عبد الوهاب الفقيه رمضان - كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

إنه صدر لبيت شعري قاله أبو الطيب المتنبي (303 – 354 هـ / 915 – 965 م) :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا = وحسب المنايا أن يكن أماني

واستعمل هذا الصدر شاعران في عجز صدر بيت شعري . قال القاضي الفاضل (529 – 596 هـ / 1135 – 1200 م) حيث يقول :

لعلي يشفيني البعاد فأنشدت = كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وقال صفي الدين الحلي : (675 – 750 هـ / 1276 – 1349 م)

يقول إذا اشتفيتُ منه بنظرة = كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

آخر درجات اليأس من هذه الحياة النكد أن يتمنى الإنسان الموت ليشفى من هذا النكد .

يصخ المواطن من عرقه ومن دمه في خزينة الدولة أملا في أن تقوم الدولة بواجباتها نحوه ، أهم هذه الواجبات توفير الأمن ، توفير الماء والغذاء ، توفير التعليم لأبنائه ، وتوفير الصحة . يتوهم المواطن أن التلميذ الذي يتعلم في مدرسة عمومية يتلقى تعليمه مجانا ، يتوهم المواطن أن من يتلقى علاجا في مصحة عمومية يتلقى هذه الخدمة مجانا . لقد دفع المواطن ثمن تعليم أبنائه قبل أن يدخلوا المدرسة ، بل إنه دفع ثمنا لتعليم الأبناء حتى وإن لم يكن له أبناء ، حتى وإن كان أعزب ، لأنه حين تقتطع الدولة من راتبه نسبة باسم الجباية أو الضريبة فهي قد اقتطعت جزء لتعليم أبنائه أو تعليم أبناء غيره ، وكذلك في الاقتطاع جزء لعلاجه وعلاج أبنائه وزوجته حتى إن لم يمرض لا هو ولا أحد أفراد أسرته . لا شيء في الحياة مجانا ، حتى علبة التبغ التي يلقيها المدخن بعد الفراغ من استعمالها لها ثمن ورقها وثمن طباعتها .. يدفع المدخن هذا الثمن ضمن الثمن الجملي للعلبة. لكن سوء الحال أن الطفل الذي يتلقى تعليما ثمنه دفع مسبقا من الضريبة التي دفعها أبوه وأمه يجد هذا التعليم رديئا على عكس تعليم المدارس الخاصة حيث يجد المتعلم فيها الرفاه على جميع المستويات ، الفضاء جميل ومريح ، المركب الصحي أنيق معطّر ، وإطار التدريس يتفانى في عمله ، والحال أن إطار التعليم هذا دوما مرتبه أقل من مرتب إطار التعليم في المدرسة العمومية ، لكن قانون الوظيفة العمومية يحمي المدرس العمومي ويتغافل عن حقوق مدرس القطاع الخاص . بعض الدول المتقدمة على غرار ألمانيا تمنع التعليم الخاص منعا باتا بنص قانوني ، وهو إجراء يحقق عدالة ، لأن المدرسة التي يجلس فيها ابن الوزير وابن الغفير على نفس المقعد يكون الوزير حريصا على جودة التعليم التي تقدمه المدرسة التي يدرس فيها ابنه ، في حين أن الدول التي فيها هذا وذاك ، بما أن المدارس الخاصة لا يسجل فيها إلا أبناء علية القوم سواء في عالم المال أو عالم السياسة ، فاعتبار الجودة تكون فيها فوق كل اعتبار . لذلك يكون عدد المنقطعين في المدارس العمومية عاليا ، ويكون مردود المدرسة العمومية هزيلا ، ولا ينجح فيها إلا المتفوق سليقة. أما مجال الصحة فهو المجال الذي يبيع فيه المستشفى العمومي الموت ، أجل يبيع الموت عوض أن يمنح الأمل في الحياة للمريض . وإن الخدمات الصحية تتدنى شيئا فشيئا في المصحات العمومية على عكس المصحات الخاصة . لكن هذه المصحات الخاصة لا تبيع الصحة وإنما تبيع الفندقة ، فأسعارها في الإقامة وأسعار البضاعة غير المتعلقة بالخدمات الصحية أسعار فنادق من صنف خمسة نجوم أو ربما أكثر . مثال واحد ، قارورة ماء معدني في السوق خارج المصحة الخاصة نصف دينار ، وفي المصحة الخاصة ثمنها ثلاثة دنانير ، أي ستة أضعاف بالتمام والكمال ، ولا تتدخل مصالح مراقبة الأسعار ، لأن مراقبة الأسعار محجر عليها مراقبة فضاءات بعينها ومنها هذه المصحات الخاصة التي تقدم إقامة فندقية من أعلى طراز لنزلائها . هذا إلى جانب من يدفع للصناديق الخاصة للتأمين على المرض . المواطن يدفع سواء مرض أو لم يمرض ، لكنه حين يمرض ويحتاج لرصيده الذي سبق أن دفعه توضع أمامه كل العراقيل ، ابرزها أن تكلفة العلاج التي يعترف بها صندوق التأمين على المرض أقل بكثير من كلفة العلاج التي تحددها المصحة الخاصة . أما لو أن المريض قرر تلقي علاجه في مصحة عامة فتلك الكارثة .

مريضة اتجهت إلى مستشفى عمومي ، وكانت إصابتها خطيرة جدا تستوجب تدخلا جراحيا في مدة أقصاها أسبوع على أكثر تقدير ، وإلا فإن التعفن الداخلي سيشمل كامل البدن من الداخل والمآل الوفاة بنسبة مائة بالمائة . ماذا فعل المستشفى العمومي ، سلمها موعدا بعد شهرين ، أي بعد وفاتها سيلحقها الدور في التطبيب . إنها جريمة القتل العمد مع سابقية الإضمار والترصد ، ارتكبتها وزارة الصحة في شخص من سلم هذا الموعد . بطبيعة الحال تكاثفت جهود العائلة لإنقاذ المريضة والالتجاء إلى مصحة خاصة بكل المصاريف الفندقية التابعة للخدمات الصحية .

اتصل أحد أقرباء هذه المريضة بالطبيب المشرف على علاجها وطلب منه شهادة تثبت حالة المريضة عند تسلمها ، ويثبت فيها مدة أمل الحياة بالنسبة لهذه المريضة لو لم تُجر لها العملية الجراحية ، تظاهر الطبيب بعدم الفهم ، فإذا القريب يكشف كل أوراقه ويخبر الطبيب بأنه يحتاج إلى هذا التقرير لتقديم قضية بوزارة الصحة موضوعها محاولة قتل نفس بشرية ، كشف الطبيب أيضا أوراقه وأعلم بأنه لا يقدم هذا التقرير لأنه لا يعقل أن يساعد في التشكي بولي نعمته ، فالطبيب يشتغل في مستشفى عمومي وفي نفس الوقت يشتغل في تلك المصحة الخاصة .

كما الطبيب لا يساعد في التشكي بولي نعمته ، كذلك المحامي لا يساعد في التشكي بزميله . شخص تحيل عليه محام ، فأرسله أحدهم لمحام آخر صديق له كي يساعده في رفع القضية ، فإذا المحامي الثاني يمتنع عن ذلك متعللا بأن أخلاقيات المهنة تمنعه من المساعدة في إلحاق الضرر بزميل له .

بين حانا ومانا فقدنا لحانا ، ذلك أن رجلا قارب الشيخوخة تزوج بثانية شابة ، فكانت الزوجة الثانية حانا كلما رأت شعرة بيضاء في لحيته نتفتها ، والزوجة الأولى مانا كلما رأت شعرة سوداء في لحيته نتفتها ، وإذا سئل عن سبب نتف لحيته أجاب : بين حانا ومانا نُتِفت لحانا ، كذلك المواطن المسكين البسيط المغلوب على أمره كلما طالب بوثيقة قد تُثبت شيئا من حقه وجد الأبواب موصدة دونه لأن القوي لا يساند ضعيفا في أخذ حقه من قوي .

يتعلل السياسي حين تعرض عليه مثل هذه القضايا بأن البلاد فقيرة وإن الإمكانات قليلة ، والحال غير ذلك ، لا توجد دولة فقيرة ودولة غنية ، إنما توجد دولة حكيمة ودولة سفيهة ، الدولة الحكيمة هي التي تصرف شؤونها بحوكمة ، كل فلس يوضع في مكانه ، وكل من يجب عليه دفع فلس للخزينة العامة يدفعه ، الدولة الحكيمة تسن قوانين تُجرّم المتهرب من دفع الضريبة ، وتشهر به ، ويصبح التهرب من دفع الضريبة عارا ، ولا تستثني أحدا ، في الدول السفيهة الفقير يدفع الضريبة ، بل تفتكّ منه افتكاكا ، فهي تُخصم من مرتبه قبل أن يصل هذا المرتب إلى جيبه ، والغني لا يدفع ، ما دام لا شيء يجبره على دفع الضريبة ، فليس ثمة ردع حقيقي وإنما هي قوانين هشة لا تضرب في مقتل . السياسي لا يدفع . لأن مكينة الفساد يحمي بعضها بعضا . الدولة الحكيمة لا تدفع أي مليم إلا بالقانون وبمعرفة سبب دفعه ، ومؤسسات المحاسبة مؤسسات حقيقية لها استقلاليتها يتساوى أمامها كل الذوات سواء أكانت ذواتا مادية أو ذواتا معنوية ، في دولة السفه مؤسسات المحاسبة تابعة لأرباب النفوذ يأتمرون بأوامرها ، وينالون رشاويهم بالحوافز والمنافع وارتفاع الرواتب ، حتى إذا أراد أحدهم ممارسة دوره كما يجب أن تكون الممارسة فهو يزاح عن منصبه بشتى الطرق ، أخفها ترقيته في دائرة أخرى بعيدة عن المحاسبة ، وأدناها تلفيق التهم إليه فإلباسه خزيا وعارا يلازمه طيلة حياته وهي حتما ستكون قصيرة ، لأن أصحاب النفوس الكبيرة ، يقتلها الضيم .

شيء رأيته في الدولة السفيهة تونس ، وزير سرق مليارا من المليمات (مليون دينار) ، والحالة ثابتة لا غبار عليها ، دعي إلى قلم التحقيق ناب عنه 200 محام في التحقيق وهو لم يحضر ، في نهاية المطاف أقفل الملف بحكم محكمة عدم سماع الدعوى ، وزير ضبطت له بضاعة في المطار مهربة لفائدته بقيمة 50 ألف دينار ، افرج عن البضاعة ومازال يحتفظ بحقيبته الوزارية .

في كتاب صدر عن الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة تحت عنوان (الفساد السياسي في العالم العربي) في 180 صفحة بتاريخ 2014.

إن الدولة التي يتفشى فيها الفساد السياسي يطلق عليها (دولة الحرامية - Kleptocracy) حيث يتم من خلال الفساد السياسي زيادة ثروة المسؤولين والطبقة الحاكمة على حساب الشعب بأكمله ، وهو ما يمكن تحقيقه من خلا نهب المال العام . ص . 4

لقد برز في العالم العربي بيئة وفرص من الفساد ، غير مرتبطة بشخص معين ، بل بجماعة أو شريحة ، كالحزب أو العائلة أو الطائفة ، ولم تتم مساءلة أو محاسبة المسؤولين عنها بسبب ضعف السلطتين التشريعية والقضائية ومؤسسات المجتمع المدني ، ومع مرور الوقت لم تعد ظاهرة عابرة أو مرتبطة بحدث معين ، ولكنها أصبحت ظاهرة ارتبطت برموز النظام وأعوانه والمقربين منه . ص . 8 . وفي تونس ألزم القانون رقم 17 – 18 لسنة 1987 أعضاء الحكومة وعددا من موظفي الخدمة العامة والقضاة التصريح بممتلكاتهم . ص . 14 . التعليق على هذه المعلومة أن القانون ليس له من معنى إلا تلك الآلة الموسيقية . فأغلب الملزمين بهذا القانون لا يصرحون بممتلكاتهم لا عند بداية الخدمة ولا عند الانتهاء منها .

إلا أن هذه المشكلة لا تكمن في النص القانوني ، وإنما في رسوخ عقلية حجب المعلومة والبيروقراطية الإدارية التي لا تؤمن بمثل هذا الحق ، بل تعتبر ذلك مسا بأسرار أجهزة الدولة الرسمية ص . 15

في الدول الحكيمة يتابع المواطن كل ما يتعلق بالتسيير في دولته يصل إلى المعلومة بكل يسر في كل شأن من الشؤون التي تخص حياته سواء بعلاقة مباشرة أو بعلاقة غير مباشرة ، أما في الدول السفيهة ، فما يخص النفاذ إلى المعلومة جاء غي الكتاب المشار إليه ما يلي :

فيما يتعلق بتقديم إقرار الذمة المالية : على الرغم من وجود النصوص القانونية المتعلقة بتقديم إقرار الذمة المالية في معظم الأقطار العربية ، إلا أن المنظومة غير فاعلة ، بسبب غياب الإرادة السياسية لكبار المسؤولين ، يضاف إلى ذلك ضعف في الإجراءات التي تلزم المكلفين بتقديم هذه الإقرارات ، والعقوبة التي تترتب على عدم الالتزام بتقديمها . ضعف آلية التأكد من صحة المعلومات الواردة في هذه الإقرارات ، والعقوبة التي تترتب على عدم الالتزام بها . ضعف آلية التأكد من صحة المعطيات الواردة في الإقرارات ، كون الجهة المعنية بالمتابعة لا تجري رقابة على مضمونها ، أو متابعة أية تغييرات قد تطرأ عليها ، فهي تفتح إلا بإذن من المحكمة وفي حالات محددة . تبني معظم الأقطار العربية مبدأ سرية إقرار الذمة المالية ، بديلا عن الإفصاح عنها ، الأمر الذي يتيح للمشاركين في الطبقة الحاكمة المسيطرة إخفاء ما يحصلون عليه بطريقة غير مشروعة ، ولا يتيح كذلك كشف حالات الانتفاع من تداخل المصالح ، ولا يتم تجنبها عندما تظهر . ص . 44

التقريري يتضمن تفصيلا أكثر ، ويكشف بواطن الفساد في الدول العربية . وما دام الحال هكذا فمن المغالطة القول ثمة دول فقيرة ودول غنية ، إنما ثمة دول حكيمة ودول سفيهة . الدول الحكيمة ليست دولا مسؤولوها من الملائكة والدول السفيهة مسؤولوها من الشياطين ، الملائكة والشياطين من البشر موزعون بنفس التناسب أو بنسب متقاربة ، إنما ثمة دول تحكمها دساتير وقوانين ، أفرادها متساوون أمام هذه الدساتير وهذه القوانين ، أما الدول السفيهة فتحكمها عقلية القبيلة . وعقلية القبيلة أنا وابن عمي على الغريب ، وأنا وأخي على ابن عمي . العصابة القبلية التي تحكم الدول السفيهة تكدس الأموال والمنافع لخاصة أنفسها ، وتترك الشعب يرزح تحت الظلم والقهر والجهل والفقر ، ولذلك يعطى لمريضة موعد بعد شهرين والحال أن الموت يترصدها إذا لم يتدخل الطب في حالتها خلال أيام قليلة . إنه القتل العمد بسابق الإصرار والترصد ، والحال لو كانت المريضة قريبة للقبيلة تخصص لها طائرة خاصة لنقلها إلى أحسن مصحة في العالم . والنفقة على أب وأم وأخ وأخت المريضة التي حكم عليها المستشفى العمومي بالقتل إصرارا وتعمدا . وبذلك في دول السفه الفقير يموت لينفق على علاج الغني ويجوع ليطعم الغني المتخم ، ويعرى ليكسو أجساد الأثرياء بالدمقس والحرير . وفي هذه الحالة يصبح معنى لبيت الشعر للمتنبي :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا = وحسب المنايا أن يكن أماني

عبد الوهاب الفقيه رمضان

كاتب تونسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى