حوار : الشاعر ميلود خيزار ل "الأثر": "الحداثة" لا تزال في ثوب "الوافد الغريب" على حياتنا العامة.. أجراه: السعيد بوطاجين

عندما اقترحت على الشاعر الجزائري ميلود علي خيزار، إجراء حوار مع "الأثر"، وافق دون تردد، وببعض الحياء. لكني كنت أدرك، بالمقابل، ومن خلال ما قرأت له من شعر وتحليل وآراء، أنه يقف على الأرض مثل نبتة تعرف وضعها وقدرها. أي أنه كان من هذه الذرية التي لا تعتدي على الشعر كقيمة، كمفهوم وتمثل وممارسة ورؤية ذاتية، قبل أن تكون استيرادا ليقين غيري، أكبر أو أصغر مما نحتاج إليه في سياقات عينية.. يتحدث الشاعر في هذا اللقاء عن قضايا اللغة والحداثة والمنهج والأنا والآخر، وعن الكتابة كتجربة ذاتية في علاقاتها بالمحيط الخارجي، وبالمنجز الغيري. ثمة في أجوبة الشاعر ما يدعو إلى التفكير مليا، وبروية، في خطابنا الأدبي، وفي خطابنا النقدي كذلك. وذاك ما وددنا الوصول إليه في هذا اللقاء.



* نصوص الشاعر ميلود خيزار مؤثثة معرفيا وفلسفيا، من الموضوع إلى اللون إلى المرجعيات إلى الاستعارات الحية إلى الرؤية. وفي قصائده جهد فكري مميز يربك المتلقي بسبب العدولات والتأملات. هل تنظر إلى القصيدة كعناصر جمالية أم كمؤسسة معرفية؟
** كل خطاب شعري يتكئ إلى تجربة وإلى مرجعية فكرية وجمالية (أي يحيل إلى أثر فكري، ولكن بجمال.. فالجمال هو جوهر الخطاب الفني عموما) وبالتالي إلى رؤية فكرية للعالم وللحياة.. الفرق الوحيد بين هذه التجربة والتجربة العلمية (المعرفة هي مجموع العلوم) هو في كون التجربة الشعرية غير قابلة للتعميم ولا تتقيد بالشروط الصارمة للمعرفة العلمية وتبقى محافظة على خصوصيتها وهويتها كرؤية خاصة وفردية للعالم.. (العلم هو نحن... الفن هو أنا).. "أنا" بكل ما تعني من حضور وتفاعل ونقد وأخطاء وطفولة ولعب ومغامرة وتحدّ.. "أنا" بكل عفويتها واندفاعها في ليل المعنى وفداحة المصير وعبثية الجدوى وعنف المواجهة.
الفن لا يقدم فلسفة بل يتفلسف باستمرار لأنه يواجه سؤالا متحركا وخطيرا وبأهمية "المعنى".. الذي ليس سوى الصورة الرمزية لها في لعبة التاريخ. هكذا بكل عزلتها وبكل قلقها وحدة تساؤلاتها تواجه الكتابة الشعرية موضوعها المتناثر المفكك في مسرح الواقع والحياة لتعيد بناءه وترميمه.. لتنفخ في عناصره من روحها التواقة إلى عالم أشبه بال "حلم" مؤثث بالكثير من التناقضات الحادة ويأخذ اللون مكانه كلغة لهذا الحلم/الرؤية.. ولواقع هو أقرب إلى الكابوس.
المتلقي للأسف يعيش تاريخا آخر.. تعيد إنتاجه مؤسسة تربوية مفلسة (الفن سؤال تربوي) وأجهزة أيديولوجية أخرى تشتغل بأدوات وبأهداف "سياسوية" و«شعبوية" تترك الانطباع بعدم جديتها في تناول الخطاب الثقافي كعنصر تحديث بل كمجرد "تنشيط" غالبا ما يموت في حينه ولا يترك أي أثر على السلوك.. في مجتمع يفتقد إلى منافذ للتواصل الحر والتعبير عن ذاكرته وهويته وأشواقه (لا وجود لدوريات متخصصة في الشعر والمسرح والسينما والنقد والرواية وأدب الطفل والفنون التشكيلية.. ولا أثر لرؤية ثقافية، ولا لمشروع ثقافي، ولا لفعل ثقافي محترم.. مثلا.

* تتعامل مع المعجم الشعري بشكل مفارق للنموذج، وبتنقيب في الممكنات التعبيرية التي تتيحها العلامات اللسانية وغير اللسانية، ما يعني أن اللغة، في منجزك الإبداعي برمته، هي سؤال مركزي تنظر إليه من تموقعات خاصة، ومن منظور مضاد لليقين وللنموذج. وهناك، من منظورنا، حفريات خاصة قوامها شكل التعامل مع الدلالة انطلاقا من لغتك أنت، بحثا واستثمارا، ما يؤدي حتما إلى مساءلة الجاهز والنموذج وطرائق التفكير والتعبير.
** حين تصبح رؤية أدبية "ما" للكتابة عبارة عن مجموعة "قناعات" تتناغم إلى حد بعيد و "التصورات الوثوقية " للعملية الإبداعية.. تنتهي إلى صناعة نموذج كتابة. ويصبح هذا النموذج مرجعا فكريا وجماليا وتقنيا لممارسة فعل الكتابة، ليس بوصفه نظام تعبير فحسب، بل يتجاوزه إلى نظام تفكير ووجود له مصوغاته وروّاده ومتعاطوه. إذن النموذج هو الصورة النهائية لرؤية تجاوزت "التجربة الفردية" (بتحفظ كبير على عبارة التجربة الفردية)، وهنا حتما ستضيق هوامش كثيرة هي من صلب العملية الإبداعية.. وبعيدا عن الأحكام القيمية على إبداعية أو نجاح أو فشل كل محاولة لاختراق النموذج فإن هذه المحاولات تظل "ضمانا" عمليا لصيرورة الفعل الإبداعي لما تحمله من عناصر نقد وروح تجاوز وشعور بالضيق الإنساني تجاه فكرة "النهايات" أو "الحدود" التي يتسم بها النموذج.
الأكيد أن هناك "قيما" مؤسسة النموذج، وهذا يعني أن هناك مصالح فكرية وجمالية يلبيها ويضمنها، والأكيد أن هناك "ذائقة" ستتضرر جراء هيمنته، وأخرى ستمارس عليها أشكال عديدة من "القمع الناعم" (تاريخ الأدب حافل بمثل هذه الممارسات غير الأدبية).. وتنشأ عن هذه الوضعية مصادمات وسجالات وتكتلات هي أقرب إلى النموذج الأيديولوجي منها إلى جوهر الكتابة الإبداعية.
من جهة أخرى، تصبح الكتابة "المنخرطة" في النموذج تطبيقا عمليا، أي آلية تمارس مجموعة من القيم والتقنيات الجاهزة، ولها رصيد وهمي من "المناصرين" الذين هم إقرب إلى "المناضلين" منهم إلى "متذوقين" و«فاعلين" حقيقيين في العملية الإبداعية. إن هامشا كبيرا من قيمة الحرية الفردية سيجهز عليه النموذج وهذا ما سيشكل مستقبلا البذور الأولى لنهايته، ذلك أن الحرية شرط رئيسي ليس في فعل الكتابة فحسب بل في "إبداعيته" أيضا وبالتالي في صيرورة فعل الكتابة الإبداعية عموما.. ففكرة الأنصار ليست سوى دليلا مؤقتا على شرط الاستجابة لمبررات النموذج لكنها ليست ضمانا لديمومته.
تتجلى معظم نشاطات العقل في اللغة.. وبها.. يوصفها الشكل الرمزي الأكثر ضمانا لنظام التمثلات.. وبذلك فهي تحمل صورة العالم (بما فيه العقل) في بنيةِ وحداتها الدلالية (علينا أن ننطلق من فكرة أن الدلالة هي بنت نظام ما للغة)، ومنه نظام النحو والصرف، فالحقيقة أن اللغة تحديدا هي "النحو والصرف وقواعدهما.. وبهذا فهي تتجاوز "نظام التعبير" إلى كونها "نظام تفكير".. هذا الارتباط العضوي بين طبيعة النشاط العقلي (كمحمول) واللغة (كحامل أو كنظام)، وبمعزل عن فرضية أسبقية الفكر عن اللغة، فإن الأمر يجعل من اللغة معطى ذا حساسية بالغة في ديناميكية التواصل والاتصال على كل المستويات.. إذن فمستوى حيوية اللغة في مرحلة تاريخية ما هو انعكاس لمستوى النشاط العقلي (أعتقد أنه بهذه اللغة تحدث وفكر ابن سينا وابن رشد وابن خلدون (على المستوى الفكري) وأيضا المتنبي والنفري والحلاج مثلا (على مستوى المخيال والوجدان).. فيما يسمى بالعصر الذهبي للعقل العربي.. اللغة هي ظل الإنسان على الأرض.. هي أثره على رمل الحياة.. "المكلف بتسمية" الأشياء.
إن تاريخ النشاط العقلي لأمة ما يتجلى أيضا في جزء كبير منه في الأثر اللغوي (إذن اللغة هي أيضا ذاكرة تاريخية "للجسد" باعتباره الكتاب الرمزي الذي احتوى آثار المغامرات والتجارب والإكراهات الاجتماعية.. السياسية.. النفسية والثقافية).. يكفي أن نشير إلى "ذكوريّتها العارية" في قواعد الصرف. ثانيا.. هذا التداخل الخصب بين الفكر واللغة يتجاوز بكثير صورة اللغة كقميص لجسد الفكرة، فلا تكون حيوية اللغة إلا بحجم القوة التي تحملها الفكرة.. هكذا تكون اللغة "آخر نظرة" يلقيها الفكر على هيئة العالم.. أي آخر صورة يرسمها الإنسان عن الحياة. ثالثا.. إن الإنسان باعتباره "كائنا لغويا" بامتياز.. لا يمكنه أن يطفئ الضوء ويعود إلى "تلمّس" الأشياء بعد أن "امتلكها" رمزيا.. وهو لن يتوقف عن ثقب سقف التجريد.. وبالتالي فلن يتوقف عن "خلق اللغة" التي تلائم دور "الإله الصغير" في مد ظله على الأشياء وإضفاء "صفاته وحالاته عليها".. ولن يكون هناك بالتأكيد مكان "للآلهة العمياء".. ولا "للكائنات الصمّاء" أية فرصة في التعبير عن "نزعة القوة".
حين أستمع إلى طالب أو أستاذ ما وأشعر بمعاناته المريرة "في نقل تصوراته ومشاعره إلى العالم بشكل مناسب (حتى لا أقول جميلا).. حين أنظر إلى وزير ثقافة أو إعلام أو داخلية ما.. "يخبط بلسان كسيح" على الأسماء والأرقام والصور.. عندما اضطرّ لمتابعة المستوى المنحط لغويا للخطابات السياسية.. حين أنظر إلى هذه "الغمة".. أدرك حجم "المأساة" و"المكيدة".
علينا أن نقرّ بأن اللغة (الكلمة).. هي كياننا ووسيلتنا الوحيدة للتفكير في الحلم وتصويره وانجازه.. ويخطئ من يعتقد أنه سيتجاوز "الوضع المزري للغة في الواقع" للوصول إلى مخيلة جماعية تتفاعل وفق برمجة فكرية مغايرة وتثير تمثلات محددة ومشروطة بتاريخ مغاير.. وربما معاد إلى درجة العنف. هناك فكرة سمجة يحاول بعض الشعراء والروائيين الترويج لها مفادها "امني أكتب بلغة يفهمها العامة"... وهذا للتغطية على محدودية التجربة و الرؤية والفكر لديهم... وطبعا...لتفادي ملاحظة الأسلوب اللغوي الدارج إلى حدّ الركاكة. بعض كتاب الرواية من الجزائريين.. يمكننا أن نقول إن أرقى مستويات الإبداع لديهم هو الكتابة بعربية "سليمة"... أما أفكارهم فهي "دارجة" محضة.. هم في أرقى حالاتهم مترجمون فاشلون للأثر الشعبي.. أما عن الأخطاء اللغوية والأسلوبية فحدّث ولا حرج.. بعضهم لا يستحي ويتطلع بهذه البضاعة الهزيلة إلى نيل "الجوائز"... يظنها انتخابات على الطريقة "الجزائرية".

* قلت في تعليق على شبكة التواصل الاجتماعي "إن الحداثة تبدأ مني"، مع أن الحداثة الشعرية العربية، أسست، في مجملها، على المعيار الغيري الذي هيمن على الأشكال والمنظورات التي ميزت الساحة العربية لسنين. هل يجب تفعيل الذات والمتخيل الشخصي لإنتاج حداثة محلية؟ إذا كان الأمر كذلك، هناك ملاحظة جوهرية يمكن الإشارة إليها: إذا كانت الحداثة مستوردة، فهذا يعني أنها كانت بحاجة إلى تمثل وأسئلة من حيث أنها اكتفت بنقل النشاط الذهني الوافد إلينا من مجتمعات كيَفته لأغراض، في حين أننا لم نبذل جهدا عقليا في التوطين، تفاديا لتهجير القارئ إلى متخيل قد لا يناسبه، ومن ثمَ نفوره من الكتابة التي تتحدث عن الآخرين، وليس عنه.
** لغويا يمكن وضع اصطلاح "الحديث" في مواجهة "القديم".. كصورة.. وعملية تجديد لآلية إنتاج المعنى والترويج له وتسويقه وهذا ما يسمى بالتقنية أو التكنولوجيا.. في مجالات الثقافة والاقتصاد والاجتماع وصولا إلى السياسة. وبما يرافق ذلك من آليات قراءة وتأويل وإنتاج ومن تمثلاث وبرامج واستراتيجيات.. هذه الحداثة "الأوروبية" تغذت من الاكتشافات العلمية المذهلة، من إدراك جديد بموقعنا من الفضاء وتصورنا له، التقنية التي حولت المعرفة بالعلوم إلى آلية وأدوات إنتاج، وغيرها.. كل هذا يخلق بيئات جديدة للبشر ويدمر القديمة، مما يعطي تصورا أو وعيا وشعورا مغايرا بالتاريخ وبحركة الحياة، ويبلور أفكارا واتجاهات اجتماعية وسياسية وثقافية، يكوّن رؤية جديدة للسلطة، وأنماط علاقات بين الناس ببعضهم وبالمؤسسات المختلفة، يغيّر ويعمّق اتجاهات الصراعات وعلاقة الناس بتاريخهم الجماعي وعاداتهم .
هذه "الحداثة" لا تزال في ثوب "الوافد الغريب" على حياتنا العامة.. لم تلتبس بعد بوعينا الجمعي وبنظام تفكيرنا وقراءتنا وإنتاجنا للمعنى هذا بالإضافة إلى كونها "وعيا كولونياليا" وصادما "لقديمنا"، أي لموروثنا الذي لم يستطع "شكل الدولة الحديثة" تجاوزه، (فبمجرد أن تتاح له الفرصة يعود بكله خطابا ورؤية وممارسة).. وبين وهم الحياة وواقع الحياة.. يعيش المخيال معرفيا وفكريا وجماليا ممزقا وبهوية هي أقرب إلى حالة "السكيزوفرينيا" منها إلى الشخصية السوية المتآلفة مع تاريخها وأشواقها.
هذه الصورة هي مثال لما يحدث على مستوى الكتابة الشعرية والنقد الأدبي.. فمثلما لا يمكن استيراد التجارب المغايرة للشرط التاريخي فإنه بالطبيعة لا يمكن استيراد الرؤى ولا الأشواق.. ما لم تحدث ثورة حقيقية على مستوى القيم الإنسانية وأنظمة المعرفة والتمثل والمخيال.. ولذا نرى عزلة تلك التجارب الحداثية (على استحيائها.. وكأنها تمارس عبثية ما في الكتابة). هنا يجب الإشارة إلى الطابع الدونكيشوتي، وأحيانا الكافكوي لتجاربها.. شخصيا لا نموذج لدي في تصوري للحداثة.. ومن هذا الوعي المؤلم والأعزل والشقي أحاول أن أستجمع قواي، بدءا بسؤال اللغة وما ترسب من قراءة للتاريخ والأثر المقدس والأسطورة.. لكتابة تفاعلي الخاص وتعاطيّ المفرط الحساسية مع ما تمنحه هذه المنجزات، دون أن أعوَل على "وعي غيري" لاستيعاب أو تمثل "كينونتي"، كما تفعل القوى المهيمنة.
يقودنا هذا التحليل إلى طرح سؤال المرجعية واليقين: لقد ركزت الحداثة العربية، في مجملها، على النموذج الغربي واتخذته مقياسا لتقييم المنتج الخاص الذي يتسم بهوية مغايرة، وهذا يعني أنَها استبدلت يقينا بيقين، في حين أن الغرب يشهد مراجعات مستمرة وتراجعات عن المكتسب وعن قضايا المعيار. هل هذا يعني أن علينا مسايرة أجهزة القياس الغربية والانمحاء فيها، ومن ثمَ تغيير مواقفنا انطلاقا من متغيرات الذائقة الغربية وأدواتها؟
تذكرني هذه الوضعية بحركة التدوين لدى أوائل العلماء المسلمين، مع فارق بسيط هو أن حركة التدوين آنذاك لم تتوقف عند عملية النقل، بل تجاوزته إلى الهضم والنقد ثمّ التأسيس.. وفق رؤيتها الجديدة للعالم.. تذكرني بصورة "المأخوذ" بمنجزات غيره إلى درجة محاولة تمثلها بعزلها عن سياقاتها التاريخية.. وبشكل يعمق الشعور بالاغتراب والضياع والتلاشي.. كتلة من المفارقات والتناقضات لم تتعرف بعد، وبشكل كاف، إلى واقعه وأعطابه وأسئلته الملحّة، فمن الأكيد أنه لا يمكننا استعمال تقنية بمعزل عن المنهج المناسب، ولا بمنهج بمعزل عن المقاربة، ولا بمقاربة بمعزل عن رؤية فلسفية وفكرية ناضجة وناقدة بموضوعية لواقع واضح.
من هنا ندرك حجم المأساة.. مأساة كون ثقافتنا أصبحت "تابعة" وغير أصيلة وغير منتجة، وتعيش بسلوك طفيلي، وتواجه تحديا اسمه الوجود وسط عالم يتسم بالصراع، لا الحوار بالمغالبة والهيمنة، لا التعايش ولا التسامح.. بهذه الروح نستورد المنهج، تماما كأداة الزينة.. في خطاب ضاقت فيه الحدود بين المضمون والشكل، بين المبنى والمعنى.. نستورد المنتج لا آلية الإنتاج.. الفكرة لا التفكير (ولنا في مشهد الحراك السياسي خير دليل على عمق ماساتنا).. نحن في منطقة "اللاهوية" بين نموذجين، "قديم" لم يعد يلبي حاجاتنا، و"حديث" لا يعترف بوجودها.. إن المناهج، كل المناهج ليست سوى ترجمة لنظريات هي من صلب التراكم والصراع المرير مع نماذج استولت على أدوات قراءة التاريخ.
وما علينا سوى أن نخوض صراعا مريرا مع نماذجنا لتكون لدينا أدواتنا الخاصة في القراءة، مع ضرورة هضم تلك المنجزات المغايرة.. (علينا أن نعترف أنه لا يمكننا معالجة حالات مرضية بأدوات ابن سينا، ولكن أن لا نتوقف عند البعدين الفكري والفيزيولوجي للإنسان كما تختصره الأنتروبولوجيا الغربية).. فالجسد لا يتشكل ولا ينمو إلا في بيئته وفي تاريخه الخاص.. وجود "الجرجاني" و"ابن قتيبة" و"القرطاجني" في مناهجنا الأكاديمية بجوار"جاكوبسون" و"ديريدا" و"جوليا كريستيفا" و"رولان بارت" و"جيرار جينيت" هو مؤشر على عمق سؤال "هوية المنهج"، وبالتالي أصالة السؤال.
علينا أن نعترف أنه يستحيل على المقلد أن يصل إلى إبداعية وأصالة النموذج.. إضافة إلى ملاحظة انصراف بعض الكتابات النقدية إلى الاهتمام بما ينتجه الناقد نفسه، أكثر من اهتمامه بالأدب أو "بالموضوعة الأدبية".. مما يجعله لا يغادر أفقه التجريدي (التأويلية أو الهيرمينوطيقا كنموذج)، فعوض أن يكون النص النقدي ضوءا يصبح ظلا للنص الأدبي، وهكذا نجد أنفسنا أمام نصوص موازية تواجه بدورها أسئلة اللغة والقراءة والكتابة. سأختصر الإشكالية في المثال التالي: يمكنني أن أحب وأن أكتب قصيدة حب، لكنه لا يمكنني أن أحب عوضا عن غيري.. ولا بمشاعر وتصورات سواي.

* هناك من يحصر الحداثة في الثالوث المحرم، كما تعكس ذلك بعض الكتابات والتصريحات المتواترة في الكتب والحوارات، لكن هذا الثالوث المحرم، لم يعد كذلك، لقد خلق بدوره محرَمات أخرى عندما غدا قاعدة متواترة، أي أنه اضطهد الخيارات المختلفة إذ أصبح يقينا ومسطرة تقاس بها الأعمال الحداثية والأعمال الكلاسيكية، أو المتخلفة فكريا وحضاريا، كما يرى البعض. يقول اليونانيون: اعرف نفسك. هل يمكن الوصول إلى حداثة حقيقية بالفصل بين الكتابة والذات والممارسة الحياتية؟ أم أننا نعيش حداثة وهمية يمكن أن نسميها حداثة الناس الآخرين، أقصد أن جزءا معتبرا من الحداثة يقتات على النقل، بصرف النظر عن ماهيته وجانبه الوظيفي في مجتمع بحاجة إلى معرفة ذاته، وليس إلى تعويمها في المستورد؟
** أؤمن بفكرة أن الأدب هو قلة أدب أو انتهاك لحرمة الأدب.. علينا أن نعترف بأن الجرأة والخروج والهتك هم من سمات الكتابة الأدبية بوصفها كتابة مفتوحة وحرة وناقدة وجارحة، وبأن الثلاثي جنس - دين - سياسة يمثل وبامتياز (وبعيدا عن الفضائحية الاستهلاكية) نموذج هذه الممارسة الأدبية.. لأنها مواضيع الواجهة الفكرية والأيديولوجية والعقائدية المحاطة في مضمونها بسياج الغرابة والسرية والقمع والحظر والكبت واللذة والتحريم.. الوصاية والمصادرة.. وهي مواضيع احتجاج دائم لأنها تمثل استمرار وهيمنة سلطة أبوية وذكورية.. تماما كما يفعل قاموس اللفظ البذيء.. لمواجهة عطب ما في التواصل أو الاحتجاج.
لكن الحداثة ليست "موضوعا"، إنها رؤية ووعي وسلوك فكري واجتماعي يحمل في ثناياه مبادئ وتصورات وقيما وأشواقا منحازة للإنسان "كمنتوج تاريخي لا أسطوري". الكتابة الأدبية عموما، وإن تخلصت شكليا من بعض نماذج وأشكال التعبير، إلا أنها لم تتخلص بعد من الأسئلة الكونية ومن مرجعياتها المقدّسة في تناول هذه الأسئلة المرتبطة بالمعنى والوجود والمصير.. إذن هي لم تغتسل نهائيا من التصور الديني للوجود الإنساني ولمسار: الخطيئة - التطهّر- العودة إلى الجنة المفقودة.. مما يعني أن الغاية من وجوده تتلخص في التطهر مما ترسب فيه من طين ليكون أهلا للعودة "ميتافيزيقيا" إلى الوطن السرمديّ الموعود.. هكذا تقدم الخطابات الأدبية نفسها كأضحية على مذبح "حلم العودة"، ولنيل "جائزة المواطنة" في عالم لا علاقة له بالتاريخ وصراعاته المريرة.
بكل تلك المثالية الأخلاقية (ننسى أنه لا تزال ترتكب المذابح المريعة باسم الدين.. ويتم انتهاك الكرامة الإنسانية باسم الحرية ويتم سحق الخصوم السياسيين باسم الدولة).. لا أنفي وجود حالات "نفاق" كثيرة تختبئ وراء مزاعم الحداثة.. (كما اختبأت الديكتاتورية الثورية والشرعيات المحرّفة وراء الاشتراكية والليبرالية..).


* عن الجزائر نيوز يوم 12 - 08 - 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى