص معادة "كتابته"، "تطويره" التي لا يمكن مقارنتها بالأصل، ولكن بوصفها " عملاً قيد التطور" (ريزيه، 1984: 3). من الواضح أن النص "الإنجليزي" لـ Finnegans Wake أحد الأمثلة عن احتمالات لغوية متعددة ضمن لغة (واحدة) عامة، وبالتالي يبقى عصياً على الترجمة كما يفهمه العالم الغربي. ولم تترجم Finnegans Wake في بعض اللغات، وهي متوفرة في نصها الأصلي فحسب، ليس بسبب صعوبة ترجمتها فحسب، ولكن بشكل أكبر بسبب أن النص لم ينظر إليه بأنه إنجليزي ولكنه متعدد اللغات. إن كل كلمة في الكتاب تقريباً غنية جداً بإشارة إلى لغة أجنبية بحيث تدفع بأبعاد الأحادية اللغوية إلى أقصى حدودها. نظرياً، يبدو سلفاً أنها تمثل الحد الأقصى وفق شروط درجات تشظية العرض؛ وبالتالي تبدو أي ترجمة لا معنى لها، أو بعبارة أخرى، تقوم فقط بوظيفة ضغط اللعب الحر للوحدات المعجمية بمعنى تنتج فيه بنية وبالتالي تحددها. إن استراتيجية الترجمة التي استخدمها جويس نفسه تضاعف بشكل توضيحي خيارات الترجمة ثانية، إذا ما كان بالإمكان تصورها، ليس بالحفاظ على الإطار متعدد اللغات من خلال استيراد مورفيمات اللغة الأجنبية، ولكن من خلال البحث في إمكانيات اللغة من الداخل. فعوضاً عن سك كلمات ومصطلحات جديدة، يعتمد جويس على مستويات متعددة موجودة سلفاً في اللغة الإيطالية_ تعابير اصطلاحية متنوعة، و لهجات، وألفاظ مهجورة_ كي يحقق صدى الأصل المتعدد.
وتقول ريزيه في بحث بعنوان: " جويس يترجم جويس" (1984)، لم يبحث جويس عن تكافؤات محتملة من الأصل، ولكنه يسمو بالأصل إلى مرحلة جديدة، إلى " تنوع متقدم جداً من النص في العملية" ( ريزيه، 1984: 6). وليس صدفة أن ريزيه نفسها شاعرة ومترجمة، إذ أن آخر مشاريعها ترجمة لـ " الملهاة الإلهية" لدانتي للفرنسية؛ وقد أنجزت أول مجلدين ونشرتهما دار فلاماريون. يبدو أن استراتيجيتها في الترجمة "تفكيك" كتابات دانتي التي تحتل مكانة مقدسة في الفرنسية؛ وجعل كتاباته المرحة والعامية التي يستطيع كل طفل إيطالي قراءتها والاستمتاع بها، في متناول الجميع في ترجمتها. وترى أن جويس استطاع باللجوء إلى الإمكانيات غير المتجانسة في لغة واحدة إنجاز تأثيرات خفية مشابهة ومستويات دلالية في الإيطالية دون الوقوع في غياهب الغموض مع ذلك. وتقترح ريزيه أن جويس تخلص بانتظام من كل التلميحات الأجنبية الخفية، مستبدلاً إياها بنسخة أحادية اللغة حيث تم نقل كل أنواع الانحرافات بلغة إيطالية. فعلى سبيل المثال، نجد في عبارة:
" Annona gebroren aroostokrat Nivia, dochter of Sense and Art, with Spark's pirryphlickathims funkling her fran"
أن جويس قد تخلص من كل الإشارات اللاتينية، والألمانية، والإغريقية، ويكتب:
" Annona genata arusticrata Nivea, laureolata in Senso e Arte, il ventaglio costellato di filgettanti" (ريزيه، 1984: 9)
ولأن طول تاريخ الثقافة الإيطالية وعمقها وبكل هالاتها الأرستقراطية وطابعها الكلاسيكي قد التحم بامتياز بالألوان الريفية وصباغاتها المحلية غير المثقفة، يستمتع الإيطاليون بتنوع غني لا ينقص عن الإنجليزي الأجنبي المحرف. إن مثل هذه الاستراتيجية المعتمدة على وضع كل شيء في الإيطالية أساساً تكشف الصفات اللغوية المتعددة الموروثة في أي لغة حتى بشكل أكثر درامية من الأصل Wake نسبياً. وتخلص ريزيه إلى أن استراتيجية جويس في الترجمة تكشف شيئاً عن طبيعة اللغة و " حرية اللهجة". إن سك كلمات جديدة عملية دائمة، وهكذا تلعب دراسة اللهجة دور الملقح للوصول إلى فهم أفضل لظاهرة الترجمة. تنطوي استراتيجية جويس على أكثر من مجرد استخدام واقتباس من لهجات متنوعة؛ بل عوضاً عن ذلك " تُعامل اللغة نفسها" في منهج جويس على أنها "لهجة". وتقول ريزيه أنه في "عمل" مثل هذه "الاستراتيجية" يصبح المرء مدركاً "لشيء آخر"، أي: لغة اضطرب مجالها، وتحرك وفقاً "لإبداع منسيٍ" (ريزيه، 1984: 13). إنه ذلك الشيء الآخر الذي تتمنى ريزيه "استعادته" لدانتي في ترجماتها.
لقد دفع جويس، في عملية الكتابة وعملية الترجمة، بحدود اللغة إلى آفاق أبعد من الحدود الضبابية البعيدة التي تم التفكير بها حتى الآن. ففي حين تتحرك الإنجليزية نحو الخارج تتحرك الإيطالية نحو الداخل؛ ومع ذلك فكلاهما يحللان ويماريان في صحة الاستقرار والتحديد عندما يسكان كلمات جديدة ويفتحان آفاقاً جديدة للفكر. وفي نشاطه الترجمي، يؤكد جويس، على أية حال، بشكل أقوى مما هو في الأصل معنى الشيء المحرف/المشوش حول طبيعة اللغة الذي ينشأ من الداخل، وليس شيئاً قادماً من مصدر أجنبيٍ. وكما ينزع داريدا للقيام بأخطاء متعمدة كي يخلق اضطراباً شكلياً، فكذلك يشوه جويس عمداً اللغة من الداخل ضمن سياق عامي من اللغة المحكية اليومية لتحقيق نتائج مماثلة، وبالتالي يؤجل/يؤخر إخراسها و تصنيفها تماماً/إعطائها معنى ثابت محدد. إن هذا الجانب الهدام للغة والترجمة كما وظّفه جويس خطير سياسياً واجتماعياً، وربما يفسر لماذا أصبحت ترجمة أعمال جويس عصا القياس لتقويم درجة حرية النشر التي تتمتع بها بعض الثقافات. إن زمان ترجمة أعمال جويس والظروف المحيطة بها لهما أهمية تاريخية قصوى.
إن الخطر السياسي والمؤسساتي الذي يلوح به مثل هذا البديل بالنسبة لأية نظرية ترجمة تعتمد الثنائية الميتافيزيقية واضح تماماً للعيان؛ وقد يفسر ذلك لماذا التزم مفكرو دراسات الترجمة الصمت في استجابتهم للأسئلة التي طرحها التفكيكيون. والمحاولة الوحيدة الجادة في دراسات الترجمة للحديث عن نظرية الترجمة وفق مقتضيات ما بعد داريدا كانت بحث ريموند فان دي بروكRaymond Van den Broeck بعنوان: " نظرية الترجمة بعد التفكيكية " الذي نُشر في عام 1988. قرأ فان دن بروك الفقرات المتعلقة بالترجمة في أعمال داريدا، وبمساعدة من نص جونثان كلرJonthan Culler بعنوان: "عن التفكيكية "، يقرُّ أنه في كل ترجمة هناك ضياع مهم للمعنى، مما يؤدي إلى استبدال داريدا لمصطلح الترجمة بمصطلح التحويل. والتفكيكية بالنسبة لفان دن بروك، متفقاً في ذلك مع كلر، ليست عملاً تهديمياً، ولكن عمل إزاحة/تحويل، إنها عمل يتحدى التقابلات التقليدية، أو إنه عمل يعكس مثل هذه التقابلات ( كلر، 1983: 150؛ بروك، 19088: 274). و يستشهد بداريدا على أنه يقول: " ينبغي على التفكيكية من خلال إيماءة مزدوجة، جملة مزدوجة، كتابة مزدوجة، أن تمارس عكساً للتقابلات التقليدية وإزاحة عامة للنظام" (داريدا، 1977: 195؛ بروك، 1988: 278). ووفقاً لفان دن بروك، يمكن إنجاز هذا العكس والإزاحة العامة بتحويل لغة النص الهدف بترجمة قوية فعالة تختبر الاستخدام التقليدي وتتلاعب به. ويستشهد بداريدا من مقالة بعنوان: (الاستمرار في الحياة) " Living On" على أنه يقول أن هذا النوع من التحويل ينطوي على " انتهاك وإعادة حيازة متزامنين للغة" لأنه " يُجبر المترجم على تحويل اللغة التي يترجم إليها" (داريدا، 1979: 87-9)؛ مستشهداً به في بروك، 1988: 280-1). وبعد ذلك يستشهد بداريدا من "أبراج بابل" على ضمان بقاء الأصل مرتأياً أن داريدا ينادي بأنه ينبغي على المترجم أن يوظف إستراتجية ترجمة" مفسدة" " تتابع الحركة المزدوجة لكل من انتهاك مبادىء الاستخدام و الحفاظ عليه (بروك، 1988: 283).
وبعد ذلك يحاول فان دن بروك إدراج داريدا ضمن منهج دراسات الترجمة قائلاً بما أن داريدا قلب نظريات الترجمة التي تولي النص المصدر جل الاهتمام رأساً على عقب، فبالتالي ينبغي أن يعزز الأقوال التي تنادي بها مناهج الترجمة التي تولي النص الهدف جل اهتمامها، أي: منهج دراسات الترجمة. إنه يرى منهج دراسات الترجمة، خاصة نظرية غايدون توري ، يتطور وفي الواقع يسبق نظريات التفكيكية. وكما أن التفكيكية تتحدى نظريات التقريرية/التحديدية، أي:النظريات التي تتعامل مع المعنى بوصفه صفة ثابتة من صفات النص، فكذلك يرى فان دن بروك أن دراسات الترجمة تعلل تنوع طرائق الترجمة وأنواعها ( بروك، 1988: 276). ويذهب فان دن بروك إلى حد القول أن كتاب توري " في البحث عن نظرية ترجمة" (1988)، وخاصة إصراره على كشف المعايير التي تحكم الترجمة، يمكن أن يشرح بشكل أفضل الأسباب التي أدت إلى عدم تحقيق منهج داريدا التفكيكي المنادي بالانتهاك والحرف إلا نجاحاً محدودا نسبياً. ويرى أن نظرية داريدا لا ترقى لأن تكون نظرية لغوية جديدة، ولكنها مجرد نظرية "أقدم" و" معيارية إلى حد كبير". "تفضل التفكيكية فقط المعيار الذي يتضح وفق التقابل الكلاسيكي بأنه يحتل هذه الأيام الموقع الدوني" (بروك، 1988: 281). لا "يثق" فان دن بروك بموقف داريدا لأنه لا يوفر "قاعدة موضوعية" أو " نقطة بداية للبحث" (بروك، 1988: 281) كما يفعل النموذج متعدد الأنظمة.
إن قراءة فان دن بروك تقوده إلى تصنيف داريدا فقط وفق الشروط الميتافيزيقية، الأمينة/الحرة للترجمة التي تحكم تقليدياً نظرية الترجمة. ويخلص إلى القول: "وأخيراً فالنظرية التفكيكية للترجمة ليست نظرية بالشكل الذي نتمناه. من المحتمل جداً إنها مجرد نظرية بالمعنى التقليدي للكلمة، أي: نظرية تقنن ما ينبغي على الترجمة أن تكون" (بروك، 1988: 286). إن النظر إلى داريدا على أنه يقدم مجرد تقنين آخر للحصول على ترجمة أفضل، أي: تقنيين يجلب تأثيرات فوضوية ومفسدة إلى اللغة الهدف، اختزال وأمر مضلل. ينادي داريدا بالإزاحة الشكلية، ولكنه يستخدم أيضاً فوضى شكلية بعناية ودقة لفتح آفاق تفكير غير مقيدة وتوفير أرضية لتفكير وفق مقتضيات أخرى، بقدر المستطاع. لم يحاول فان دن بروك متابعة تفكير داريدا أو لعب اللغة إلى مثل تلك الحدود، وهذا هو السبب وراء ارتكابه للخطأ المتمثل باقتراحه أن مناداة داريدا لعكس التقابلات التقليدية يمكن مساواتها بالمنهج الذي يولي النص الهدف جل الاهتمام. ومنهج تجريبي منهج يعزز التفكير المفاهيمي المزدوج الذي يعزز بدوره فروقاً مثل فاعل/مفعول به، ويخلّد فروقاً مجرد/ مادي التي يحاول داريدا جاهداً ودائماً تهديمها. يقوم داريدا بأكثر من مجرد كتابة différence بـ a؛ إنه يستدعي إلى الذاكرة مصطلح صوت وسيط ليس بفاعل ولا مسند، تم فقدانه أو تم كبحه على مر العصور؛ ويتملص من الملاحظة التجريبية. لم يناقش لا فان دن بروك ولا أي من مفكري دراسات الترجمة حتى الآن البديل بشكل جاد، وأن مثل هذا الصمت يُضعف من ملاحظاتهم المنتظمة.
تمحور النقاش في الدوائر الأور_أمريكية، عن الترجمة في حقبة ما بعد داريد حول جدل مازال مستمراً يعنى بمقالة لولتر بنجامين بعنوان: " مهمة المترجم". ويذهب بول دي مان في "مقاومة النظرية" (1986) إلى حد القول:" إنك لا تساوي أي شيء حتى تكتب شيئاً ما عن هذا النص". وربما أمكن تحديد أول قراءة تفكيكية لمقالة بنجامين في مقالة لكارول ياكوبس Carol Jacobs في عام (1975) بعنوان: "عجبة الترجمة"، التي تقول فيها أن نظريات المحاكاة، أي: المناهج التي تدعي موضوعية المعرفة، لا تساعد كثيراً على قراءة بنجامين. وترى أن مفهوم بنجامين للغة يعتمد على الاختلاف، وقد تخلى عن أي اعتقاد في أن اللغة تشير إلى حقيقة موضوعية. بل عوضاً عن ذلك تُحاك الترجمات في تاريخ نصي يحوّل دائماً الكلمات، مترجماً ترجمات أخرى. إن نص بنجامين " يزيح التعريفات" بدلاً من أن يثبتها، ولهذا السبب، غالباً ما تكون كتاباته ساخرة ومخادعة، ومليئة بترداد الصدى، ولكن بمصدر لا يمكن تحديده. إنها تقرأ مقالته بشكل أكبر بوصفها فعلاً ترجمياً_موجودة مسبقاً في مجال ترجمات الترجمة، وأقل بوصفها مقدمة، أو قطعة نقدية.
ووفقاً لمقتضيات استراتيجية بنجامين في مثل إعادة الكتابة هذه، تقول ياكوبس أنه كي نلتقط لمحة عن طبيعة اللغة وهي تتشكل في تحول التناص الدائم، نستبدل الجملة والقضية بوصفهما الوحدة الأساسية بالكلمة. وما سينتج لن يكون نتاجاً طبيعياً، متكاملاً، وموحداً؛ بل عوضاً عن ذلك ستطل "عجبة" الترجمة برأسها. سيظهر عدم التجانس الذي " سيفكك" كل جوانب النحو و "يقطع أوصال"كل الأشكال الطبيعية المتعارف عليها. لا تستهدف الترجمة القارىء_إن مفهوم القارىء المثالي، وفقاً لبنجامين، ضار حقيقة في الاعتبارات النظرية للعلم. إن الترجمة " تجعل تلك اللغة التي نعتقدها لغتنا أجنبية تماماً" (ياكوبس، 1975: 756). الترجمة كلمة بكلمة مفضلة على تلك التي ُتركب وتوحد. وتستشهد ببنجامين على أنه يقول: " الحرفية تقلب تماماً كل إنتاج المعنى بخصوص النحو وتهدد مباشرة بالقيادة إلى عدم الفهم. وفي أعين القرن التاسع عشر، كانت ترجمات هولديرلان Holderline لسوفوكليس " أمثلة شنيعة عن مثل تلك الحرفية" (ياكوبس، 1975: 761). وتقول ياكوبس أن هذه العُجبة هي بالضبط ما يمتدحها بنجامين.
توضح ياكوبس أن هذا التوكيد على الاختلاف بدلاً من التشابه، وهذا التركيز على الكلمات بدلاً من الأشياء والأغراض، قد خلق مصاعب لمترجم بنجامين للإنجليزية هاري زوهن Harry Zohn الذي غالباً ما عكست ترجمته البعيدة عن الحرفية نسياً مفهومه هو عن اللغة أكثر مما عكست مفهوم بنجامين. وتقدم ترجمتها لعدة مقاطع، ليس بوصفها نقداً لزوهن أو لتأسيس نسخة أكثر "صحة"، ولكن كي تعرض قراءة بديلة في اللعب في الحيز بين ترجمتها وترجمة زوهن. فعلى سبيل المثال، تقترح أن نقل زوهن المنطقي والأقل حرفية للاستعارة حول شظايا الأمفورة ( التي يستشهد بها داريدا آنفاً) قد تكون مضللة. إن رغبة زوهن في الانسجام، والتلاحم، ونقاط الربط المنطقية تؤدي به ليقترح أنه ينبغي قراءة التشبيه على النحو التالي: مثلما ينبغي على شظايا القارورة " التي ينبغي لصقها سوية أن تتشابه في أدق التفاصيل" كي تشكل قارورة متكاملة أكبر، فكذلك يمكن النظر إلى الترجمات بوصفها شظايا لغة أكبر( التوكيد للمؤلف الحالي، بنجامين، ترجمة زوهن، 1969: 78). يقترح بديل ياكوبس أنه مثلما على الشظايا، مثل " الأجزاء المتكسرة" لقارورة " كي يتم وصلها سوية، أن يتبع الواحد الآخر بأدق التفاصيل"، فكذلك توضح الترجمة الجزء المكسور من لغة أكبر( المكتوب بالحرف المائل للمؤلف الحالي، ياكوبس، 1975: 762). لم تفتن ياكوبس بالبحث على تقديم "نص" متكامل متماسك، ولذلك فهي تترجم حرفياً، كلمة بكلمة، وبالتالي تترك ترجمتها المقطع ناقصاً بالمفهوم الغربي. لا تربط الترجمة بالأصل، بل عوضاً عن ذلك تعرض ترجمة كـقطعة Bruchstück، لا تنسجم مع استعارة بنجامين وحسب، بل مع ما تراه "غريباً" أو "شنيعاً" في طريقة بنجامين للإفصاح. تفهم ياكوبس ولكن لا تحكم على قراءة زوهن المقيدة تاريخياً؛ تعرض مقالتها بديلاً، بديلاً ولدّ عدداً ضخماً من التأويلات اللاحقة لبنجامين تفضل بديلها.
وأفضل مثال عن هذه التأويلات بلا شك مقالة بول دي مان بعنوان:: "خلاصات: مهمة المترجم لوولتر بنجامين) الموجودة في "مقاومة النظرية" (1986).من الواضح أن دي مان قد اتبع تفكير داريدا مثل أي شخص آخر، وكشف عن مقدرته على مواجهة رقعة الشطرنج التي لا قعر لها التي يشير إليها داريدا، ويواصل عمله تحت وطأة مثل هذه الشروط.ومع ذلك، فبينما تلعب قراءة داريدا إيجاباً مع نص بنجامين، فإن قراءة مان التفكيكية مصاغة بشكل كبير في مصطلحات سلبية وعدم مطبق. مبتدئاً، على سبيل المثال، بترجمات هولديرلاين لسوفكليس التي امتدحها بنجامين كثيراً بسبب بديلها الجذري، يستشهد دي مان ببنجامين على أنه يرى أن ترجمات هولديرلاين قد وسعت اللغة كثيراً لدرجة أنها هددت بحبس المترجم في صمت وأن المعنى مهدد بالضياع في "أغوار اللغة التي لا قعر لها". ويرى دي مان أن الترجمة كما تم فهمها تنجذب إلى شيء " مدمر أساساً"، أي: اللغة نفسها. وفي حين أن مفهوم داريدا للتفكيكية موهب للحياة، وإيجابي، ومجدد للحياة عامة، فإن مفهوم دي مان للمشروع التفكيكي كما عبر عنه في " الخلاصة" سلبي بشكل كبير.

كل هذه النشاطات_الفلسفة النقدية، ونظرية الأدب، والتاريخ_يشبه فيها الواحد الآخر بمعنى أنها لا تشبه الشيء الذي اشتُقت منه. ولكنها جميعها ضمنلغوية: تتعلق بما ينتمي في الأصل إلى لغة، وليس إلى معنى بوصفه قريناً فوق لغوي يتأثر بإعادة الصياغة والمحاكاة. إنها تخلع مفاصل الأصل وتفككه، إنها تكشف أن الأصل كان مفككاً أصلاً. وتكشف أن فشلها، الذي يبدو أن سببه حقيقة أنها ثانوية بعلاقتها بالأصل، يكشف عن فشل أساسي، تفكك أساسي كان موجوداً في الأصل أساساً. إنها تقتل الأصل، بكشفها أن الأصل كان ميتاً سلفاً. (دي مان، 1986:84).

يمكن للمرء القول بفعالية أن المفهومين متشابهان، تماماً مثلما كان الموت والحياة في صياغة هيدغر منجدلين لدرجة أنه لا يمكن الفصل بينهما بأية حال من الأحوال. ومع ذلك، ووفق مقتضيات المشروع التفكيكي برمته فالفرق ليس تافهاً. فبالنسبة لدي مان وبعض الأور_أمريكيين التفكيكيين، اُستخدمت التفكيكية في محاولة لإزاحة جيل أقدم وأكثر شهرة من المفكرين والنقاد كي يحلوا محلهم. كانت معالجتهم أحياناً بلا شفقة، وغالباً ما كان مثل ذلك الموقف عقبة في محاولة إقناعهم للآخرين.فعلى سبيل المثال، إن بحث دي مان قاس جداً في تعامله مع المترجم هاري زوهن. فعلى غير شاكلة ياكبوس التي وضعت عمل زوهن في سياقه التاريخي وقدمت بدائل، يتعامل دي مان مع زوهن وموريس دي غانديلاك Maurice de gandillac، مترجم بنجامين للفرنسية، وكأنهما تلميذا مدرسة، مدعياً:" يبدو أن ليس لديهما أي فهم لما يقوله بنجامين" (دي مان، 1986: 79). ويتحدث دي مان عن كون الأصل " واضح تماماً" في مواقع، ويقول أن المترجميّن كانا يجدان صعوبة في متابعة بنجامين، لدرجة أنهما لم "يفهمانه". ويستشهد بأمثلة لا تشير إلى سلبيات في غير موقعها، ولكن إلى خيارات "صحيحة" و"خاطئة". ترجم زوهن بشكل معقول "Nachreife"، على سبيل المثال، من عبارة بنجامين " Nachreife des fremdes Wortes"، وهي مفهوم هام في المناقشة،بـ " عملية نضج". تقلق هذه الترجمة دي مان الذي يشعر أن الكلمة تحمل في طياتها إيحاءات تنم عن الحزن، والشعور بالإرهاق، والعنب المتعفن، وموت الأصل التي لا يلتقطها زوهن؛ مع أن تأويل دي مان قد يتصل بوجهة نظره الخاصة عن العالم أكثر من صلته بنوعية الاختيار الترجمي.
والشيء الأوضح في مقالة دي مان قدحه زوهن لـ" ترجمته الخاطئة" لشظايا استعارة القارورة. وبمقارنة ترجمة ياكوبس بترجمة زوهن، يرى أن ترجمة زوهن غير صحيحة، وأن كل ما عليك فعله، لترى ما يقوله بنجامين، هو أن "تترجم بشكل صحيح بدلاً من الترجمة كما فعل زوهن". يريد دي مان أن يظهر فهمه للاستعارة والكناية، الفرق بين " يساوي" و " يتبع" ( gleichen و folgen)، وذلك فرق مفيد لشرح التقديم. ويذهب دي مان للقول أن الشظايا التي تتبع فيها الواحدة الأخرى لن تكون كليّة متكاملة أبداً. ويرى أن كل عمل متشظ، وأن الترجمات شظايا شظايا أخرى. ومثل داريدا، ينكر معرفة الكليّة، معرفة بقارورة سليمة، أو أي معنى لمعنى أصلي. ويكتب أن "المعنى دائماً يجافى ما قصد منه مثالياً_ لا يمكن الوصول أبداً للمعنى" ( دي مان: 1986: 91). ومع أن تفكير مان عن الاستعارة مفيد ومقنع بخصوص مقالة بنجامين، إلا أن إصراره في أنه يفهم "معنى" مقالة بنجامين أفضل من زوهن وغانديلاك أو الآخرين يستدعي للذاكرة استراتيجيات القراءة التي استخدمها I.A. Richards والنقاد الجدد. إن مفهوم "الفهم" نفسه، وبالتأكيد "يفهم بشكل أفضل" يتناقض مع مقولة مان الرئيسية، التي يقترح فيها أنه لا يوجد قاريء يمكنه الوصول إلى المعنى الأصلي تماماً. وهكذا، فإن بلاغة مان المثقفة غير منسجمة مع ادعاءاته النظرية. إن وجهة نظر دي مان المنكرة للقراءات الأخرى، و نغمته المتعالية، والاعتقاد بأن وجهة نظره هي "الصحيحة" لا تخدم أي شيء سوى الكشف عن وجهات نظره الشخصية و غير المعهودة تاريخياً. لقد توقف مصطلحا " الصح" و "الخطأ" عن كونهما مصطلحين نظريين منتجين عند كل من علماء دراسات الترجمة والتفكيكين أيضاً.
ووفق مقتضيات نقاش ما بعد داريدا بخصوص نظرية الترجمة، كانت إسهامات فلاسفة اللغة في ما بعد عصر النهضة أكثر إنتاجية من نقاد الأدب الأمريكيين. وأكثر النصوص شمولية حتى الآن هو بعنوان: " الترجمة وطبيعة الفلسفة" (1989) لـ أندرو بنجامين Andrew Benjamin. ويناقش هذا أيضاً مقالة " مهمة المترجم"، ولكنه يضع النقاش في سياق يمتد من فلسفة عصر النهضة، التي مازالت بعض بقاياها تؤثر بخطاب هذا العصر، إلى مناقشة مستفيضة لإسهامات كل من هيدغر، وفرويد، وداريدا في فهم طبيعة اللغة عامة والترجمة خاصة. إن معالجة بنجامين لهيدغر، خاصة كتاباته المتأخرة عن طبيعة اللغة ومشكلة الإخفاء، قوية خاصة، وتضع الأسس لمناقشته اللاحقة لداريدا. ومع أنه لا يوافق داريدا إلا أن أندرو بنجامين يعرض بإنصاف كبير احتمالات القراءات المزدوجة لـ différance في أوجه اختلافاتها جميعها، أي: بمعانيها المؤجِلة والمتضاربة. لم تعد الترجمة بالنسبة لأندرو بنجامين في نقاش ما بعد داريدا تفهم على أنها نشاط بسيط محدد أحادي، ولكنها مجموعة من النشاطات بمجموعة من الدلالات ( أندرو بنجامين، 1989: 35). يبدأ كتاب أندرو بنجامين بأسئلة عن "أرضية" الاختلاف التي يجدها في كلمة "الترجمة" نفسها، بمعنى أن الكلمة تقترح كلاً من "أرضية" الأصل" والفرق/الاختلاف الذي "لا أصل له". فإن لم يكن هناك أصل، ولا يوجد أي شيء أصل، فالتعددية بالتالي " غير أصلية". يبحث نقاش أندرو بنجامين اللاحق في الطرق التي يمكن من خلالها فهم اللاأصلية هذه.
لا يتفق أندرو بنجامين مع داريدا، ولا مع دي مان، بل عوضاً عن ذلك يجد خلاصاً من المتاهة من خلال دونالد ديفدسن Donald Davisdon . فمن خلال مناقشة مفيدة جداً لبحث ديفدسن بعنوان: "حول فكرة مخطط مفاهيمي نفسها" (1984) الذي يدرس فيه الترجمة بوصفها طريقة للتركيز على أسس الهوية للأنظمة الفكرية، يرى أندرو بنجامين أن الفهم المتبادل أمر "لا مناص عنه تقريباً". تسبق سلسلة معقدة من الشروط المتشابكة عملية التعبير عن "أشياء" متكافئة في اللغة الأخرى. يستشهد بنجامين بديسفدن:

الفكرة إذاً أن هناك شيئاً هو اللغة، وترتبط بنظام مفاهيمي، سواء أمكننا ترجمتها أم لا، إذا ما كانت ترتبط بعلاقة محددة تخبر من خلالها، وتنظم، وتواجه، أو تتناسب مع التجربة، والطبيعة، والواقع والاحتياجات الحسية الآنية. المشكلة تحديد ماهية العلاقة، وتوضيح الكينونات ذات الصلة (ديفسدن، 1984: 191؛ مستشهداً به في أندرو بنجامين، 1989: 65).

وهكذا يقع منهج ديفدسن في موقع وسط بين المعنى الأصلي الذي لا يمكن الوصول إليه وحركة مفهومة للغة، أو على الأقل تشير إلى تلك "الأشياء" التي تكون في علاقة بين النص المصدر والنص الهدف وتجعل التواصل ممكناً. وينتهي المطاف بديفدسن إلى مفاهيم كانتيان Kantian العالمية التي "تتغلب" على تهديد تنوع اللغات الإنسانية والأسئلة التي يطرحها التفكيكيون. إذ يُفترض وجود مفهوم إنساني للـ"طبيعة" يوفر الأرضية التي تمكن من العالمية. ويرى أندرو بنجامين أن "عقلانية الإنسان" نتيجة لهبة الطبيعة، وبالتالي يمكن شرح التنوع والاختلاف وتفسيرهما بوصفهما انحرافاً واستطراداً عن الطريقة التي تليق بالإنسان بوصفه كائناً إنسانياً" ( أندرو بنجامين، 1989: 78-9).
يناقش عند هذه النقطة أندرو بنجامين مقالة ولتر بنجامين المعنونة بـ: " مهمة المترجم". ويتفق مع قراءة دي مان في أن شظايا القارورة المكسورة لا تستلزم وجود قارورة أولية، بمعنى أن اللغة الأصلية هي دائماً لغة مزاحة من مكانها، وبالتالي لا وجود للغة أصلية. وبعد ذلك يتسآل كيف يمكننا أن نفهم القارورة (المفترضة) المستقبلية وما هي الشروط (الكليّة) التي تؤدي بنا ضمنياً إلى التفكير ضمن مقتضيات " الانتماء الجماعي" للشظايا، وبالتالي "الانتماء الجماعي" للغات. لا يفكر أندرو بنجامين وفلاسفة عصر ما بعد النهضة بحقبة ما قبل التكّون، ولا بالأوضاع قبل الموجودات، ولكن يفكرون بالشروط النظرية التي تمكن من التأويل والفهم المتبادل والتي ينعتها أندرو بنجامين بالأوضاع الوجودية المؤقتة. يحاولون تحديد ووصف العناصر التي تمكن من التفكير الإيجابي بالكمون الدلالي والتفسيري الموروث في الكلمات، ويقولون إنه بإمكان المرء التفكير بالترجمة بدون أصل ينبغي أو لا ينبغي استرداده. تنبثق المعاني والتفسيرات عن حالات حقيقية_ فهي حقيقية ومتضاربة_ ويمكن وصفها إيجابياً وتجريبياً.ويرى أندرو بنجامين أن " ظهور المعنى تحقيق للوجود المحتمل للمعنى وليس ظهوراً لعدم المعنى" (أندرو بنجامين، 1989: 180). وبالمقارنة مع دي مان وداريدا، يرى أنه لا يوجد هناك فرق صاف أبداً، ولكن هناك دائماً خصوصية لأي فرق. ويرى أندرو بنجامين أن ولتر بنجامين يحدد موقع "بعد الحياة"، "البقاء" بوضع الكمون لما بعد الحياة ضمن النص نفسه. تجسد الكلمات موقعاً للاختلاف، موقعاً لحياة ما بعد الحياة لا نهاية لها يؤجل وقوع نهاية أو تأويل محدد ثابت. وبعد تأويل نص ولتر بنجامين وفق أسس القراءات التفكيكية الرائجة، يرى أندرو بنجامين أنه في ولتر بنجامين "بدأ حدوث إمكانية فهم مختلف للترجمة والفلسفة" ( أندرو بنجامين، 1989: 108).

التفكيكية والترجمة في عصر ما بعد الحقبة الاستعمارية

إن المترجمين الذين يجربون الاستراتيجيات التفكيكية منتشرون في أصقاع واسعة وفي تزايد مستمر. ( راجع الفصل السابع لاحقاً). ولكن لم يكن هناك تأثير واسع للتفكيكية على المترجمين الممارسين أكثر مما حدث في حقبة الترجمة ما بعد الاستعمار. فعوضاً عن استخدام الترجمة بوصفها أداة لدعم وتوسيع نظام فكري يعتمد الفلسفة الغربية والدين، يحاول مترجمو حقبة ما بعد الاستعمار استعادة الترجمة واستخدامها استراتيجية للمقاومة، استراتيجية تخلخل وتزيح بناء صور عن الثقافات غير الغربية بدلاً من إعادة تفسيرها باستخدام المفاهيم واللغة التقليدية العادية. هناك مفكرتان من أكثر المفكرين تأثيراً وشهرة تناديان بمثل هذا الاستخدام للتفكيكية وهما تيسويني نيرانايا Tejaswini Niranjanaو غياتري سبفياك Gayatri Spivak.
ففي كتابها:
Siting Translation: History, Post-Structuralism, and the Colonial Context (1992( (موضعة الترجمة: التاريخ، ما بعد البنيوية، والسياق الاستعماري)
تعتمد نيرانايا على داريدا وبنجامين لتقديم نقد معقد للمترجمين، وعلماء الأعراق، والمؤرخين في معالجتهم للثقافات الاستعمارية. تحدد الترجمة بأنها "الموقع" الذي سُرمد فيه بشكل درامي العلاقات غير المتكافئة بين الثقافات واللغات المختلفة. إن التبني غير النقدي والساذج غالباً للمفاهيم التقليدية في الترجمة، أي: الترجمة الشفافة الموضوعية والأمينة، قد مكنت السياسيين الاستعماريين ورجال إدارتها من بناء صورة ذلك "الغريب" الآخر بأنها أبدية وغير قابلة للتغيير. ولم يكن لهذه الصورة عن الآخر تأثيرٌ دراميٌ على فهم الغرب لثقافات "العالم الثالث" فحسب، ولكن أيضاً على فهم العديد من الأمم الناهضة لثقافاتها. وهكذا تستمر العلاقات الاستعمارية، وتترسخ البنى الاجتماعية الإمبريالية بشكل جيد في حقبة ما بعد الاستعمار. وترى نيرانايا أنه لا يمكن فهم الترجمات وفق مقتضيات نماذج أمينة/ حرة أو النص المصدر/ النص الهدف فقط، ولكن ينبغي النظر إليها على أنها تدفق ذو اتجاهين، يعزز بشكل متبادل و/أو يحول مفاهيم ثابتة في الثقافة والهوية.
تعارض نيرانايا فكر الترجمة التقليدي، ويتتبع فصلها الأول تاريخ ترجمة في الغرب، يميل معظمه للتركيز على النص الأصل ويفترض وصولاً شفافاً إلى ذلك المصدر الأصل. فعلى سبيل المثال تنتقد نيرانايا منظّرين كـجورج شتنير George Steiner الذي يدعي في كتابه "بعد بابل" (1975) أنه في الترجمة " هناك، في الحالة المثالية، تبادل دون فقدان/خسارة" (شتينر، 1975: 302). وتعارض منظّرين مثل لويس كيللي Louis Kelly، الذي يدعي في كتابه: "المفسر الحقيقي" (1979) أن الترجمة نوع من "الحوار" لتحقيق "توازن بيني وبينك" (كيللي، 1979: 214). إن تبادل الترجمة في السياق الاستعماري بعيد كل البعد عن أن يكون متوازناً، لأن علاقات القوة بين مستخدمي لغات مختلفة ليست متكافئة؛ وبافتراض الترجمة وسيلة شفافة غير منحازة لنقل شيء ثابت وغير متبدل، يعزز مثل هؤلاء المنظرين الأفكار السائدة عن الشعوب المستَعمرة ويطمسون تاريخها.
والجدير بالاهتمام، أن تاريخ نيرانايا للترجمة يضم مفكري دراسات الترجمة، ولم يلق مفكرون معاصرون أمثال غايدون توري مكانة أفضل مما لقيه المفكرون الأكثر تقليدية. وترى نيرانايا أن مفكري دراسات الترجمة يفترضون نموذج نص هدف ويتمسكون بالقول أن ليس للترجمة أي تأثير على نظام النص المصدر ثقافياً أو لغوياً ( نيرانايا، 1992: 59-60). وتقترح نيرانايا مستشهدة من مقالة توري " تعليل عقلي لدراسات الترجمة الوصفية) في كتاب:"اللعب بالأدب"(1985)، حيث يقول: "فمن وجهة نظر النص المصدر ونظام المصدر، من الصعوبة بمكان أن يكون للترجمات أي تأثير يذكر... فهي ليست في موقع يخولها من التأثير بمعاييره اللغوية وقواعده النصية، وتاريخه النصي، أو النص الأصل" (توري، 1985: 19)، وذلك قول صاغه توري في صور مختلفة وبشكل متكرر عبر مهنته. تقترح نيرانايا أن الدور الذي لعبته الترجمات في رسم صور الشعوب المستََعمرة قد تجاهله توري ومنظرو النظام المتعدد. وترى أيضاً أن منهج توري "التجريبي" يطمس العلاقات غير المتوازنة للقوة التي تكوّن العلاقات بين اللغات.
وتدعي نيرانايا أن الصور التي رسمتها الترجمة، خاصة تلك الأنماط الثابتة السلبية عن الثقافة الهندية، بما في ذلك صور الناس السلبيين الكسالى الأقل ذكاءً، قد تشربها المجتمع الهندي بشكل واع وغير واع. فبدلاً من أن لا يكون لها تأثير على الثقافة المصدر تفند نيرانايا بشكل مقنع أن الآثار اللاحقة على العقلية الهندية وشخصيتها كانت ضخمة. إن تناص الترجمات، والطبيعة المعيارية لبعض الترجمات التي تساهم في الممارسات الاستعمارية كالتربية، واستيراد القيم والأفكار الغربية عبر الترجمات هي بعض من قضايا أكبر لم يتضمنها نموذج كل من توري ولامبرت Lambert لوصف الترجمات. ووفقاً لنيرانايا، لا يمكن لأي نظرية ترجمة تتجاهل مثل هذه المشاعر أن توصف بـ"العملية" أو "النظامية".
إن نقد نيرانيا لدراسات الترجمة مشابه لنقدها لعلم وصف الأعراق البشرية، و يضمهما فصل واحد. وعلى شاكلة المترجمين، عانى المتخصصون بعلم الإنسان و وصف الأعراق البشرية من محنة مشابهة في النظرية لأنهما يواجهان مسائل معرفية مشابهة؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يكتب عن أو يمثل ثقافة أخرى مستخدماً لغته وكلماته دون أن تغير تلك الكلمات والمفاهيم الشيء الممثل؟ كيف يمكن لمفاهيم المرء ومعتقداته أن تلون ما يراه أو يروي عنه؟ وكيف يمكن للمرء أن يفسر بعض أنواع السلوك دون الاستعانة بتجاربه الشخصية؟
إن معضلة علم الأعراق مشابهة حقاً لمعضلة الترجمة. ينبغي على كل من النظامين أن يترجم نظام معتقدات إلى آخر، جاعلاً طريقة أخرى من التفكير والفهم مفهومة. وبهذا الخصوص، تشعر نيرانايا أن الدراسات المتخصصة بعلم الإنسان تحقق تقدماً أكبر مقارنة بدراسات الترجمة. ومع أنها تذكر بعض مفكري دراسات الترجمة كسوزان باسنيت ورومان ياكبسن، المدركين تماماً للتعقيدات بين الرموز والعوامل بين الثقافات التي على المترجمين أخذها بالاعتبار، بعبارات إطراء، إلا أنها تشعر أن معظم مفكري دراسات الترجمة لم يبذلوا الجهد الكافي. لقد بدأ، على أية حال، نقد لاستخدام الترجمة في علم الإنسان. ينتقد مفكرون أمثال جيمس كلفرد James Cliford و كلفرد غرييتز Clifford Greetz و طلال أسد Talal Asad وستيفن تايلر Steven Tyler الشفافية المتعمدة للترجمة في الاكتشافات الأنثربولوجية ويشككون في عبارات الترجمة المجازية التي تبني الخطاب الأنثروبولوجي (نيرانايا، 1992: 81-86).ومع ذلك، فبالنسبة لنيرانايا فحتى علماء الأعراق البشرية الجدد هؤلاء الذين يعيدون التفكير بخطاب مهنتهم مازالوا يعتمدون كثيراً على " استعارة الأساليب الأدبية من الأساليب السياسية" ولم يصلوا إلى حد البحث في علاقات القوة والنتائج بعيدة الأمد للترجمات.
تلجأ نيرانايا عوضاً عن ذلك إلى داريدا، وفوكو، وبنجامين لشرح كيف أن الترجمات تعمل قي تدفق ثنائي الاتجاه، تؤثر في كل من ثقافات المصدر والنتائج، وبالتالي تزعزع مفاهيم الأصل والهدف. بداية مع داريدا، حيث تكتب: " إن أهم بصيرة زودنا بها عمل داريدا فكرة أن الأصل غير متجانس دائماً سلفاً، أي: لا يمثل مصدراً نقياً موحداً لمعنى التاريخ"( نيرانايا، 1992: 39). وإن لم يكن هناك وجود أساسي ينبغي إعادة تمثيله، عندها ينهار معظم فلسفة الغرب وتاريخه، وبمفاهيمه الثابتة من الحقيقة، والمعنى، والوجود، والكلمات، والنتائج. إن عمل داريدا غاية بالأهمية بالنسبة لنيرانايا لأنه يقترح نقداً للمفاهيم التقليدية السائدة في الترجمة أيضاً. إنها تستشهد من عمل داريدا بعنوان: " الإرسال: عن التمثيل" (1982ب) على أنه يقول: ربما نجت الترجمة من " مدار التمثيل" مما يجعلها " سؤالاً يحتذى به" (داريدا، 1982ب: 298؛ مستشهداً به في نيرانايا، 1992: 41) وعلامة لما يسميه داريدا الانتشار. لم يفكر مفكرو دراسات الترجمة ولا المتخصصون بعلم الأعراق البشرية بعمق مكثف بذلك الشيء الذي لا يمكن تسميته، التوأم الأصم الذي يصطحب كل أنواع الكتابة والفكر. وهكذا أصبحت الاستراتيجيات التفكيكية المتمثلة بالكتابة المزدوجة، والتدمير من الداخل، والتوريات، والانحرافات، والتحويلات مهمةً لمترجمي حقبة ما بعد الاستعمار، لأنه من خلال مثل الكتابة المزدوجة هذه، يحتل لعب الدال موقع الصدارة مقارنة بالمدلول مما يفتح آفاق بحث جديدة، طريقة جديدة لكشف عصر ماض أو ثقافة مختلفة دون الخضوع لمعايير التمثيل أو المفاهيم التقليدية. كما أن ممارسة داريدا للكتابة المزدوجة يمكن أن تساعد المترجمين أيضاً لتحدي الممارسات المهيمنة بعرض صور و هويات بديلة أقل تعصباً/عنصرية وأكثر انفتاحاً للتغيير والتطور الثقافي.
وكما هو حال العديد من منظري الأدب في الدوائر الأمريكية والإنجليزية، فنيرانايا ضليعة في القراءات المتعددة لـعمل وولتر بنجامين بعنوان: "مهمة المترجم". وبالاعتماد أساساً على تفسير داريدا في "أبراج بابل" تنتقد نسخة بول دي مان، حيث تجد أنها ترفض اعتماد مفهوم بنجامين للتاريخ، أو بدقة أكبر، كتابة التاريخ. وهنا تعتمد كثيراً على كتابات بنجامين المتأخرة كما في عمله " أطروحات حول فلسفة التاريخ" (1940). فعندما يتحدث بنجامين، على سبيل المثال، عن الترجمة على أنها طريقة بنفسها وفيما إذا كانت طبيعتها تسمح بترجمتها، تسمع نيرانايا عمله المتأخر مقترحة أن مهمة المترجم مشابهة لمهمة المؤرخ، وخاصة المؤرخ الذي يسمع الماضي ويصل علاقته بالحاضر. وبينما يفصل معظم المنظرين مواضيع بنجامين المبكرة ذات الصبغة اليهودية المسيحية عن كتاباته الماركسية المتأخرة، تقارن نيرانايا بين الأفكار وتستخلص نقاطاً مشتركة. إن لمثل نقاط الاشتراك هذه معنى مفيداً بالنسبة لمشروعها للترجمة لحقبة ما بعد الاستعمار الذي تنطوي فيه إعادة الترجمة على إعادة كتابة التاريخ.
فعلى سبيل المثال، يكتب بنجامين:" إن من مهمات المترجم تحرير في لغته تلك اللغة النقية التي ترزح تحت تعويذة لغة أخرى، ويحرر اللغة المسجونة في عمل أثناء إعادة خلقه للعمل. ولأجل اللغة النقية، عليه تجاوز عدة عوائق بالية في لغته"( بنجامين، 1969: 80). وبدلاً من التركيز على مفهوم بنجامين للغة النقية، تركز نيرانايا على كلمات مثل: " يحرر"، "يعيد خلق"، " يطلق سراح"، و" يخترق/يجتاز" التي تراها جميعها في عمل بنجامين أيضاً على أنها من صفات عالم وجودي تاريخي. وتذكرها طريقة بنجامين باستخدام داريدا لوسائل متنوعة لقطع نصه والسماح لمصادر اشتقاقية أخرى من الظهور. وتلفت الانتباه إلى إشارة بنجامين إلى أسلوب ترجمة ردولف بانويتز Rudolf Pannwitz الذي نادي بالسماح للغة الهدف من أن تتأثر باللغة الأجنبية مفضلاً عدم التجانس على التجانس وتلوث الترجمة على نقاء الأصل. من الواضح بالنسبة لنيرانايا، أن بنجامين ينادي بنوع من الترجمة يتدخل سياسياً.
بالنسبة لنيرانايا، تتطلب الترجمة في سياق عصر ما بعد الاستعمار نوعاً من " استحضار" للماضي ( ومن هنا تأتي تورية عنوان الكتاب)، تذكّر، أو وفق عبارات هومي بهابها Homi Bhabha من تقديمه لعمل فرانز فانون (جلد أسود، أقنعة بيضاء) " إعادة عضوية"، أي: جمع أشلاء الماضي الممزق لإعطاء معنى لجراح الحاضر" (بهابها، 1967: 23 من المقدمة). وهذا لا يعني قول أنه لا يمكن صياغة الماضي في وحدة متكاملة_ القارورة، التي نتذكرها آنفاً_ تكمن في الشظايا. يمكن للمترجم، على أية حال، أن يجد بين تلك الشظايا نقاط وصل، نقاط، اشتراك، وتناقضات يمكن من خلالها إعادة التفكير بالكيفية التي تم فيها إعادة بناء الماضي، ويبدأ بتصور البدائل. و تكتب:" إن استخدام ما بعد البنيوية في العالم الذي مُنح استقلاله، مع أنه مشحون بالقلق والرغبة في التمثيل، يسلط الضوء على جوانب من المتناقضات، والاختلاف والمقاومة" (1992: 173).
تتفق نظرية نيرانايا في عدة أوجه مع تلك التي ينادي بها كل من توري وفينوتي.فعلى خطى توري، تقول أن الترجمة في الغرب تميل نحو المعيار، نحو إيجاد حلول مقبولة يمكن للقارىء الغربي فهمها. وعلى شاكلة فينوتي، تنادي بـاستراتيجية" تغريب/عجمنة "، استراتيجية تقاوم المألوف ومفتوحة على نقل الاختلاف. وبما أنها أكثر تأثراً بالتفكيكية مقارنة بفينوتي، فلا تُبعد استراتيجياتها التأويلات التقليدية فحسب، بل تتحداها من الداخل وتضيف إليها بعرض طرق جديدة لإعادة التفكير ليس في الترجمة فحسب ولكن في التاريخ، والتطور الثقافي، وتشكل الهوية أيضاً. فالسؤال بالنسبة لنيرانايا لا يتعلق بالاختيار بين التمثيل السلس أو الأجنبي، ولكن التشكيك في التمثيل الشامل المليء بالمشاكل نفسه. كيف يمكن للمرء تمثيل اختلاف دون إعطاء مزية لدور المثقف الغربي (المترجم، والمتخصص بعلم الأعراق، والناقد) أو حتى مثقف حقبة ما بعد الاستعمار. وكيف يمكن للمرء توسيع إمكانيات الترجمة أو التمثيل بينما في نفس الوقت يضعها في موضع التشكيك. تجد هنا أن التفكيكية تقدم يد المساعدة مرة أخرى. يوضح داريدا أنه قبل أن نعرف " كيف وماذا نترجم" من خلال ' التمثيل ' علينا مسائلة مفهوم الترجمة ومفهوم اللغة التي يهيمن عليهما في أغلب الأحيان مفهوم التمثيل" (داريدا، 1982ب: 302-3؛ مستشهداً به في نيرانايا، 1992: 169). لا تهدف استراتيجية نيرانايا إلى صرف القارىء عن الترجمة وجعله يدرك الطبيعة الوسطى للنص والاختلافات المتعددة للأصل، ولكن كي يستخدم الترجمة أيضاً لتوضيح تفكك الأصل وطبيعته المركبة، الذي بُنى تلاحمه بعملية تاريخية والمشروع الاستعماري. إن تفكيك مثل ذلك الخطاب التأسيسي يصبح تدميراً للتاريخ بمعنى متأخر عند بنجامين، وتدميراً للمفاهيم الميتافيزيقية بمفهوم داريدا.
لقد عارض المفكرون نيرانايا لعدة أسباب في مناقشات الترجمة في حقبة ما بعد الاستعمار.يقترح دوغلاس روبنسنDouglas Robinson في "الترجمة والإمبراطورية" (1997 ب) أن استراتيجياتها في الترجمة مربكة للمترجم الممارس ولا تدمر بالشكل الكافي. وبعد ذلك يعيد روبنسن ترجمة مقطع من نص ينتمي لجنوب الهند يعود للقرن الثاني عشر تستشهد به نيرانايا، ويقدم ترجمات تستفيد من استراتيجيات العجمنة بشكل يفوق ما قامت به نيرانايا نفسها. ويأسف فيني داهروادكر Vinay Dharwadkerفي " "نظرية أ.ك رامانويان للترجمة وممارستها" (1999) لنقد نيرانايا غير المنصف للمترجم المميز رامانويان، وهو أيضاً مترجم للنص نفسه الذي يعود لجنوب الهند. يقدم داهروادكر دليلاً من أن رامانويان استخدم نسخة مختلفة من النص المصدر عن تلك التي اقترحتها نيرانايا، مقترحاً أنها تلاعبت بالدليل، وأن رامانويان استخدم استراتيجية ترجمة مختلفة عن تلك التي عند بنجامين وتنادي بها نيرانايا. ويمثل نقد داهروادكر بقلبه وقالبه عدداً متزايداً من المفكرين الهنود الذين يعبرون عن عدم رضاهم عن عمل نيرانايا. يبدو أن الموضوع الرئيسي مقاومة لنوع جديد من الاستعمار الغربي، يتمثل بمفكرين تعلموا في الغرب يحاولون تطبيق استراتيجيات تفكيكية معقدة على مترجمين هنود بدون فهم لتقاليد الثقافة الأصل وثقافتها حقاً، ولا فهم للاستراتيجيات التي استخدمها أولئك المترجمون لنقل تلك الأفكار والأشكال. ويقترح دهاروادكر أنه بينما يمكن لنظريات بنجامين في الترجمة أن تكون صالحة للنصوص الأوربية، إلا أنها غير منسجمة إلى حد كبير مع الأعمال الكلاسيكية التاميلية أوالـكناديةKannada. ويرى دهاروادكر أن التفكيكين يدفعون بالعوامل النظرية والإيديولوجية إلى نقطة تضيع فيها عناصر شعرية وثقافية هامة (1999: 128).
ومع ذلك، توضح نظرية نيرانايا بالرغم من نواقصها بفعالية كم هو متشابك حقل دراسات الترجمة مع حقول أخرى مثل التاريخ والفلسفة. فبالنسبة لأي نظرية منهجية تحاول توضيح الدور الذي تلعبه الترجمة في تطور التاريخ، و/أو التأثير المتبادل الذي تمارسه النصوص المترجمة على كل من الثقافة الأصل والثقافة المصدر، يزودنا عمل نيرانايا بالعديد من البصائر. إن معضلتها الأساسية، والمعضلة التي انتابت نظرية ما بعد الحقبة الاستعمارية عامة، هي إن كانت النسخ الحالية من الترجمة غير دقيقة، أي: إن كانت تلغي الاختلاف بالتمسك بصور وأفكار سائدة في الغرب، كيف يمكن، عندئذ، للمترجم أن يقدم نسخة أكثر دقة؟ هل تخلخل الاستراتيجيات التفكيكية أو تعكس اتجاه الإيحاءات السائدة بطريقة منتجة أو مدمرة؟ وإلى أي مدى يمكن تطبيقها؟ من يقرر ذلك؟ أو ما هي الأدوات التي يستخدمها المرء في تقويم الترجمة في الحقبة ما بعد الاستعمارية؟ وكيف يمكن للمرء استعادة ذلك الشيء الذي تم حذفه أو إخفائه؟ وكيف يمكن للمرء أن يشرع في إعادة كتابة نصوص بدون السقوط في روابط الحقيقة المعرفية نفسها، والوجود، والسلطة التي تتحكم بالنسخ الحالية؟
ربما كانت المفكرة الأكثر إسهاماً في إيجاد طريقة للخلاص من هذه الروابط المعرفية غياتري سبيفاك، وهي مترجمة لكل من عمل داريدا Of Grammatology (1974)، ولعدة قصص قصيرة للكاتب القبلي البنغالي مهاسويتا ديفي Mahasweta Devi ،التي نُشرت بعنوان: "خرائط خيالية" (1995). تدرك سبيفاك، مع معظم نقاد حقبة ما بعد الاستعمار، أن موضوع ما بعد الحقبة الاستعمارية يعيش سلفاً في الترجمة، أي: إن تاريخ، وسياسات، وفن، وأدب الثقافات المحلية قد شوهته لغة ومؤسسات القوة المستعمرة لدرجة أن هويتهم قد أُدرجت في تاريخ آخر. وترى سبيفاك أنه يمكن للحركة الفكرية في الحقبة ما بعد الاستعمارية أن تتحد مع الترجمة لحل ما تسميه مجازاً " نوبات صرع تاريخية ضخمة" (1993: 286)، وتعيد موضعة الموضوع الاستعماري من خلال إظهار تأثير الخطاب الغربي على فهمهم لأنفسهم. يستفيد مثل ذلك المشروع بكثافة من التفكيكية، مستخدماً مفهوم الذاكرة المعاكسة عند فوكو ومفهوم التدمير الإيجابي عند داريدا.
يطرح عمل سبيفاك باستمرار أسئلة بخصوص المستفيد مباشرة من البحث والحركة الفكرية حول ما يسمى بـ "العالم الثالث". وتسأل في مقالتها بعنوان: " هل بمقدور التابع الكلام؟" (1988)، على سبيل المثال، السؤال إن كان حتى ممكناً للتابعين أن يتكلموا بأنفسهم في ضوء العمليات الاستعمارية التي عانوا منها، وخاصة في ضوء أجيال من المفكرين الذين ينقلون ما تقوله الأقليات، وكأنهم، المفكرين، كانوا وسيلة شفافة. لا يوجد مكان هذه الأمور فيه غاية في الوضوح أكثر من الترجمة: إن صورة الفلاح الهندي ( كما هو حال القبلي الأفريقي، والهندي الأحمر، وهلم جراً) كما صورتها الترجمة تم إعادة إنتاجها ضمن الثقافة الهندية وأثّرت على تكوين الهوية في ذلك البلد. وتأخذ سبيفاك في مقالتها بعين الحسبان هوامش المجتمع_ من الفلاحين الأميين، ورجال القبائل، والمستوى الأدنى من الطبقة العاملة التي تعمل في المدن وتقطن ضواحيها، والمنبوذين_ وتناقش نتائج دراسات الناس التابعيين التي رأسها راناجت غوهاRanagit Guha في ثمانينيات القرن العشرين في الهند، وبحثهم عن " وعي التابعين" (غوها، 1983، 1999؛ وسبيفاك، 1988: 284).
وتجد إجابتها، مع أنها ليست مشجعة تماماً، أنه يمكن للمفكر/المترجم الغربي أن يفهم جزئياً حالة التابع، ليس من خلال ما قيل خاصة من قبل مجموعة التابعين أو المفكرين/المترجمين الذي يمثلونهم، ولكن بقراءة ذلك الشيء الذي لم يقل_ قراءة الفجوات، وفترات الصمت، والمتناقضات التي على صلة بالموضوع. من الواضح أن مشروع سبيفاك متأثر بعمل فوكو المتعلق بالذاكرة المضادة، واستخدام داريدا للتفكيكية لقراءة غير المكتوب، أي: فترات الصمت التي يحتويها النص، ويشبه أيضاً مفهوم قراءة "الباقي" عند فينوتي_ذلك الشيء المتبقي أو الذي يتجاوز الاستخدام الشفاف للغة (فينوتي ، 1995: 216). يقترح عمل فوكو عن الذاكرة المضادة أن هناك تاريخاً آخر موجوداً يلازم النسخ الغربية ونسخ المجموعات المهيمنة من الناس الأصليين، ولكنه تاريخ تم إخراسه للعديد من الأسباب. وتقول سبيفاك أن التفكيكية مفيدة لتحليل وقياس مثل فترات الصمت هذه وللتدخل. فلكي يتكلم التابع، تقترح سبيفاك، أنه من الضروري أن ننسى ما تعلمناه كي نفسح المجال للصامتين من التحدث. وهناك أيضاً نبض ماركسي تحت استراتيجيتها؛ فعلى غير شاكلة تفكيكية داريدا التي تفكك النصوص وتفتح طريقة لحصول نقاط وصل عشوائية و تأويلات لا حصر لها، تتحرك تفكيكية سبيفاك نحو الإنتاج المؤكد. ومحاولتها أقل من كشف عن وعي تابعي "صحيح" أو "أساسي" أو "أصلي"، الذي تراه مستحيلاً، ولكن خطوة نحو فهم تأثيرات الاستعمار على الوعي التابعي في حالات تاريخية معينة، وذلك منهج تدعوه " استخدام استراتيجي لجوهرية إيجابية" [الجوهرية: نظرية فلسفية ترى أن للأشياء المحسوسة جوهراً يمكن تمييزه بمعزل عن صفات الأشياء المحسوسة أو وجودها، المترجم]( سبيفاك، 1993: 286). فعوضاً عن استخدام الترجمة للوصول إلى شكل ما من النص "الأصلي" لموضوع ما، فقد يهدف المترجمون إلى الوصول إلى الموضوع المتنامي في حالات محددة؛ وإذا ما كان ذلك الموضوع "تابعياً"، عندها يكون موقع ذلك الموضوع دائماً وسلفاً في تسجيل نصي، تلفه شبكة من رموز المستعمر اللغوية والاستطرادية.
توضح ترجمة سبيفاك لثلاث قصص لمهاسويتا ديفي الموجودة في " خرائط خيالية" 1995)) نظريتها في الترجمة وتربط أيضاً الترجمة بعملها المتخصص في الحركة النسائية في حقبة ما بعد الاستعمار. تستخدم سبيفاك معرفتها بالثقافة الهندية والبنغالية لمساعدة القراء الغرب على "تصور " ( ومن هنا يأتي العنوان) "آخر" ليس مجرداً، صحيحاً سياسياً، ولكنه فرق ثقافي حقيقي في أشكاله المحددة. وترفض سبيفاك أن ترسم ملامح بنية قصصية عامة لحياة الهنود الأصليين. تقوم بذلك، إضافة للقصص المترجمة، بتزويد القارىء بمعلومات سياقية على شكل تقديم للمترجم، ومقابلة مع المؤلف، وتعقيب. ولا تمكن المقابلة المؤلف من الحديث فحسب، ولكن تضع المترجم أيضاً في سياق التوسط الذي سيأتي. إن وسم مكانة المرء كمترجم، كشخصية متوسطة، تمثل جزءاً هاماً للغاية في نظرية الترجمة في الحقبة ما بعد الاستعمارية، كما لاحظت نيرانايا آنفاً بما يتعلق والاستراتيجيات الجديدة المتعلقة بعلم الأعراق. إن أسلوب سبيفاك المتضمن مقدمة للمترجم، وخلفية تاريخية_ معلومات إضافية بمفهوم داريدا_ مع النص المترجم أصبح بشكل متزايد أسلوباً هاماً يستخدمه مترجمو الحقبة ما بعد الاستعمارية.
تستمر الترجمات نفسها في توضيح الاستراتيجيات الموضحة في المقدمة حيث تروي قصص ديفي عن حالات قبلية وتلفت الانتباه إلى نسوة محددات يعانين من مشاكل خاصة. لا يوجد في ترجمات سبيفاك أي شيء دخيل على الشخصيات _ تم تصوير عملها، ولعبها، وفقرها، وحبها، وحياتها الجنسية، وبنى أسرها، وتقاليدها القديمة، ومقاومتها كجزء من حياتها اليومية. وهكذا تساهم خصوصية استراتيجية الترجمة عند سبيفاك أيضاً في عملها السياسي، إذ تظهر كيف يمكن لدراسات الترجمة، بل عليها أن تساهم في المناقشات النظرية في حقول أخرى كالحركة النسائية، والدراسات العرقية والدراسات الثقافية. فعلى سبيل المثال، كانت سبيفاك في مقالة تعود إلى وقت أبكر بعنوان: " سياسات الترجمة" (1993)، منتقدة بشدة للترجمة النسائية في الغرب والتحليل النسائي لكتابات نساء من "العالم الثالث": تدعي سبيفاك أنه وفقاً للحركة النسائية الغربية تبدو كل كتابات العالم الثالث متشابهة، إذ ينتهي المطاف بنساء يكتبن من الهند بشيء يشبه ما يكتبه كتّاب من تايبيه؛ وتقول أنه لا يكفي أن يكون لدينا التزام سياسي تقدمي؛ يبغي لفت الانتباه إلى الأشكال أيضاً، أي: اللغة، والسياقات الخاصة للنصوص.
وهكذا أصبحت الترجمة مكوناً أساسياً في نظرية سبيفاك، لأنها تزود مشروعها بالخصوصية التي تفتقر إليها النقاشات الغربية الخاصة بالنصوص التي تعود للحقبة ما بعد الاستعمارية.إن المطالب التي وضعت على كاهل المترجم بوصفه وسيطاً كبيرة بالتالي: ينبغي على المترجم أن يكون على إلمام بـ" تاريخ اللغة، وتاريخ لحظة المؤلف، وتاريخ اللغة قيد الترجمة" ( 1993: 186). وتطلب سبيفاك من المترجم أن يكون قادراً على التحدث في " مسائل حميمية في اللغة في الأصل" (1993: 187). إن مثل هذه المطالب ليست غريبة على العالم بدراسات الترجمة؛ فعلى سبيل المثال، يقول أندريه ليفيفر في: " ترجمة الشعر: سبع استراتيجيات ومخطط" (1975) أنه لا يكفي للمترجم أن يكون طليقاً في اللغة، بل عليه أن يفهم زمان، ومكان، وتقاليد النص الأصل، بحيث ينقل كل العناصر إلى ثقافة اللغة الهدف، بما في ذلك الزمان، والمكان، والتقاليد (1975: الهامش 99؛ وراجع أيضاً الفصل الرابع آنفاً). كما أن العديد من برامج الترجمة الجيدة تطالب بمؤهلات قاسية أيضاً. قد تبدو هذه الأفكار بالنسبة للمتخصصين في الدراسات الثقافية، الذين لم ينخرطوا في دراسات الترجمة، والعديد منهم غير طليق في اللغات الأجنبية، جديدة أو مفرطة في مطالبها.
ومع أن سبيفاك تستخدم استراتيجيات ترجمة " تغريبية" تشبه إلى حد كبير ما لدى فينوتي بما يتعلق بالمنهج والسياسات، إلا أنها تبقى مترددة إلى حد كبير في استخلاص نتائج بما يتعلق وسياسات ترجماتها. عوضاً عن ذلك تقترح أن ترجماتها خطوة أولى نحو ما تسميه التغيير الواعي للفكر (قارن: سبيفاك 1995: الهامش 197). فعلى سبيل المثال، إن بطلتها ماري في قصة "الصيد" لا تمثل عامة النساء، بل إنها امرأة بعينها في حالة معينة اختارت شعيرة معينة لإدارة مقاومتها بطريقتها الخاصة. وتقترح سبيفاك أن مهمة المترجم ليست إعادة وصف ومن ثم إعادة تخليد مرة أخرى علاقات القوة، بل عوضاً عن ذلك ينبغي قياس الفروق الثقافية في حالات تاريخية ثقافية محددة. وتستخدم استراتيجيات ما بعد بنيوية بشكل انتقائي لقياس (غالباً لقياس ما هو غير ممثل في النص إضافة لما يحتويه النص) وتوضيح هذه الفروق، وتأثير الاستعمار على الموضوع ضمن التاريخ. واللغة التي تفضلها غير أدبية بشكل مميز، متخشبة، ومنحرفة (قارنSimon سايمون، 1996: 146)، تشمل أدوات تشويه برختية. فعلى سبيل المثال، تختار في أحد عناوين إحدى القصص " المانحة صدرها" عوضاً عن العنوان الأكثر ألفة "المرضعة لطفل غيرها" الذي استخدمه المترجمون الذين سبقوها، وتلك استراتيجية لاقت استحسان ديفي. بل أكثر من ذلك، تستخدم الإنجليزية الأمريكية بدلاً من الإنجليزية الإنجليزية في ترجماتها مما يؤدي إلى تنفير القارىء الهندي الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، وكذلك تقطيع التدفق السلس للغة الإنجليزية.
ومع أن بعض المفكرين انتقد اختيارات سبيفاك التي تحدت بها المألوف وفي بعض الحالات أضافت ظلالاً من المعنى تعود إليها أكثر مما تعود إلى ديفي (مخرجيMukherjee ، 1991: 30-31)، إلا أن معظم عملها الترجمي في الحقيقة أقل ضرراً لكل من الثقافة المصدر أو الثقافة الهدف مقارنة بترجمات أضافت بعض العبارات الأدبية الملطفة على الطريقة الغربية. تستخدم سبيفاك أدوات تقليدية في الترجمة والتمثيل إضافة لأدوات أقل تقليدية كي تعمل من الداخل بوصفها مترجمة لتفتح طرائق جديدة في التفكير في الترجمة وفي نساء القبائل في الهند.إن لاختيار القصص، ورسم الشخصيات المقدم، والأدوات الأدبية المستخدمة جميعها نظائر بنيوية في الأدوات الغربية، ومع ذلك فهي مختلفة عنها. لا يمكن إدراج أعمال الشخصيات بسهولة مع أنها تتشابه مع السلوك الغربي ضمن السلوك الغربي تماماً. والأسلوب سلس وغير سلس في الوقت ذاته، يَسمُ ويعيد الوسم مع تقدمه. وتمحو سبيفاك نفسها كمترجمة وهي موجودة دائماً في ذات الوقت. والاختلافات متوفرة لدرجة أنها تمكن النص من الإفلات من قيوده الشكلية.تعيق الأدوات التفكيكية المستخدمة الفهم السهل وتشير دائماً إلى الطبيعة المتوسطة للتواصل إضافة إلى جدول أعمال سبيفاك السياسي.
وهكذا تحقق سبيفاك، وفق مقتضيات النظرية، نوعاً من الكتابة المزدوجة في ترجمتها، منتقدة التفكير الميتافيزيقي الإنساني الغربي، ومبتكرة في ذات الوقت نوافذ لتصور خلافات ثقافية أثناء العمل. وتميط اللثام أيضاً عن الحالات المتعددة الثقافات المتكافئة التي تسم الثقافة "الأصل". كما أنها مدركة لتأثير ترجماتها على الثقافة الأصل؛ إذ تحول ديفي بعد ترجمة سبيفاك لقصصه من كاتب مغمور إلى شخصية قومية مشهورة وشخصية عالمية. قصدت سبيفاك من أعمالها في الترجمة وكتاباتها النظرية أن تتدخل وتحول.وهكذا فإن ترجماتها لديفي تكمل عملها عن داريدا الذي ربما وجدته غير كاف لمخاطبة حالات سياسية معينة كتلك التي يعاني منها القبلي الهندي. وتكمل كتاباتها عن داريدا عملها الترجمي، إذ تطرح أسئلة عن التمثيل، والمعنى، وقابلية النصوص والثقافات "الأصل" للترجمة. يهدف كلاهما إلى توفير نوافذ لطرائق جديدة للفهم والاستجابة.
إن إمكانية فهم مختلف لكل من النص الأصل والنص المترجم في عالم ما بعد الحقبة الاستعمارية ستكون موضوع الفصل الأخير. وبالمقارنة مع مفكري دراسات الترجمة الذين حاولوا استبعاد التفكيكية، اقترح أن دمجها في نماذج للترجمة في أمريكا اللاتينية وبعض الثقافات النامية الأخرى يستحق اهتماماً جاداً من مفكري دراسات الترجمة. وبالمقارنة مع أولئك المفكرين الذين ينهمكون بأفكار عن التفكيكية مثل فان دين بروك أقترح أن لا تقوم دراسات الترجمة بمحاولة إدراج نظريات الترجمة في الحقبة ما بعد البنيوية ضمن نوع من نظرية توجهها النص الهدف. بل عوضاً عن ذلك، أقول أن دراسات الترجمة مجهزة سلفاً بما يكفي لبدء دراسة عن الكتابة حول "حيّزي" الاختلاف والتأجيل_للـdifférance قيد العمل_ وعلى النظرية اللحاق بإمكانيات المنهجية. يبدو أن هناك بعض المفكرين في دراسات الترجمة على عتبة القيام بمثل ذلك التحرك، وقد تكون الآثار النظرية الناتجة عن ذلك بعيدة المدى.



أ.د. محيي الدين علي حميدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى