ألف ليلة و ليلة كتاب الليالي : سلمان زين الدين - محسن جاسم الموسوي ينقب في الذاكرة الشعبية لمجتمعات «ألف ليلة»

منذُ وضعِهِ، في العصر العبّاسي، لا يزال كتاب «ألف ليلة وليلة» يثير اهتمام الدارسين والنقّاد، ويلهم الأدباء والكتّاب، ويفعل فعله في الآداب العالمية التي تُرجم إليها. لذلك، لا تزال الدراسات والمؤلّفات التي تتناول الكتاب تتوالى في مختلف اللغات. ولعلّ كتاب «الذاكرة الشعبية لمجتمعات ألف ليلة وليلة» للأكاديمي والباحث والروائي العراقي محسن جاسم الموسوي هو آخر ما صدر في هذا الإطار (المركز الثقافي العربي). والكتاب هو الثالث لصاحبه في هذا الحقل، بعد أوّل تناول فيه تأثير «ألف ليلة وليلة» في نظريّة الأدب الإنكليزي، وثانٍ تناول فيه المرجعية الإسلامية لـ «الليالي»، وقد جمع المؤلف مادّته من محطّات وأماكن عديدة، خلال ترحاله بينها، وبذل فيه جهد عقدين ونيّف من الزمن، بين 1991 و2015، ووضعه في سبعة فصول وأربعة عشر جزءاً، يحتوي الفصل الواحد منها على جزءٍ واحدٍ، في الحدّ الأدنى، وثلاثة أجزاء، في الحدّ الأقصى، كاسراً، بهذه التسميات، نمطية استخدام المصطلحات في عتبات الكتاب، وتمتدّ الفصول أو الأجزاء على ستمئة صفحة، وتغطّي «ألف ليلة وليلة» من مختلف جوانبه، ما يجعل الكتاب مرجعاً في بابه لا غنى عنه للدارسين والمهتمّين.

مسرحة الحكايات

وإذا كان المقام لا يتّسع للإحاطة بكتاب بهذا الحجم، فإنّ إضاءة بعض الأجزاء من شأنها جلاء الكل، لا سيّما على مستوى المنهجية المتينة وآليّات البحث المستخدمة فيه. ففي الجزء الأوّل من الفصل الأوّل، يرصد الباحث كيفيّة استقبال «الليالي» في أوروبا والاحتفاء الكبير بها منذ قيام المستشرق الفرنسي أنطوان غالان بترجمتها إلى الفرنسية ونشرها متسلسلة بين عامي 1704 و1712. وهو احتفاء «تؤكّده الطبعات المتكرّرة بأشكالها المتفاوتة المعدّة لقطاعات متباينة من القرّاء، أو تلك التي ظهرت متسلسلة في المجلات طيلة القرن الـ18 في أوروبا...» (ص26)، وتؤكّده مسرحة الحكايات لسنوات، وقيام دور النشر بتكييف الحكايات وإعدادها بما يناسب الذائقة الغربية. ويخلص الباحث إلى الاستنتاج أن الاحتفاء الغربي بـ «الليالي»، طيلة قرن ونصف القرن، يتفوّق على الاحتفاء العربي بها، وهو يعزو ذلك لأسباب نفسية، ولبنية الحكايات التي تورّط القارىء بما يتوافر فيها من المكيدة والاستدراج، والمصيدة والشباك، على المستوى الغربي، ويعزوه إلى أسباب أخلاقية، وعقدة تضخّم الذات، على المستوى العربي.

في الجزء الثاني من الفصل الأول، يطرح سؤالاً في العنوان هو: «هل ألف ليلة وليلة نص جامع؟»، وهو يتناول وظائف السرد وتحوّلاته من خلال الحكايات، ويتبع مسار الحكاية الواحدة في الأصول المختلفة مقارنًا في ما بينها، ويرصد آليات تصرّف الرواة بالحكايات، مقارنةً بالأصل من حذف وإضافة وتغيير وتصرّف، ويبيّن وظيفة الزمان والمكان في المتن الحكائي، وهو يستنتج من الوقائع المدروسة خلاصات معيّنة، أو يبدأ بتعميمات يضرب عليها الأمثلة من الحكايات. ويلاحظ من خلال هذه الآليات: تداخل الأجناس في النص، غناه بالمفاهيم، تعدّد الأغراض والفنون الشعرية، استخدام المزاوجات التي تتولّد عنها الأفعال والأحداث، تقاطع العالمين الخاص والعام، توالد الحكايات بعضها من بعض...، ويخلص إلى القول جوابًا عن السؤال الذي طرحه في العنوان إنّ ألف ليلة وليلة نص جامع بامتياز، معلّلاً ذلك باحتوائه على خزين ثرٍّ ومتنوّع من الأجناس والمفاهيم المتداخلة، ما يمنحه صفتي: الجمع والشمول.

في الجزء الأوّل من الفصل الثاني، يتناول الدارس «صيغ الكلام وأوجه الكتابة في ألف ليلة وليلة»، فيشير إلى التعدّد في لغة الحكي وأنماط الحوار ومحسّنات البلاغة والأنواع الأدبية، واستخدام الشعر والسرد والطرفة والنادرة والتورية والحذف والتلميح والاستدعاء والتبليغ والكناية والاستعارة، وتتعدّد الخطابات وتتراوح بين الآمر والمراوغ والمغبون والمغيّب والغائب...، وهذا التعدّد، على أنواعه، اللغوية والبلاغية والأدبية، إنّما يستجيب للتعدّد في دوافع الحكي وعوامله التي تتراوح بين «الإغراء والرغبة، والغواية والخيبة، والظرف والتماجن». وفي إطار هذا التعدّد، يشير إلى علاقة جدلية بين الفعل والحكي، كلاهما يدفع بالآخر قُدُماً، ولكلٍّ منهما وظيفته داخل النص، الفعل يزاوج بين السماع والعيان ويصل بين الحكي والحكي ويضفي على النص الحركة والتنوع، والحكي يشتري الحياة ويحول دون الموت، وهو يُستخدَم بالمقدار الذي يُطوّر الحدث من دون شروح وتعليقات.

في الفصول والأجزاء الأخرى، يتناول الباحث: التعدّدية اللسانية والغناء البغدادي وبنية المتعة. الشعر وانخراطه في الأنساق المختلفة والوظائف التي ينهض بها في الليالي وعلاقته بالسلطة واللذّة والجسد. السرد في تمظهراته المختلفة لفظاً وصورةً وإثارة. المكان ومكمّلاته. الطعام في الحياة الاجتماعية وانعكاساته في السرد. المرأة وأدوارها المتفاوتة. الغلمانيات والقوادين. المدينة وتمظهراتها وأدوارها النصّية. العجائبية والغرائبية في الكتاب. الوجوه الجديدة لشهرزاد...، ويختم الموسوي كتابه الضخم الذي يبلغ ستمئة صفحة بخاتمة تقتصر على صفحتين اثنتين ونصف الصفحة، يتناول فيها الانتقال «من الحسبة إلى الخرق»، مقارنًا بين كتب الحسبة التي «تشكّل الوجه الآخر للردود المعلنة التي جاء بها ابن قيّم الجوزية وتناولها ابن الجوزي بمرونة» والحكاية التي «تشكّل عالمًا من النكاية بالتعليمات والأحكام بدربة من سكن الشارع والسوق واحترف محاورة الناس هناك» (ص594). وبذلك، تقوم الحكاية بدور تحدّي الواقع وخرق ممنوعاته ومحرّماته، وتمثّل نزوعاً إلى التحرر والحرية. وهنا، تصبح الحكاية معادلاً للحياة والرغبة في الخروج من القماقم على أنواعها.

آليات السرد

يخلص المؤلف، في الفقرة الأخيرة من الخاتمة، إلى أنّ سطوة ألف ليلة وليلة الحكائية «تكمن في هذا التناوب بين المحرّم والممنوع وبين التوق للخروج من القمقم. وهذا التناوب والصراع هو الذي يجعل المحكي مشدوداً إلى بعضه: وقراءة كتب الحسبة تشكّل المادة الخلفية التي تفسّر لنا هذا التوق إلى التحرّر الذي ينشده العفاريت والبشر خارج السجون والدور والخرائب والأنقاض والسراديب والقماقم: هذا التوق هو الاسم الآخر للحكي» (ص595).

وإذا كانت ضخامة الكتاب، بفصوله السبعة وأجزائه الأربعة عشر، أتاحت له الإحاطة بألف ليلة وليلة، سواء على مستوى المضمون أم على مستوى آليّات الحكي وتقنيّاته، فإنّ الخاتمة تبدو هزيلة شكلاً ونصّاً، ولا تتناسب مع ضخامة المضمون والآليّات، وحبّذا لو أنّ الدارس ختم الكتاب بما يلائم حجمه وأهمّيته وضمّن الخاتمة الخلاصات والاستنتاجات المهمّة التي تمخّضت عنها الدراسة، ولا يكفي تناثرها في الأجزاء المختلفة للكتاب، فهي تذوب في بحر الحكايات والتحليلات، وتحتاج إلى جهد لاستخلاصها، وهو لو فعل ذلك، لأضاف إلى الكتاب قيمة أخرى، وسهّل على الباحثين عناء البحث عن النتائج.

في كتابه، كثيراً ما يُضمّن الموسوي نصّه حكايات بكاملها ليقوم بتحليلها، ولا يكتفي بمقتبسات صغيرة من الحكايات يستثمرها في دراسته، ولعلّ هذا ما يفسّر سبباً من أسباب ضخامة الكتاب، لكنّه، في الوقت ذاته، يُضفي عليه التنوّع، ويُتيح له عنصر المتعة في القراءة. وهو، سواء أورد الحكاية كاملة أم مجزوءة، نراه يستثمر ذلك في المهارات البحثية المختلفة التي يمارسها، وهو قد يبدأ بخلاصة أو تعميم أو رأي، ويضرب على ذلك المثل بمقتبس من الحكاية أو يورد الحكاية ويقوم بدراستها وصولاً إلى خلاصات.

وأيّاً كانت آليات الدراسة، فإنّ «الذاكرة الشعبية لمجتمعات ألف ليلة وليلة» هو كتاب ضخم في حقله، تتوافر له مواصفات الإحاطة والشمول والمنهجية، ولا غنى عنه للباحث والطالب والمهتم بهذا الحقل المعرفي الذي ما برح يثير الفضول والاهتمام منذ بضعة عشر قرناً، ولا يزال، وسيبقى.



* المصدر:
محسن جاسم الموسوي ينقب في الذاكرة الشعبية لمجتمعات «ألف ليلة»

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى