جمال الدين علي - دخان الغليون.. قصة قصيرة

حين كانت كافتريا هافانا بالخرطوم تقدم عصير جوز الهند بنفس طعم رقصة السالسا في شوارع هافانا. ويقدم مطعم بابا كوستا النبيذ اليوناني الفاخر بنفس نكهته المعتقة في حانات أثينا. وتعزف فرقة جاز الديم معزوفة (جيني كي) أقبل الليل من ردهة مطعم الهابي لاند العائم على سطح النيل الأزرق فيطرب سكان مدينتى كوبر وحلة كوكو. و يتهادى نغم الساكس الساحر مع النيل و يصل الى الضفة الشمالية لجزيرة توتي فيرقص سكان الوابورات بالضفة الأخرى ( الرومبا). يخرج هو من صمته المهيب. يشعل نار الذكرى بفم غليونه بعد عدة محاولات فاشلة. وينفخ( أوووووف) الهواء المحبوس في صدره منذ سنوات. يذكر جديدا ذلك اليوم حين أتى من قريته البائسة في شمال البلاد مع آخر قطار بلا عودة. كان وقتها قد خلع سرواله الطويل بعد جدال مثير مع النفس وكأنه يريد أن يخلع ثوب العفة. لحظتها اقشعر بدنه واصطكت مفاصله وترنحت ساقاه النحيلتان من فكرة ارتداء شورت كاكي قصير وقميص بيج بأكمام قصيرة. فكرة ارتداء جوارب طويلة لم تستر العري المتكشف بدواخله. بعد عام من مرافقة مهندس المساحة الشاب الانجليزي الوسيم مستر هلم الذي كان لا يفارقه مثل ظله. اقتنى قبعة من السعف ثم ما لبث أن بدلها بأخرى جلدية كبيرة من محلات الخواجة فينوس بشارع فكتوريا. يومها عرج على محل الاغريقي ستافنوس فوجده يدخن السيجار الكوبي الفاخر. ويفكر في التخلص من غليونه القديم. يقول ستافنوس أن زوجته فاليا تتضجر من رائحة دخان الغليون العطنة وأن خريستو زوج صديقتها ممنين الذي يعمل نادلا بفندق الأكوروبول قد حصل على ترقية وأصبح يدخن السيجار الكوبي الفاخر في الردهة الخارجية للبيت ودون أدنى اعتبار لسكان الحي اليهودي المقابل الذين يكرهون الشيوعية والشيوعين ويعتبرون أن الثورة البلشفية التي قضت على مجدهم ماهي إلا غضب من الرب حاق ببني صهيون لاتباعهم سياسة القيصر الاقطاعية. قبل هو بالمقايضة الخاسرة التي حصل بموجبها على غليون ستافينوس مقابل التخلي عن ساعته الجوفيال العتيقة. فعل ذلك لكي يفر بجلده من ثرثرة الاغريقي العجوز التي لا تنتهي. رحل ستيفانوس لبلاده مع سياسة التأميم التي انتهجها الضباط الاحرار الذين استولوا على السلطة في غفوة من غفوات الديمقراطية الناشئة. ركله النهج الثوري الشاب على الرصيف مثل كيس فارغ فوجد نفسه مجرد كيس ملقى باهمال تحركه الرياح يمين و شمال. لأعلى ولأسفل. بين الشوارع المرصوفة المضاءة. وفي دهاليز الأزقة المتعرجة المظلمة. حسب شدتها واتجاهها تسوقه الريح. وحين تسكن ولا تهب مثل هذا اليوم يظل هو قابعا بالرصيف المرصوف المضاء أو في خاصرة الزقاق الضيق المظلم كنبت دملي كما هو قابع الآن. في السابق كان يلبس القمصان الاسموكينج من محلات الرد ستار بمجرد وصولها من مخازن أسواق انجلترا . الآن هو مفلس وعاطل عن العمل. حتى لكنته الانجليزية التي كان يتشدّق بها أمام خوجلي الترزي و هارون العجلاتي تبدّلت الى هرطقة. وأضحت كلماته تخرج بلا أي معنى واضح للحروف و التي كان يلوكها بين أسنانه كحصان سيئ الطباع. حدث كل ذلك بعد رحيل صديقه المفتش الانجليزي مستر هلم وصديقه العجوز ستافينوس. اليوم هو يرثى لحاله فلا يمكنه تقديم دعوة العشاء لصديقيه الجديدين خوجلي الترزي و هارون العجلاتي لاحتساء كوب من القهوة في مطعم فندق السودان. كما لا يمكنه أن يرافقهما الى ميدان الليق لحضور مباراة بين فريقي النيل الخرطوم والتحرير البحراوي. لا مكان له في هذه المدينة الجديدة والتي ساعد في تخطيط معظم شوارعها مع المهندس الانجليزي الشاب وقتها مستر هلم. يومها كان يسحب السلسلة الحديدية على كتفه من محطة السكة حديد وحتى شارع الطابية بلا كلل. وتبهجه نظرة خاطفة أو ابتسامة آسرة تأتي من احدى طالبات مدرسة القس كمبوني. أو من احدى الراهبات وهن في طريقهن للكنيسة الكاثوليكية بشارع كتشنر. الآن هو كيس فارغ من أي محتوى. كيس فارغ تحركه أقل نسمة هواء تحوم بالجوار حتى لو كانت تحمل بين هفهفاتها نغمة موسيقى ساكس كيني جي يعزفها فتى سوداني أسمر بالردهة الخارجية لمطعم الهابي لاند العائم بوداعة على سطح النيل. بات مثل نفخة هواء عفن تخرج من صدره مختلطة مع دخان غليون العجوز الاغريقي ستفانيوس الذي كسبه في مقايضة خاسرة فقد على أثرها ساعته الجوفيال العتيقة..

جمال الدين علي الحاج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى