محمد اشويكة - السينما والسوسيولوجيا: أية علاقة ممكنة؟

يستأثر الفن السابع باهتمام العديد من المهتمين والدارسين والباحثين والتقنيين.. وذلك نظرا لأهميته المتزايدة في توفير فرجة متميزة، ثم قوته على التوثيق بالصورة والصوت والحركة للحدث الاجتماعي والسياسي والفكري.. فالسينما أصبحت معملا لصنع الأحلام والأساطير[1]. إن الحدث الاجتماعي تكتنفه عوامل تقنية وفكرية تؤثر في صنع الفيلم الذي يؤثر بدوره على الجماعة والمجتمع والفرد. فقد كان الفن –عامة- ولا يزال، مجالا يستطيع فيه المرء، بمعزل عن بقية العالم، أن ينظم حياته الروحية، وينغمس في لذات روحية ذات طابع خاص تماما[2].
الفيلم السينمائي وثيقة اجتماعية مهمة تساهم في رسم قوانين حركة وديناميكية المجتمع وفهم طبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع. فالفيلم لم يعد يضع وجها لوجه ظواهر عالم متجانس من الموضوعات، بل عناصر من الواقع غير متجانسة تماما[3]؛ خاصة وأن ميكانيزمات الهوية الاجتماعية قد أصبحت تتحدد بشكل متسرع: كل علامة أو أي عنصر يدخل في تشكيل الصورة، يحمل معه قوة مؤلمة وحقيقية للحقيقة الراهنة[4]. إن السوسيولوجيا كعلم ينقل الواقع ويفسر الظاهرة الاجتماعية بالعودة إلى دراسة أسبابها ونتائجها؛ لا تعدو أن تتقاطع مع الوثيقة الفيلمية بصفتها تؤسس لخطاب يكشف الواقع ويعريه. إن الصورة تؤسس علاقة بصرية مع الواقع مع احترام الأماكن والأحداث والأشخاص[5].
إن السينما كتعبير اجتماعي، قادرة عموما على تناول المواضيع[6]، كما يقول الباحث مصطفى أبو علي. فالسينما –في رأيه- فن جماهير إلى أبعد حد، بمعنى أنها قادرة على الاتصال بالجماهير، قادرة على أن تتحدث بلغتهم، قادرة على أن تنقل الواقع إليهم. السينما أيضا محصلة الفنون جميعها، بعناصرها من صوت وصورة، من الكلمة والموسيقى. قادرة أيضا على تبسيط الأمور[7].
وبما أن الصورة السينمائية لا توثق إلا الأشياء المحسوسة والمجسدة فإنها تظل واقعية، والواقع هو ما تتطرق إليه السوسيولوجيا كعلم يهتم بتحليل الوقائع الاجتماعية ودراستها. إن السينما هي ظاهرة معقدة لم تدرك أهميتها في حياتنا إلا بشكل تطوري[8]. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أهمية السينما في حياة الشعوب. فقد أصبحت تلعب دورا لا يمكن إغفاله لأنها تؤمن الحفاظ على جودة صورة ما ونشرها، ثم تساعد على نشر الثقافة، وتبرهن على الاختلاف والأصالة بالنسبة للبلد المنتج[9]. السينما وسيلة مثلى لتقديم صورة مجتمع ما لدى مجتمعات أخرى. فالفعل السينمائي هو قبل كل شيء فعل اقتصادي وثقافي[10]. ولعل هذا هو السبب في تسابق العديد من دول العالم إلى النهوض بهذا القطاع، لأن الجميع قد أدرك الأهمية القصوى للصورة في العصر الذي نعيشه، فهو من جهة يصدر قيمة عبرها، وتذر أموالا طائلة، والمثال الملموس الذي لا يحتاج إلى تعليق هو نموذج الصورة الأمريكية، فعائداته تعد بملايير الدولارات، آخرها ما وصل إليه فيلم "Titanic" للمخرج جيمس كاميرون. يقول جون كلود كايير، السيناريست السابق للمخرج الإسباني لويس بينييل، بأن الشعب الذي لم يعد يصنع صورا عن ذاته محكوم عليه بالانقراض[11]. إذن فالصورة نوع من التأريخ للسيرورة الاجتماعية في واقعها اليومي. التاريخ الاجتماعي للشعوب يسجل.
فعندما تخلت السينما العربية مثلا عن معانقة مشاكل الشارع العربي نظرا لتضييق الخناق عليها، كان الجميع يستنكر ذلك. يقول يوسف يوسف بأن تلك المرحلة من مسيرة السينما العربية، تميزت بانعدام الالتزام الاجتماعي والسياسي على مستوى الجماهير، مثلما كانت خاضعة للضغوط والعراقيل الاستعمارية والرجعية. إذا كانت السينما قد عجزت في التعبير عن الواقع الحقيقي المحلي لأقطارها، فإنه لم يكن من المتوقع أن تعبر عن الهم القومي الأكبر المتمثل في الصراع العربي-الصهيوني[12].
فالسينما مطالبة بأن تكون في قلب الأحداث رغم كل شيء. فهي وسيلة تعبير جماهيرية يجب أن تنبع أساسا من نظام الإنتاج والتوزيع والعرض ومن غياب الحريات الديمقراطية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، وتنتج أيضا عن الوضع الثقافي لغالبية الجمهور وخواصه النفسية وتعوده على السينما السائدة وتأثره بها، كما يتشكل ذوقه ومفاهيمه بالاستناد إليها[13]. وبما أن السوسيولوجيا علم ينصهر بالمجتمع وقضاياه، فعالم الاجتماع المهتم بالصورة السينمائية يجب أن يكشف التشكلات الرمزية والظاهرة لأية صورة. ففي الدول العربية أو في دول العالم الثالث، نحن نخاف –كما يقول محمد المعنوني- أن نظهر صورتنا الحقيقية ونعرضها أمام الناس، لقد شكلنا لأنفسنا صورة بعيدة عن الصورة الحقيقية التي نعيشها، وانطلاقا من الخوف فإن معظم المخرجين يلاقون صعوبات من خلال ممارسة عملهم[14]. والسينما أمام هذا الواقع مطالبة بأن تكون في قلب الأحداث ليس بالأسلوب التوثيقي والتسجيلي فقط، بل بجميع أساليبها المعروفة[15]. خاصة وأن كل نظرة تقدم حالة معينة، شرطا اجتماعيا، مسار حياة، هيئة وتصرف إنسان يقدم نفسه[16]. إن الحقائق والأحداث التي يصورها الفيلم السينمائي لها فائدتها في النهوض بالمجتمع وكشف عيوبه، فهي تساعد على إرساء خطط التنمية الاجتماعية التي ترمي إلى تغيير بنى المجتمع أو تقويضها نظرا لعدم مسايرتها للعصر مثلا لذلك. فالسينما لا يجب أن تتماطل عن دورها وأن تكون خارج دائرة الصراع الاجتماعي، وإن تنقل هموم جميع الفئات. لقد وقع الناس في خطأ الاعتقاد بأن الفن الذي يصور حياة البسطاء يستهدف أيضا البسطاء من الناس، على حين أن الحقيقة هي عكس ذلك، والذي يحدث عادة هو أن فئات المجتمع ذات الأفكار والمشاعر المحافظة هي وحدها التي تبحث في الفن عن صورة لطريقتها الخاصة في الحياة، وعن تصوير لبيئتها الاجتماعية الخاصة. أما الطبقات المضطهدة الساعية إلى النهوض، فإنها تود أن ترى تصويرا لأوضاع الحياة تود هي ذاتها أن تتخذ منها مثلا أعلى تستهدفه، لا لنفس الأوضاع التي تود التخلص منها[17]. فالسينما تلعب دورا مهما للحفاظ على وحدة وترابط المجتمع الواحد ذي العالم المتعدد الأعراق والإثنيات والثقافات لكي يظل دائما موحدا[18]. إن السوسيولوجي مطالب هنا بالتكيف منهجيا مع الموضوع، حيث يتوجب عليه –ونفس الشيء بالنسبة للمهتم بالأخلاق- بأن يتعلق بالدلالة العميقة للمنهج كما يؤكد ذلك أندري بازان[19].
إن مساءلة السينما لتحديد ملامح المجتمع تظهر لنا من الوسائل الحديثة جدا، وذلك احتسابا لغنى الصورة وتعدد دلالاتها. فالسينما فضلا عن كونها أداة تواصل، فهي الوسيلة الناجعة التي تتيح للوعي الجمعي التعبير عن طريق مناهج الثقافة[20]، وتمرير خرافاته بإلحاح إلى جميع الحضارات.
إن على المشتغل بحقل السوسيولوجيا أن يدرك عدم إمكانية توفر "وصفة" سوسيولوجية بسيطة لإنتاج قيمة فنية عليا، وأقصى ما يستطيع عالم الاجتماع أن يفعله هو إرجاع بعض العناصر الفنية إلى أصلها، وقد تكون هذه العناصر واحدة في أعمال متباينة تماما من حيث الكيف[21]. إن علماء الاجتماع يتوفرون على إمكانية تدارس السيرورة السينمائية للواقع. الدراسة السوسيولوجية العملية تشخص حالة السوق السينمائية وتتدخل في دراسة الممارسة والتسيير السينمائي وتوزيع الأفلام ونوعيتها والجمهور، مما يعوض الخطط القديمة ومبادئها التي تعتمد على الموضوع والتي تجعل كاتب السيناريو والمخرج يتكلفان بإبداع فيلم حول موضوع جاهز ومعطى لأنه ببساطة "قد جال برأس" أحد البيروقراطيين[22].
إن بحث الجمالية في السينما أو في أي مجال فني آخر –بالنسبة لعالم الاجتماع- يحتم النظر إلى الظاهرة الفنية على أنها وليدة حضارة وتاريخ معينين، تطبع بطابع اجتماعي وتاريخي محدد في كل فترة أو عصر، وهي بذلك تعتبر تلخيصا مركزا لقيم ثقافية فكرية وأخلاقية محددة، فالفن إبداع بشري يتفجر من خلال تفاعل البشر مع الطبيعة، وتفاعلهم فيما بينهم سواء في إطار ثقافة واحدة أو في إطار تفاعل ثقافات متعددة ومختلفة[23]. إن الفعل السينمائي هو وليد النبضة الاجتماعية، يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه في قالب جدلي تكاملي وتبادلي. فالسينمائي لا يصور إلا ما هو كائن –إذا استثنينا أفلام الخيال والمؤثرات الخاصة- ولا يبتكر شيئا على الإطلاق، فالحقيقة أمامه، ويجب أن يتبعها كما هي في العالم، مثلا: العصفور الذي يغرد في الخامسة صباحا سيكون هو نفسه وليس واحدا آخر في الصورة[24]. إن الحقيقة تؤكد قوتها الخاصة في الصورة عندما تأتي لتنقص من أهمية الحبكة الدرامية أو يتداخل عمل الكاميرا بالواقع. قد نقول بأن الواقع، أو بالأحرى الواقع الاجتماعي بصفته يشتغل كحقل بصري، يصبح مكانا للمرجعيات، لكن أيضا لتدخلات عديدة، أي عبارة عن مكان تتصادم فيه مجموعة تجارب فردية وعائلية، محركا لمجموعات مهمة وكاملة، منظمة بصفة مؤقتة أو العكس[25]. يقول "سورلين بيير": تتيح السينما إمكانية التمييز بين المرئي واللامرئي، وعبر ذلك إعادة التعرف على الحدود الإيديولوجية والتمثل خلال فترة معينة. أو عكس ذلك، فالسينما تكشف ما يمكن أن نسميه "نقط التأمل"، أي الأسئلة: الآمال والآلام[26].
إن سوسيولوجيا السينما تضم دراسة الفعل السينمائي (البنية التحتية والجمهور) والفعل الفيلمي، مع افتراض التحليل الاجتماعي للمنتوجات السينمائية. فسوسيولوجيا السينما تفترض أيضا تحديد الفاعلين والمساهمين وذلك من خلال الجهد المبذول لمعرفة العلاقات الاجتماعية. إنها تتطلع إلى تأسيس علاقات التآلف بين المنتوجات الفيلمية وبيئاتها السوسيو-اقتصادية[27].
لقد حاولت السوسيولوجيا منذ ظهورها الانفتاح على كافة المجالات والحقول الفكرية والعلمية والأدبية والفنية فأصبحت لها فروع ثابتة أثرَتِ الساحة العلمية بمجموعة من البحوث القيمة في بعض المجالات، ومن بينها السينما، حيث أصبحنا نقرأ ونطالع كتبا ومقالات وأبحاث تتناول سوسيولوجيا السينما كفرع من فروع السوسيولوجيا. هذه المراجع يتطرق أصحابها إلى العلاقة الكائنة بين علم الاجتماع والفن السابع، لكن ما نريد التركيز عليه وفصل المقال فيه، هو أن سوسيولوجيا الفيلم تختلف عن سوسيولوجيا السينما، أي من حيث دراسة الجماهير، فهي تبحث في المنتوج السينمائي عن الحالات الأكثر انتشارا (السائدة) في العلاقات بين الأفراد[28]. إذا كانت سوسيولوجيا السينما بدراستها لمختلف حقول المهن السينمائية تأخذ بعين الاعتبار البنيات والتمثلات الاجتماعية التي تشكل الإطار الصعب، واضعة بذلك حدا فاصلا لـ"ممكنات" الإبداع السينمائي؛ فإن التحليل الاجتماعي للأفلام يتيح مساءلة الصور السينمائية التي تشوه الإطار البديهي، وتزيل الحجاب عن بنية المتخيل والنمطيات والتطابقات الخاطئة.. إن الفيلم هو قبل كل شيء إخراج اجتماعي، عرض لعالم، والصورة الفيلمية تفهم كانعكاس لغياب ما. إن الصورة هي حضور معاش وغياب واقعي، إنها حضور وغياب[29]. من هنا يمكننا أن نستشف العلاقة الكائنة بين السوسيولوجيا والسينما، والفروق الموجودة بين فروع سوسيولوجيا السينما، خاصة ما تعلق بسوسيولوجيا الفيلم وسوسيولوجيا السينما عامة.
بقي لنا أن نقول في آخر هذه المقاربة المقتضبة لعلاقة السينما بعلم الاجتماع، بأن الواقعية قد ساهمت في إنماء السوسيولوجيا كعلم يبحث في الواقع ويتخذ منه مختبرا لفرضياته واستخراج تنظيراته وتطوير مناهجه. مثلا، لقد بدأت عدة عناصر تظهر للوجود عند المدرسة الإيطالية الشابة في فترة التحرر: الرجال، التقنيات، الامتدادات الجمالية. لكن الوضعية التاريخية والاجتماعية والاقتصادية قد سبقت فجأة الأطروحة التي جمعت عدة عناصر أصيلة[30]. يقول الباحث والناقد مولاي ادريس الجعيدي بأن الواقعية هي كل شكل للإبداع ينظر إلى إعادة إنتاج الحقيقة، إلى التعبير عن نظرة وفية للواقع.. في السينما، الواقعية هي منهج إيديولوجي مشروط بوسائل تقنية ومالية خلال لحظة تاريخية معطاة[31]. انطلاقا من ذلك نستطيع القول بأن الواقعية مرتبطة بزمان محدد وتتطلب إمكانيات معينة. ففي المغرب العربي، ارتبط ظهور الواقعية في السينما المغاربية بأواخر الستينيات في فترة عرفت بنهوض كبير لحركات التحرر العربية والعالمية؛ ودفعت هذه الوضعية إلى تغذية الروح الوطنية لدى المثقفين ومن بينهم الفنانين الذين جعلوا من الواقع الاجتماعي والسياسي مجالا يستمدون منه مواضيع إنتاجاتهم[32]. فالسينمائيون المغاربيون عامة لم ينصرفوا في إنتاجاتهم إلى هموم الواقع اليومية، فالهم الحضري لم يناقش جيدا في الرؤى السينمائية المغاربية، حيث انعكفت الأفلام بصفة تطوعية على الحقائق العقارية التي تحوي الأسئلة العامة للثقافة والحضارة؛ فالمدينة إذا ما هي إلا مكان للحركة وليس عقدة للمشكل[33]. ربما كان هذا من بين المشاكل التي عاقت ولوج المتفرج المغاربي لقاعات العرض السينمائي، فهي لم تعد تعبر عنه وأصبحت تتغيى فقط الربح المادي؛ فالمتفرج العادي يعبر هو أيضا عن نوع من الإحساس بالتبرم مما يعرض عليه عادة في القاعات.. هذا التبرم يتجلى في السلوك داخل القاعة نفسها، إذ الانصراف من المشاهدة بالكلام، الشجار، الدخول والخروج.. هو نوع من التعبير اللاشعوري عن "عدم التجاوب" مع الفيلم، عن الإحباط، عن عدم عكسه للذات بشكل أو بآخر، هنا تلتقي تعاسة السينمائي والمتفرج وتتعانق معاناتهما في إطار وضع تاريخي مجتمعي شامل[34]. فمن المفروض أن تعبر السينما عن الواقع المجتمعي؛ وفي نفس الوقت أن تعرض وتعكس وتقدم محتوى الثقافة، وأن تكون حارس المجتمع، أن تقدم الوحدة والتلاحم أكثر من الفنون الأخرى؛ لكن يجب أيضا أن تترجم الوعي المشوش للجدليات الأساسية الغير المحددة لما هو عادي وما هو غير عادي، للمسائل القيمية والممارسات[35]. فالأسباب الاجتماعية الواحدة قد تؤدي أحيانا إلى نتائج متعارضة في ميدان الفن[36]. ولعل خير دليل على ذلك في نظري هو الدور الذي لعبته السينما أثناء الفترة الاستعمارية، حيث ساعدت على تزييف الواقع المجتمعي للبلدان المغاربية مثلا، وهو الشيء الذي لم يفقه له بعض السينمائيين المغاربيين أنفسهم مما جعلهم يصوغون أفلاما تسير على نهج المستعمر. فالمجتمع المغربي قد قدم بواسطة "الفيلم السياحي" وهو يعيش في سعادة مطلقة، وكدليل على ذلك التظاهرات المتنوعة التي تعكس الفرح والحفلات المنظمة[37]. فبما أن السينما هي وسيلة اتصال جماهيرية تتخطى الحدود والمسافات؛ فالاتصال يسعى أن يكون أداة ربط وحوار وتعاون وتضامن بين أفراد المجتمع الواحد، وبين المجتمع الدولي، أن التواصل أساسه القيم السوسيو-ثقافية[38]. إن السينما يجب أن تنقل ما هو كائن، وأن تنتقده وتقترح الحلول؛ لأن الصورة المشوهة تعطي انطباعا يختلف عن الحقيقة؛ لا سيما إذا تعلق الأمر بالاختلاف الثقافي بين متفرج وآخر.
كلما ارتفع مستوى الثقافة التي ندرس فنها ازداد تعقد شبكة العلاقات وغموض الأصل الاجتماعي الذي ترتبط به[39]. السوسيولوجيا علم يسعى دائما إلى تجديد وتطوير أساليبه المنهجية والبحثية ويطرق عوالم أخرى لاستكمال نظرته للظاهرة التي يدرسها، من خلال التطرق –عبر الإحصاء والوصف والتحليل والسرد- لتحليل النظم الاجتماعية والتراتبات المؤسساتية للمجتمع عبر الفيلم؛ والصورة السينمائية –في هذا الباب- خطاب يقدم نمطا اجتماعيا معينا وأسلوب عيش للمجتمع عبر الفيلم، لذلك فعلى المتفرج أن يكون ذكيا، وعلى عالم الاجتماع أن يكون دقيقا، فالصورة لا تخلو من تصدير ثقافة معينة؛ من منا لم يقف عند النفحة الإيديولوجية التي كانت تدعو لها الأفلام السوفياتية أو التي تكرسها الأفلام الأمريكية الحالية عن طريق نشر "الوعي الأمريكي المعلب في شرائط التسجيل"[40]. سواء داخل شرائط الفيديو أو في لفافات الأفلام السينمائية.
نستنتج من خلال مشاهدتنا لمجموعة من الأفلام السينمائية الدولية والعربية والمغاربية أن نقول بأنها مجال خصب للدراسات السوسيولوجية رغم اختلاف الحمولات الثقافية والنظرة الجمالية؛ فكما أن للواقع حياته وحركته، أي صراعه وتناقضاته التي ينجم عنها تطوره وتقدمه، فإن للواقعية حياتها وصراعها. وهي إذ تستمد نسخ وجودها من مضمون الصراع الإنساني من أجل تحويل الواقع باتجاه التقدم، فإنها تلتزم جانب هذا المضمون وتذود عنه وذلك بإبرازه عن طريق الكشف الجمالي عن مغزاه بوسائل الفن[41].
إن السينما تتطرق لمواضيع ذات صبغة كونية، ونفس الشيء بالنسبة لعلم الاجتماع. الفيلم السينمائي يعالج قضايا الميز العنصري[42]؛ وقضايا الهجرة[43]؛ ومشاكل المرأة[44]؛ أو يقوم بتناول المشاكل المتعلقة بكتلة اجتماعية أو سياسية معينة كقضايا العالم الثالث[45]؛ إلى غير ذلك، وهي نفس المواضيع التي يهتم بها عالم الاجتماع.

[1] - Philipe D’HUGUES, Almanach du cinéma : des origines à 1945, Volume I, Encyclopédie Universalis, France, 1992, p5.
[2] - أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الجزء الأول، بيروت، 1981، ص372.
[3] - نفس المرجع، ص501.
[4] - Roberto ROSSELLINI, op.cit, p50.
[5] - Ibid, p55.
[6] - فلسطين في السينما، كتاب جماعي تحت إشراف وليد شميط وغي هينبل، منشورات فجر، بيروت، باريس، ص45.
[7] - نفس المرجع، ص44.
[8] - M.Driss JAIDI, Le cinéma au Maroc, Collection Al Majal, Rabat, 1991, p7.
[9] - Ibid, p7.
[10]- Ibid, p69.
[11] - جريدة العلم، عدد 16759، 16 مارس 1996، ص7.
[12] - يوسف يوسف، قضية فلسطين في السينما العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ، 1980، ص17.
[13] - الهوية القومية في السينما العربية، كتاب جماعي، مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت، 1986، ص158.
[14] - جان الكسان، السينما في الوطن العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مارس 1982، ص19.
[15] - مقتطف من حوار لمحمد المعنوني خلال ندوة حول فيلمه "أليام أليام"، نشرة مهرجان دمشق السينمائي الأول، 1972، ص2/3.
[16] - M.Driss JAIDI, Vison(s) de la société marocaine à travers le court métrage, AL Majal, Rabat, 1994, p12.
[17] - أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، الجزء الأول، مرجع سابق، ص422.
[18] - Roland Fournier, Kevin COSTNER, Jean Picollec, Editions du Rocher, Monaco, 1995, la préface.
[19] - André BAZIN, Qu’est ce que le cinéma? III – Cinéma et sociologie, 7ème art, Editions du CERF, Paris, 1961, p82.
[20] - M.Driss JAIDI, Vison(s) de la société marocaine à travers le court métrage, p11.
[21] - أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، مرجع سابق، ص7/8.
[22] - Elem KLIMOV, Le cinéma doit être sincère en tout ? Présenté par Valentino BLINOV, Traduit par Serguei MOURAVIEW, Editions de l’agence de presse Novosti, 1987, p12.
[23] - الواقعية في السينما العربية، ، منشورات الجامعة التونسية لنوادي السينما(1)، تونس 1988، ص74.
[24] - Eric ROHMER, Pascal BONTZER, Editions de l’étoile, Cahiers du cinéma, Collection « Auteurs », Paris, 1991, p70.
[25] - Roberto ROSSELLINI, op.cit, p54.
[26]- Sorlin Pierre, Sociologie du cinéma, Aubier, Montaigne, Paris, 1977, p24.
[27] - M.Driss JAIDI, Cinégraphiques (Cinéma et société), Al Majal, Rabat, 1995, p5.
[28] - M.Driss JAIDI, Cinégraphiques (Cinéma et société), Al Majal, Rabat, 1995, p5.
[29]- M.Driss JAIDI, Cinégraphiques (Cinéma et société), Al Majal, Rabat, 1995, p6.
[30] - « CinémAction » et « Tricontinental », Le tiers monde en films, Revues trimestrielle, Numéro spécial, Maspero, Paris, Janvier, 1982, p14.
[31] - محمد نجيب قلال، الواقعية في السينما المغاربية كتاب الواقعية في السينما العربية، مرجع سابق، ص86.
[32] - M.Driss JAIDI, Visions (s) de la société marocaine à travers le court métrage, p101.
[33] - « CinémAction » et « Tricontinental », Le tiers monde en films, Revue trimestrielle, Numéro spécial, Maspero, Paris, janvier, 1982, p200.
[34] - القري ادريس، السينما المغربية.. نحو مشروع مقاربة سوسيولوجية، مجلة دراسات سينمائية، فبراير 1988،
[35] - M.Driss JAIDI, Cinégraphiques (Cinéma et société), Al Majal, Rabat, 1995, p69.
[36] - أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، مرجع سابق، ص7.
[37] - M.Driss JAIDI, Vision(s) de la société marocaine à travers le court métrage, p30.
[38] - شمس الدين عبداتي، الاتصال المؤسساتي بالمغرب، ص39.
[39] - أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، مرجع سابق، ص6.
[40] - رالف رزق الله، التلفزيون والأطفال: التسرب الإيديولوجي من خلال الصورة، ضمن كتاب جماعي تحت عنوان ثقافة الطفل العربي بين التغريب والأصالة، إشراف مصطفى حجازي، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الطبعة الأولى، 1990، ص264.
[41] - سعيد مراد، ملامح الواقعية في السينما السورية، كتاب الواقعية في السينما العربية، مرجع سابق، ص43/44.
[42] - CinémAction et Tumulte, Cinéma contre racisme, Visages des communautés immigrés, Numéro spécial hors série, Dossier réalisé par Guy HENNEBELLE et Chantal SOYER, n°7.
[43] - CinémAction, Cinémas de l’émigration (3), Numéro 24, Cordonné par Christian BOSSENO.
[44] - CinémAction, Le cinéma au féminisme, Numéro 9, Cordonné par Monique MARTINEAU.
[45] - « CinémAction » et « Tricontinental », Le tiers monde en films, Niméro hors série, Cordonné par Guy HENNEBELLE et Janine EUVRARD.
(*) عمومية: مذهب لا يعترف بأي سلطة إلا بالقبول العام، بعكس الفردية والذرية (المترجم).
[46] بلوغ نص هذين الكتابين يطرح بعض المشاكل. إننا نعرف التاريخ المتقلب لترجمات ألف ليلة وليلة؛ أحيل هنا على الترجمة الجديدة لروني كلاوام (ج. I، سيدات عظيمات وخدم ظرفاء، جII، القلوب غير الإنسانية، جIII ملحمة اللصوص، جIV، قصص أسفار الجامعة والأمثال، باريس، ألبان ميشيل، 1965-1967). وعلى ترجمة غالان (باريس-غارينسي فلاموريون، جI-II، 1965). بالنسبة إلى نص بوتوكي الذي لا زال غير تام بالفرنسية، أرجع إلى المخطوطة المعثور عليها في سرقسطة (باريس، غاليمار، 1958، 1967)، وإلى أفادورو، قصة إسبانية (جIV-I، باريس 1813).
[47] استعيره من كـ بومغرتنر:
K.L.Baumgartner, Formale Erklarung in Maternatik and Dichtung, Munich, Numphenburger, 1965m p77. Poetischer texte.
[48] لا أقترح على نفسي هنا إثبات كل ما مصدره ألف ليلة وليلة من المخطوطة المعثور عليها في سرقسطة، لكن القدر المنقول منها كبير جدا بلا شك. أكتفي بالإشارة إلى بعض التطابقات الأكثر إثارة: فإسما زبيدة وأمينة، الأختان الشريرتان، يذكران باسمي زبيدة وأمينة ("قصة الحلاق الثرثار الذي يقوم بنفس الفعل" (Kharwan, I)، والمرأة الفاتنة المتحولة إلى هامة حاضرة في "الأمير والغول" (Khawan, II)، وزوجتا الرجل اللتان تلجآن في غيابه إلى نفس الفراش تظهران في "قصة غراميات قمر الزمان" (غالان، II) الخ. لكن ليس هذا هو مصدر المخطوطة الوحيد طبعا.



--------------------------------------------------------------------
المصدر : مجلة فكر ونقد - العدد 49/50 (16) مايو/يونيو 2002

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى