عبد القادر وساط - الأصمعي يَحلم عند جسر الشماسية

كان أبوسعيد عبدالملك بن قريب الأصمعي جالسا وحده في بيته في بغداد بعد العصر، والدنيا حَر، وهو ينظر في كتاب من كتب الأدب، فإذا قطة بيضاء تقترب منه ثم تَشرع في التمسّح به، فأخذ يداعبها بيسراه وهو يتساءل كيف دخلَت البيت، ثم إذا بالقطة تكلمه بلسان عربي فصيح وتقول له:
- يا أبا سعيد، ألم تعرفني؟ أنا حمدونة بنت هارون الرشيد!
ورآها بعد ذلك تتقلب أرضا وتنتفض ثم تستوي فتاة في ريعان الشباب، فنظر إليها مليا، فإذا هي حمدونة بنت الخليفة دون سواها، فارتاع عبدالملك بن قريب الأصمعي وأيقن أن هارون الرشيد قاتلُه لامحالة حين يبلغه خبرُ اختلائه بابنته، فخرج هاربا لا يلوي على شيء، بينما الأميرة الحسناء تطل عليه من نافذة بيته وتأمره أن يعود. ولم يزل يركض دون وجهة في شوارع بغداد، إلى أن هده التعب، فمضى حتى بلغ أسفل الجسر القريب من باب الشماسية وتمدد هناك ليسترجع أنفاسَه، فلم يلبث أن غلبه النوم. ورأى فيما يرى النائم أنه قد تحول إلى حصان أبيض، وأنه يعدو بكل قوته في مروج فسيحة خضراء، تكثر فيها الغدران وتحيطها الأشجار من كل جانب. وكان خلال ذلك يسمع صوتَ الخليفة هارون الرشيد يخاطبه قائلا:
- يا أصمعي، أنتَ ما تُطاق في الشعر! يا أصمعي، أنت ما تطاق في الشعر!
كانت تلك العبارة تتكرر في مسمعه بحدة متزايدة، وهو يركض ويركض، وخلفه حصان آخر، أقلّ منه قوة، يحاول أن يجاريه في عدْوه فلا يستطيع، فأدرك الأصمعي أنه خصمه الكسائي قد أصبح هو أيضا حصانا هاربا من بطش السلطان. فلم يزالا كذلك حتى بلغا إسطبلا مليئا بالخيول فدخلاه، ثم اتجه الأصمعي إلى فرس لطيفة واقفة قرب الباب وسألها عن اسم ذلك المكان فأجابته الفرس:
- أنت الآن في أرض الفرنجة، وهذا الإسطبل تابع لقصر (أخين) الذي يقيم فيه الملك شارلمان.
فلما كان الصباح، جاء رجل يرتدي لباسا غريبا، فمرَّ بيده على الحصان الأبيض، فاستعاد صورته الآدمية في الحين، فقال له:
- يا أصمعي، اعلم أن الملك المبجل شارلمان، مؤسس السلالة الكَرُولَنْجية، يرغب في رؤيتك.
إثر ذلك اقتيد أبوسعيد عبدالملك بن قريب الأصمعي إلى قصر عظيم الفرنجة، وهو القصرالذي يسميه العرب " قارلة"، فلما أدخل عليه وألقى التحية، قال له الملك بلسان عربي فصيح:
- يا أصمعي، لقد رأيتُ في الحلم أني مع هارون الرشيد وكنت أنت حاضرا مع الكسائي فاختلفتما حول بيت طرفة بن العبد:
فسقى ديارَك غيرَ مُفْسدها = صوب الربيع وديمة تهمي
فذهب الكسائي إلى أن قوله ( غيرَ مفسدها) يدخل في باب الاعتراض وزعمتَ أنت أنه من باب الاحتراز.
قال الأصمعي:
- أيها الملك المبجل، إن ماقاله طرفة هو تتميم واحتراز، لأن المعنى لا يكتمل دونه. وأما الاعتراض
فهو ذكْر لفظ زائد في البيت قبل تمامه، فلو نحن حذفناه لبقي الكلام على إفادته. فمن ذلك قول النابغة
الجعدي:

ألا زعمَتْ بنو سعْد بأني = - ألا كَذَبوا- بعيدُ السنِّ فاني

فاعترض بقوله (ألا كذبوا) بين اسم إن وخبرها. و منه قول عوف بن محلم الخزاعي:
إنّ الثمانين - وبُلِّغْتَها- = قد أحْوَجَتْ سمعي إلى ترجمانْ
ومنه قول سوار:
فلو سألتْ سراةَ الحي سلمى = على أن قد تَلوَّنَ بي زماني
فحرك شارلمان رأسه إعجابا ماسمعه منه، ثم نادى حاجبه وقال له:
- ادفع لأبي سعيد عشرة آلاف كرولنج، وأحسن وفادته.
ثم إن الخدم رافقوه بعد ذلك إلى غرفة الضيافة، وجاؤوه بطعام فاخر فتعشى ثم نام آمنا، فلما صحا وجد نفسه عند جسر الشماسية ببغداد، وتذكر ما كان من أمره مع حمدونة، فأخذ يحث الحصى عن جنبيه وهو يردد قول لبيد:
وكل أناس سوف تَدخل بينهمْ = دُوَيهية تصفرُّ منها الأناملُ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى