عبد الوهاب معوشي - مع سارتر..

ما ذكر سارتر إلا استذكرت عنه ومنه عبق الفلسفة، ريحها ورائحتها، تجيء الفلسفة من جوها المدني المفعم بالحرية ونوازع الانطلاق والضرب في الأرض، مع سارتر ذكريات تترى وخواطر تهمي ومعان تتشكل، ذكرى سارتر هي ذكراي في الثانوية إذ الشيخ يغدو ويروح جيئة وإيابا ملتفا على إبداعه الجديد، فكأنه مبتعث السارترية الجديدة وقائد جحافلها، أنت حر وحر وحر حتى ولم تختر شيئا، موقفا، كلاما، ذوقا، أنت حر حتى ولو اخترت عدم الاختيار، كان شيخي الفيلسوف هكذا يرفل في ثوبه الفضفاض زاعما، متزعما، مقلدا، ناسخا، مدشنا، كاذبا، واثقا، مكررا، في سمج وهيافة كان يكرر على مسامعنا المقرر السارتري غير آبه بالنقاشات الكبرى، السجالات التي ظلت تطحن المنظومة السارترية طحنا في عواصم المعنى والرمز كباريس وبروكسيل، كميونيخ وفيينا، كهافانا وليما، وكبيروت والقاهرة..
والحق الحقيق أن فضلا ليس ينكر على الثانوية وباحتها التي أسرت لنا بهذا العشق الهيامي للفلسفة وروادها المغاوير اللاهين بالعالم وأشيائه... سارتر وكيركغادر، برترائدرسل وماكيافيلي، لمبروزو وأدم سميث وماركس وغيرهم من الرفقة الطيبة المؤتمنة على خزائن الفكر وورشات التفكير...
عندما تعقبت خطى التفكير الفلسفي من بعد مرحلة الشغف بالحكمة وأنوارها لذت لي الفلسفة وراقت، هامت بي وهمت بها، كان يجب أن أفهم الغثيان والعبث، الوجود والعدم، أبله العائلة ونصه عن فلوبير، وكذلكم سارتر المعلم الجوال المنقب في أسرار الحرب السياسية، في طيب العيش والحب، في الوجودية والجاز والرجل الأبيض.. ثم سيرته في الكلمات.
لأول مرة عرفت في سارتر ومنه طعم الحياة وجماليتها على المنطق المدهش الإكستازي أن تكون كاتبا، أن تكون ملتزما، وأن تكون ناحتا من بشاعتك مصادفة اللقيا ومسرى الحنين..
تذهب مذاهب النقاد على اتجاه تفسيري أصولي موحد لسارتر (1905- 1980) إنه غريب، مفذلك أحيانا وكذوب، ومختلق لصورة عن نفسه، إنه بشع جدا ومثير الطور والسليقة، أتى حين من الدهر على سارتر تبين لنا أنه ليس سوى منمق الكلمات وكليشيهي، مسفسط، وذلك ما قاله عنه برتراندرسل (ان برتي، اختصارا للاسم الأول للفيلسوف رسل، يعتقد أنني مشوش الذهن ولكنني أعتقد أنه ساذج..) ولذلك ينفض الضالعون في الفلسفة إلى هوى آخر، هوى فلسفي مشبع بالتحليل، ومستكين لمشيئة المعرفة عكسا لهذا الفرنسي الذي عشق سيمون دوبوفوار وعاش معها عيشة المخادنة والقبح والاستزلام..
إن الأسلوب الذي كنا نتعلمه في الثانوية من الدرس الفلسفي لم يكن مطلقا مساعدا على ابتغاء محبة شيء من ترسيمة الفلسفة ومنهاجها الوافر بالانفتاح والانبثاق.. كانت المنهجية مغلفة والطريقة مقفلة على مقدمة وتحليل وخاتمة.. لكن السارترية ما جاءت إلا بهذه الوعود الزاخرة لكسر ما يجب كسره، قراءة العالم كما هو، الكائن الذي هو ليس ما هو، والذي ليس هو ما هو..)
يزح بي سارتر إلى باحة القلق منذ الاكتشاف المبكر له، منذ صبوات الثانوية، إنني أفهمه ولا أفهمه، أحب فلسفته ورؤياه وأكره بشاعته ونقمته على من هو أوسم منه، لأحمل عليه اعتزازه بفرنسيته الباذخة وتميزه غيظا من أنه ليس بريطانيا أو أمريكيا، غموضه في الحرب الفرنسية ضد الجزائر، ثم سأمه في المسألة اليهودية وخشيته على أي يهودي في هذا العالم...
نحكي سارتر، نتكلم به، نلهج باسمه، نلثغ بمقولاته لا فقط في قدرتنا على قراءته والتلبس بلحظته والانصرام إلى خطوطه الكتابية ومنحنيات نتاجه الأدبي المتفلسف لأنه تعدم فلسفة دونه تلك حقيقة بائنة، وهو يستعاد بشكل مكثف بوصفه الحارس على الهيكل القديم.
بالنسبة لجيلي أذكر سارتر بهذه النغمة والمسلك الواضحين وتراني غير متشبت بعظمته التي خلتها فيه، أيقونيته التي خلدت في الذهن وفي الخاطر من عشرين سنة فأتت أكثر، إن ايقونية سارتر ما كانت إلا في هذه الكلمة الساحرة، الخادعة، المفجرة، المقتحمة، والمسماة حرية....
قبل عشرين سنة كان أستاذ الفلسفة يمتاح من جهود الأوائل وكتاباتهم، كلمات وكلمات عن الوجودوالمعنى والكون ويعمل هذا الكولاج التفلسفي المتباين فيرهقنا ويدمينا ويسرق منا هناءة الغفوة عن العالم فكنا لا نفهم المراد والصح من ثنائية الحرية والالتزام، الوقوف مع وضد، معا ووضدا، ثم يعسر كذلك استبطان ما نرومه ونرغبه، ما نكرهه ونستلب به، إنها العشرين مبتدأ الفلسفة وخبرها، السؤال والشك، الله واليقين، العقيدة والقيامة، وها هي صورة سارتر تتراكب وتصطف في المخيلة معيدة الحساب والجردة.
هل لازال سارتر بالمعنى الاشتهائي للحياة عندما لاتكون التزاما، مدرسة، خطأ فكريا ونظرة وجودية، أجري المقارنة على زمني الرمزي، بين عشرينية الواحد وأربعينيته، كانت البارحة عشرين كما غنى المغني الجزائري، عنفوان الجسد، الاحتفاء بالقوة العشقية، الرقة والسيولة والانسياب، الماء، العذاب"
وكل ذلك كان في الكتابة السارترية ذات الروح الأدبية الزلقة مما كان يثير حفيطة الرافصين والساخطين في القارة الأوروبية الذين رأوا فية نأيا لعلموية لفلسفة وكنهها الغربي، إننا إذا احتجنا إلى ماركس في اجتماعيات الحياة وطبقاتها الدنيوية والتحتية فإننا نكون قد احتجنا أكثر إلى سارتر في فردنيتنا وعيشنا اليومي ونمط سلوكاتنا.
إن كتابة سارتر، حياته، سيرته الذاتية في الكلمات تحيل إلى جمالية منقطعة النظير ولامتثالية قائمة على حب البقاء كأفراد منقادين مسحورين إلى مضارب اللهو وأندية الدعة والفرجة..
ذلك ما لاحظته، آني كوهن سولال، في كتابها الأنيق عن جان بول سارتر..
إن فكر سارتر ارتبط بمكان ما مع نمط الحياة البوهيمي، مع تقليد الحياة في المقاهي وطغمتها، مع الأطفال الزازو"كما يسمون في فرنسا"، وتلي تفسر الفكرة بقولها "والأصل في ذلك نظام فكر فلسفي جاف والدخول إليه صعب في فرنسا الزراعية وبالكاد خرجت لتوها من سنوات الاحتلال"، إذا الأمر يتعلق هنا بالصدمة السارترية، ولنقل الموجة السارترية البديلة التي تتحدث عن الحداثة و الجاز والحب خارج مؤسسة الزواج ...
فيما يكون إبن بلكور الكاتب ألبير عاش صدمة الأرض الموعودة من داخلها منشقا يأل على نفسه فكرة الوطن الممكن تحقيقه بالتشارك مع هذا الجزائري الجلف الغليظ في طبعه وتطبعه فإن سارتر في منبره الذائع الصيت والطليق "أزمنه حديثة" كابد شقاء الجزائريين وهالته الظاهرة الاستعمارية وأجواؤها التي تفقأ الأعين وترمي بالقذى والشرر، في كل مكان وحين، وحيث المكان هو الجزائر بسهولها ووهادها وجمالها وغاباتها وبحارها وبرجالها البربر الشجعان، لقد كان من الموقعين لقضية استقلال الجزائر ضمن ما عرف بالبيان "الإعلان بشأن حق رفض المشاركة في حرب الجزائر في سنة 1960"، ومن الفضيلة القول إن السارترية الملتزمة عرفت كل هذا الزخم الثوري وتراكم العطاءات، إبان ما يسميه الفرنسيون بحرب الجزائر، لقد خرج متطرفون فاشيون إلى الشارع طالبين رأسه مفصولا، ومرتين جرى الشروع في تفجير مسكنه وهو الذي صدر لفراز فانون كتابه "المعذبون في الأرض" محققا كتابة نوعية مدمجة في نسق سياسي، توعوي ويقظ مس قضايا عديدة في العالم تتعلق بالميز العنصري والتحيزات الإننولوجية والتأويلات المبتسرة المؤسسة لأساطير محو الشعوب، لقد كانت السارترية ممجدة للغثيان والعبث والتحلل والعبثية وقد استهام بها أطفال البوبو الذهبيين لكنها حفلت بالجدل والمساجلة والصخب والحس والحسية والاندفاع...
عند هذا الشق النابض من المنطومة السارترية يا ما توقفنا تحدثنا، حلقنا الرفاق وتقاسمنا ميعة الصبا ورحمة الفلسفة... عشرون سنة مرت وأكثر على اللقاء بسارتر الذميم، القمئ، البالغ في تحرره مبلغ الالتزام الوعر أو العكس سيان، وجه من غرابات زمان رماني، العشريني أقصد أن الفلسفة وأسئلتها في القسم الثانوي ما برحت تدرس إلا بوصفها "المؤسسة" ذلك أنها مقدمة وتحرير وخاتمات، عمل رصين، متقن، جوامعي، مما يحرص عليه أستاذي الفيلسوف الصغير الذي لا زال ينط ويترنح قبالة المصطبة محدثا الجلبة متصنعا زهوا بالنفس وادعاء في العلوم لا يضاهى... كارل ياسبرس، يرتراند رسل، كفيل، إبن خلدون، ...
لكم كنا نختلف إلى المنطقة المحرمة من دائرة، الفلسفة أي نسيان الشيخ وشطحاته المدرسية والذهاب غورا إلى الفاكهة وشهوتها..
يا ما تماهينا مع شبيبة السان جرمان دي بري في أحلام اليقظة، موضة الألبسة الداكنة وتحدي الكاثوليكيين، الجاز والخف المرقط والنعل القمئ كوجه سارتر، كان سارتر قصير الهيئة، يتوسط دخانه في مقهاه الباريسي، لي دوماغو، "يحتسي جعه البرنو" ويستغرق في كتابة خطاياته الحميمة إلى سيمون دوبوفوار، صور، صور كثيرة تهاجمني، كما تهاجم الخياليين الحاملين بأرض الفلسفة ووردة الحرية وكذالكم هذا السؤال المهم عن ما تبقى من سارتر في عالم اليوم، وهل مازالت بين ظهرانينا اليوم هذه الشبيبة التي تحلم وتعيش وتنتعش في مرابع الحكمة ووسط مجانين هذا العالم الشبيه بباريس الستينيات.


ه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى