عبدالرحيم التدلاوي - قراءة في المجموعة القصصية “سيرة ذاتية” لمحمد البغوري

يشعر قارئ “سيرة ذاتية “بتوتر ناجم عن الجمع بين جنسين مختلفين أشد ما يكون الاختلاف، فالسيرة الذاتية حديث عن النفس بدرجة يرتفع فيها الصدق إلى مرتبة عليا بينما القصة تعتمد على الخيال، ما يخفضه أن القصة لا يمنعها مانع من الاستفادة من السيرة والاتكاء عليها لخلق عوالمها التخييلية؛ وكثير من المبدعين يستلهمون من سيرهم الذاتية لكن ذلك لا يسقط نصوصهم في التقريرية التاريخية التي تهدف التدوين والتسجيل لمحطات من حياتهم.
ومثل هذا الفعل يمكن عده شجاعة أدبية خلاقة، لكونها تسعى إلى اكتشاف أشكال جديدة، برموز جديدة، وتطرح نماذج جديدة بهدف تقديم عوالم مغايرة تمكن المبدع من كشف ذاته في الوقت الذي يكشف واقعه، والحديث بجرأة عن هذا الواقع بإبراز تناقضاته، وفضح ممارساته.
فأكثر الأعمال الأدبية تدل على ذاتية كاتبها، كما نعرف بأن هذه الذاتية تختفي وراء الشخصية القصصية. بيد أنه ليست كل قصة صورت حياة صاحبها تعد ترجمة ذاتية له. يقول جورج ماي: ما يميز موقفنا عند قراءة سيرة ذاتية عن موقفنا عند قراءة رواية أو قصة، ليس كون الأولى حقيقية والثانية خيالية، وإنما كون الأولى تظهر لنا في لبوس الحقيقية والثانية في لبوس الخيال.
تتخذ نصوص المجموعة من السيرة الذاتية منصة لمتابعة الواقع في تموجاته، ترصد تناقضاته، وتكتب مفارقاته، من خلال رؤية ثقافية يعد الكتاب أهم مقوماتها، فالملاحظ أن النصوص تمجد الكتاب وتعده الوسيلة الطيبة لاكتساب الثقافة، وتعزو انحدارنا إلى غزو الوسائل التكنولوجية بجميع أشكالها، وبخاصة التلفزة. إنها نصوص عبارة عن لوحات قصصية تسمح للسارد بالتفكير في واقعه، وفسح المجال ليتأمله من جوانب مختلفة بغاية الكشف عن خلله، وأسباب انتشار القبح فيه، بفعل تناقضاته ص31. يقول نوري الجراح قريبا من هذا الطرح: هل‭ ‬نحن‭ ‬إلا‭ ‬أسرى‭ ‬نموذجيين‭ ‬لتطور‭ ‬تكنولوجي‭ ‬مهول،‭ ‬مذهل‭ ‬في‭ ‬سرعته‭ ‬وصوره‭ ‬المدهشة،‭ ‬بحيث‬ لا‭ ‬يترك‭ ‬لمنتجيه‭ ‬ولا‭ ‬لمستهلكيه‭ ‬فرصة‭ ‬للتأمل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخسره‭ ‬الإنسان‭ ‬جراء‭ ‬هذه‭ ‬ الاندفاعة‭ ‬المخيفة‭ ‬في‭ ‬العوالم‭ ‬الموازية‭ ‬وقد‭ ‬استلبت‭ ‬الإنسان‭ ‬وتسلطت‭ ‬عليه.
ومنح الكتاب الأهمية القصوى يتجلى في حضوره على مستوى بعض عناوين النصوص، وعلى مستوى تردد مفرداته في ثناياها.. إن القاص ينتصر للكتاب ولفعل القراءة، ويجعل هذا من بين أساسيات الاهتمام، معتبرا أن فتنة الكتاب هي الفتنة الكبرى، لكنها فتنة ممتعة وهوس بديع يُرضي المصاب به؛ كما نلمح اهتمام الكاتب بالكتاب والقراءة كفعل يدير رحى إنتاج المعرفة، لهذا جاءت أغلب النصوص تتضمن الإشارة إلى هذا الشأن، مثل نص “المقهى والكتاب”، نقرأ: “..إنه كتاب ممتع أخذ بلب عقلي منذ أن لمسته يدي البارحة، وأنا أركز عيني في مقدمته التي فتحت شهية مواصلة اختراقه وفض ما بين حروفه من بذور الإمتاع والمؤانسة…”(ص21) إن السارد يحاول أن يبلغ إلينا إحساسه الدافئ وولهه بالكتاب ككيان له عوالمه، ويصف لنا الشعور القائم في الحيّز المتموضع بين قارئ شغوف بالقراءة والكتاب، والكاتب مدرك جيدا تلك القطيعة التي أُوجِدت بين أغلب أفراد المجتمع والقراءة، على اعتبار أن فعل القراءة يحتاج إلى مجهود ذهني وتركيز خاص، وتهييء طقوس وتخصيص الوقت والمال، وقد اعتنى الكاتب البغوري ضمن هذه المجموعة بهذا الشأن، ونبّه بشكل غير مباشر إلى أهمية هذا الفعل الحضاري بل ويحاول من خلال هذا الإنتاج الأدبي أن يُحبِّبَ الناس فيه عبر توظيف إحساس القارئ الشغوف – ضمن النص- أمام جاذبية وجمال الكتاب، وما يحققه من إمتاع ومؤانسة… ثم يقول في نص “فتوى الكتاب”: “شعور أهداني إياه هذا الكائن الأسطوري العجيب الذي تسميه الحضارات والشعوب بـ”الكتاب”. وفي النص نفسه يصف قلق السؤال الذي يزعج السارد بما يتعلق بقيمة الكتب ورحلتها الزمنية والمكانية وتاريخها الحضاري، وحالها في هذا العصر الملوث بلعنة التقنية الحديثة التي شنَّت هجومها الكاسح على الثقافة الإنسانية عموما. مما يجعلنا نفهم أن علاقة الكاتب بالكتاب تتجاوز حدود القراءة إلى الانشغال والاهتمام بوجود الكتاب ومستقبله وأهميته ومقارنته بما استحدث من آليات أخرى توفر سبل القراءة أيضا، لكنها لا توفر نفس المتعة العميقة…
والجمع بين السيرة الذاتية والقص كان بهدف منح شرعية للسارد في التأمل، وقراءة تفاصيل الواقع؛ فالنص الذي منح المجموعة اسمه، لا نجد فيه تدفقا في الفعل إلا قليلا، وبدل ذلك نجد بروز فعل التفكير والتأمل، إذ الأفعال قليلة، والحركة، بالتبعية، جد بطيئة، حيث منحت مساحة واسعة لذكر أشياء العالم المشاهد بالتفكير فيه: عادة تسكنني منذ أن تفتحت بواطني على كل ما يشتهيه وجداني من متع السفر وفلسفة المدن الأخرى بفضاءاتها المتعددة: شوارع، ساحات، مكتبات، حدائق، أسواق، مطاعم، مقاهي، بنايات، تأبى الهندسة والترتيب..وجوه آدمية بقسمات تختزل الأعمار والأحاسيس والتطلعات..أشياء كثيرة..إن المدن بقايا التاريخ والذاكرة تشهد إسهام وبصمات أناس عاشوا حيواتهم، وقالوا كلمتهم، وفرحوا لاحتفالاتهم، وفرحوا لأحزانهم، وجالسوا موائدهم يأكلون ويشربون، راقصوا صغارهم، وانخرطوا في أيامهم ولياليهم، غير عابئين بأقدار الزمن وصعقاته.. ص 44، فالسارد يصف، يعدد، ويفكر في الآن ذاته.. في هذه القصة نجد حكيا عن سفر السارد نحو مدينة أخرى بحثا عن سيرة فيلسوف وشاعر فضل أن تكون غفلا من عنوان محدد. إنه سفر من أجل البحث والمعرفة، وإنها قصة الرحلة والكشف والبحث والصداقة، وهي العوالم التي تؤثث سيرة السارد، وهي سيرة تتقاطع مع شغف الكاتب بالذاتي، واتخاذه منطلقا للتخييل والكتابة، كما تتشكل من تيمات أساس في نصوص محمد البغوري: الرحلة والسعي إلى الكشف والبحث عن الغريب والجديد والمدهش.
والبين أن المشاهد الوصفية تأخذ حيزا أكبر على حساب السرد الذي يضمر، ولا يستعيد أنفاسه إلا بعد كل مشهد، فتأتي الحركة بطيئة توافق رغبة السارد في الوصف والتأمل. والدليل على هذا الطرح الأفعال التالية التي تخللت المشاهد المرصودة بالعين الداخلية والخارجية: استيقظت، خرجت، تناولت، قطع، وهي الأفعال الأساسية والمعبرة عن الحركة. وتأتي تلك اللوحات كاستراحات طويلة النفس رغم صغر الزمن وضيقه؛ إنها فسح لعرض الأفكار، وإظهار التناقض، وخلق مسافة لتأمل المكان والشخصيات. وفي أحيان كثيرة يصير الفعل في لحظة الصفر، لصالح التذكر والحديث عن النفس وما تختزنه من محبة لمبدع محدد، معروف باسمه وأعماله وموقعه، كما في نص “أديب في بيتنا” ص48، أو يكون النص بكامله حديثا عن مزايا عنصر ما، كالحمام، مثلا، بوصفه والحديث عن أبعاده ومزاياه، وأسباب الاهتمام به والعناية به، نص “الحمّام” ص 52.
ومن بين اللوحات المشهدية، أو الصور القصصية، هذه الصورة المعبرة عن امرأتين في خيمة، في قصة “فرجة الموسم”ص 27 تنتقل كاميرا الكاتب لتلتقط صورة قصصية لخيمة صغيرة داخل فضاء سوق من أسواق القرى، بما تعج به من أشياء مألوفة، لكنها تصير من خلال الصياغة السردية غريبة تثير اندهاش المتلقي الذي يساير دهشة السارد، وهو يقف عند محتويات الخيمة الصغيرة، ويصف كل عنصر منها وصفا دقيقا. وبهذه الشاكلة يحرك مخيلة القارئ ليتصور ما سيجري بين المرأتين: المرأة التي أسرعت للوقوف عند باب الخيمة، والمرأة الخمسينية صاحبة الخيمة، والسارد الذي ينزوي راصدا ما يجري، وما يراه أمامه، وهو لا يني يتأمل ويطرح أسئلة انبهاره واندهاشه بعوالم الخيمة، وعوالم السوق اللامتناهية. وهكذا تحفز هذه الكتابة ذهن المتلقي وتحرك خياله ليكمل قصة الشخصيات الثلاث في هذا النص. وهذه استراتيجية سردية تستند إلى الإشارة والتلميح، وتتعمد إثارة أحاسيس القارئ وملكاته التخيلية.
فالقاص صار شبيها، والحالة هذه، بشاعرنا القديم، عروة، الذي وزع جسمه في جسوم كثيرة، فضمير المتكلم السائد يؤكد على أن القاص هو الواحد الجمع، هو المفرد بصيغة المتعدد، يقاسم كل شخصياته همومها وانشغالاتها، أفكارها ومواقفها، رؤيتها وفلسفتها، إنه لم يختر التي تغايره بل تلك التي تماثله. وبذلك تصير منطلقا نحو قراءة ملامح من “سيرته” مبثوثة متشظية في صور الشخصيات الأخرى التي تعد مضاعفات لذات الكاتب ومرايا يرى فيها حقيقة نفسه وخبايا فكره وعصارة تجربته. ومن ثم، فإن هذه الصور اشتغلت بالقرين أو الشبيه، أكثر مما ركزت على المختلف المتميز عن الذات.


* عن الموجة الثاقفية
قراءة في المجموعة القصصية "سيرة ذاتية" لمحمد البغوري | عبدالرحيم التدلاوي - الموجة الثقافية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى