أمل الكردفاني - الكمال لله .. هل هذه الجملة جائزة فلسفيا؟

كثيرا ما يتم استدراك جملة الكمال لله عند وصف أمر دنيوي بالكمال. وهي جملة صارت شائعة المقصود منها طبعا التنزيه والتعظيم للذات الالهية. بالتأكيد نستطيع ان نتقبل هذه الجمال بهذا السياق الذي لا يتفق والجدل الفلسفي الذي اثارته هذه الجملة منذ ارسطو وحتى اليوم ؛ فجملة الكمال لله ليست كلمة تفهم بهذا المعنى السطحي والذي يعتمد على حدس العامة ، وانما يجب ان نبحث عن فلسفة هذه الكلمة. وفي البدء اورد التعريف اللغوي لهذه الكلمة والتي مصدرها كلمة (كمل): حيث جاء في المختصر:

(كمَلَ يَكمُل ، كمالاً وكُمُولاً ، فهو كامِل . كَمَلَ الشيءُ : تمَّت أَجزاؤه أَو صفاتُه فصار كاملا ًكَمَل الشهرُ : تمَّ دورُهُ......).
اما في اللغة الانجليزية perfection فقد استمدت من الكلمة اللاتينية perfectio وهي التي تشير الى الانتهاء to finish او النهاية to an end . ان كلمة الكمال اذن تشير الى تمام العناصر المكونة للشيء ، كما تشير الى التناهي ، وهذا ما اثار جدلا واسعا لدى الفلاسفة حول اجازة وصف الله بالكمال ، لقد قال ارسطو : ان العالم قد يبلغ درجة الكمال ولكن ليس الله. والاشكالية تكمن في عدة نقاط: فعلى سبيل المثال: يعني الكمال التمام والتمام بدوره يعني التناهي والتناهي لا يجوز كصفة من صفات الله لأن الله لا يحده مكان ولا زمان ، فلا يجوز ان يكون متناهيا. ومن جهة اخرى فإن بلوغ الشيء للكمال يعني استنفاد اي تجدد وتغيير بالنقص او الزيادة وهذا معناه تعطيل الشيء ؛ وهذا ما لا يجوز لله الذي (كل يوم هو في شأن) . وعدا عن ذلك فإن الكمال يعني ضرورة قياس الشيء على محددات ومعايير ، وهذا ما لا يجوز في حق الله ، فلكي نعرف ان كان الشيء كاملا فلابد من قياسه على ما هو كامل مسبقا ؛ وهكذا ندخل في ذات اشكالية العلة الاولى او علة العلل المعروفة. لقد انتقل الجدل حول الكمال الالهي من اليونانية الى المسيحية ، وقد اتجه الفكر المسيحي الى ان صفة الكمال يمكن فقط ان تتعلق بالمخلوقات وليس بالخالق. فقمة الكمال في الواقع هي قمة النقص. لكن في القرن السابع عشر وضع ليبنيتز مفهوما جديدا للكمال وهو ان الكمال اللا محدود مقصور على الله. ولقد تلقف العالم المسيحي هذا المفهوم الذي ربما يثير مغالطات منطقية كثيرة ، ولا ادل علة ذلك ان اللا محدودية تتناقض مع لازمة محدودية الكمال. ومن ثم فإن جملة ليبنيتز تبدو انشائية أكثر منها منطقية.
يمكننا ان نلاحظ ان جملة الكمال الالهي وان كانت قد وردت في الانجيل ، الا انها لم ترد ابدا في القرآن -بحسب ما اتذكره من خلال اطلاعي على القرآن- ولا اعرف ان كانت قد وردت في السنة ام لا. لكن الكمال الالهي كما ذكرت جملة يجب ان نضع تحتها الكثير من الخطوط لأنها قد تفضي الى عكس المراد منها فبدلا من تنزيه الله ستؤدي بالضروره الى وضعه داخل حدود ثابتة وتفضي الى تناهيه وهذا مما لا يجوز. لقد تناقشت مع الاستاذ عبد المؤمن ابراهيم حول هذا الأمر وهو مهتم باللاهوتيات بشكل عام ؛ وقد رأى ان الكمال هو اداء الشيء لوظيفته. ورغم رأيه هذا الا انني ارى ان الوظيفة جزء من الشيء ولا تشمله كله فحتى ان ادى الشيء وظيفته على اكمل وجه فلا يعني ان الشيء كله قد بلغ الكمال. وفوق هذا لا يمكننا ان ننسب هذا التعريف الى الله لأننا اولا نجهل وظيفة الله بل ولا يجوز لنا ان نفترض ان لله وظيفة ام لا. وفوق هذا فإن اداء الوظيفة على الوجه الاكمل يحتاج منا لقياس معياري وهذا ما لا يمكن تحقيقه ابدا الا ببلوغ الكمال مما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة.
أخيرا: يذكرني هذا الجدل بمقولة لدى فلاسفة الفن وهي ان الفن (يترك) ولا (ينجز) ، اي ان الفنان لا يقرر ان اللوحة التي رسمها قد بلغت حد الكمال ، وانما يتركها هكذا لأن حد الكمال غير مدرك بالنسبة له. وربما تنصرف هذه المقولة الى كل شيء من حولنا.

تعليقات

صفة الكمال تثير الجدل بين علماء الدين المسلمين و الفلاسفة على حد السواء، و من المثير فعلا عدم ورودها في القرآن، رغم أن الله تعالى منزه عن النقص، و هذا يفترض كماله، أو كمال صفاته.
صفات الله عموما، قد توقع بعض المتفكرين في الارتباك إن تساءلوا عن امتداداتها المنطقية و تأويلاتها العقلية، و هذا قد يدفعهم في اتجاهين، الأول هو الإقرار بتهافت الخطاب الديني حول الذات الإلهية، أو الثاني و هو الإقرار بمحدودية قدرة اللغة البشرية على وصف الكمال الإلهي، فاللغة المحدودة، لا يمكنها الإحاطة بذات إلهية كاملة..
كل هذا قد يبدو منطقيا.. قليلا أو كثيرا.. حسب المنطلق العقدي الذي ننطلق منه.
لكن الأمور تتعقد أكثر، إن افترضنا أن القرآن كلام إلهي.. فهل يمكن الحديث عن محدودية لغوية ساعتها؟ هل يمكن للغة بشرية هي العربية أن تستوعب كلاما صادرا عن ذات كاملة؟
معجزة القرآن، قد تكون أساسا في قدرته على الجمع بين هذه المتناقضين، بين محدودية اللغة البشرية، و كمال الكلام الإلهي..
أقول قد، لأنني أفكر فقط، و لأنني لست عالم دين، مع أنني أثق في أن الإيمان قد يكون المسار البشري الوحيد لبلوغ الحقيقة ... إن وجدت هذه الحقيقة فعلا خارج حدود العقل و اللغة.
 
صفة الكمال تثير الجدل بين علماء الدين المسلمين و الفلاسفة على حد السواء، و من المثير فعلا عدم ورودها في القرآن، رغم أن الله تعالى منزه عن النقص، و هذا يفترض كماله، أو كمال صفاته.
صفات الله عموما، قد توقع بعض المتفكرين في الارتباك إن تساءلوا عن امتداداتها المنطقية و تأويلاتها العقلية، و هذا قد يدفعهم في اتجاهين، الأول هو الإقرار بتهافت الخطاب الديني حول الذات الإلهية، أو الثاني و هو الإقرار بمحدودية قدرة اللغة البشرية على وصف الكمال الإلهي، فاللغة المحدودة، لا يمكنها الإحاطة بذات إلهية كاملة..
كل هذا قد يبدو منطقيا.. قليلا أو كثيرا.. حسب المنطلق العقدي الذي ننطلق منه.
لكن الأمور تتعقد أكثر، إن افترضنا أن القرآن كلام إلهي.. فهل يمكن الحديث عن محدودية لغوية ساعتها؟ هل يمكن للغة بشرية هي العربية أن تستوعب كلاما صادرا عن ذات كاملة؟
معجزة القرآن، قد تكون أساسا في قدرته على الجمع بين هذه المتناقضين، بين محدودية اللغة البشرية، و كمال الكلام الإلهي..
أقول قد، لأنني أفكر فقط، و لأنني لست عالم دين، مع أنني أثق في أن الإيمان قد يكون المسار البشري الوحيد لبلوغ الحقيقة ... إن وجدت هذه الحقيقة فعلا خارج حدود العقل و اللغة.
انت لمست قضية شائكة جداً وهي مسألة النص القرآني...والمشكلة الجوهرية التاريخية ، هي بأي منهج يمكننا ان نفهم نصاً صادرا عن ذات إلهية كاملة؟ ومن يملك الفهم المطلق للنص؟ واذا كان لا أحد يملك هذا الفهم المطلق...فهل فقد النص وظيفته؟
 
أعلى